يرى عالم النفس السويدي كارل غوستاف يونغ بأن الحضارة البشرية «هتاكية»، والهتاك هنا فعلٌ قريبٌ من التلصص و«البصبصة»؛ بمعنى أن البشر مفتونون بالتعرّف على أسرار الآخرين. في المعتاد، تكون تلك الأسرار مرتبطةً بأشخاصٍ معروفين ذوي قيمةٍ اجتماعية خاصة أو مبدعين، من هنا حققت –وما زالت- كتب السيرة والحياة نجاحاً كبيراً. لذلك ليس مستغرباً البتة أن نجد من بين الكتب الأكثر مبيعاً كتباً حول حياة أينشتاين، أو غاندي، أو غسان كنفاني ومحمود درويش. ذلك أن كثيرين يعنيهم أن يعرفوا ماهية الشخصية خلف هذا النجاح. في العصر الحالي وهو عصرٌ مرتبطٌ بالشهرة الوهمية والسوشال ميديا، وعدد «المتابعين»، لم يكن مستغرباً أن نجد برنامجاً يؤرّخ للحياة اليومية للـ Make up artist (أو كما تسمى عربياً خبيرة التجميل) ومقدمة البرامج جويل ماردينيان ضمن برنامج «جويل بلا فلتر» الذي تصنعه وتقدّمه شبكة «شاهد» السعودية. ربما تريد شبكة «شاهد» تقديم مثلها الخاص للأنثى التي تريدها؛ تشرح لنا مادرينيان كيف أن هذا البرنامج كان حلماً بالنسبة لها، وكيف أنها كانت تفكر في الموضوع منذ مدةٍ طويلة. ما لم تشرحه لنا خبيرة التجميل اللبنانية، ماذا يمكن أن تعني حياتها وتجاربها الخاصة للجمهور العربي. بالمنطق، ماذا فعلت جويل ماردينيان كي تستحق أن يتابع المشاهد حياتها اليومية، وتفاصيلها الخاصة؟ هي تقول بأنها تريد أن «تدعو الجميع كي يتشاركوا معها قراراتها المصيرية وتجاربها الجيدة والسيئة». بالمنطق أيضاً: لا يوجد ما هو مشترك بين المشاهد وبين حياة ماردينيان الخاصة. فعلياً: من في الشارع العربي من أقصاه إلى أقصاه، يمتلك هذا القدر الهائل من المال الذي يظهر في البرنامج؟ من لديه حياةٌ «مشمسة» إلى هذا الحد من «الخلبية»؟ مسابح، مطاعم، منازل فارهة، شواطئ باذخة، حفلات فخمة، رحلات، عواصم عالمية. كل هذا ضمن برنامج مدة حلقته قرابة أربعين دقيقة: ما الذي تريد ماردينيان قوله في هذا البرنامج فعلياً؟ لا أحد يعلم سوى التباهي بالمال الذي تمتلكه لربما. تحكي لنا ماردينيان عن حياتها غير الاعتيادية: هي بالطبع حياة غير اعتيادية. حياة يتمنى أن يعيشها معظم المواطنين العرب، ولا يستطيعون.
تحكي جويل مع أولادها باللغة الإنكليزية في منزلها، هذا ليس استلاباً نهائياً، ولا تقليداً للغرب، هذه هي «الحضارة» حسب الظاهر عندهم. طبعاً من سمات الحضارة اليوم أن تكون multilingual أي متعدد الألسنة واللغات، وفي هذا لا مشكلة، لكن أن تستعمل اللغة باعتبارها دليلاً على «التفوّق» و«الغلبة» كما يشرح صمويل هنتنغتون في «صراع الحضارات»، فتلك هي المشكلة. لا تهتم جويل بهكذا أمور معقّدة، فهي تستعمل الإنكليزية كونها الأسهل على ما يبدو. إنها لغة «الكول» و«الكاجوال» وإن ظلت تمرر كلماتٍ باللغة العربية، لتشعر المشاهد بأنها لا تزال تتقن نطق اللغة الأم أو حتى الإبنة التي مثلاً لا تنطق العربية حتى في حديثها عن «معلمة اللغة العربية». الديكورات في المنزل الذي تقيم فيه جويل تشبه الديكورات التي يراها المشاهد في المسلسلات التركية أو تلك التي تظهر في اعلانات للمنازل الفارهة، وفي هذا لامشكلة، هذا حقها إن كان هذا بيتها الذي تعيش فيه. علماً أن حالة فقر مدقع تعيشها المجتمعات العربية؛ حتى في السعودية كمثال على دولة بترولية ثرية، هناك ما نسبته 12.3 من الفقراء بحسب احصاء جرى في العام 2017 للبنك الدولي، وهذه النسبة في ارتفاع منذ ذلك الحين بسبب أزمات البترول وارتفاع ضريبة الدخل السعودية وسواهما.
في الوثائقي الواقعي هذا كل شيء «مهفهف»، هي، زوجها، أطفالها، يرتدون ثياباً مدهونة، لا تتسخ، كما لو أنّهم في «عرض أزياء واقعي». هذا يطرح أسئلة فعلياً إن كانت هذه حياة حقيقية. حتى مشاكلهم لا تشبه حياة الناس العاديين أو حتى الطبقة المتوسطة: مثلاً في الحلقة الثانية، المشكلة الكبرى هي أنّها تريد تبني ببغاء فيما زوجها وابنتها لا يريدان. فعلاً هذه مشكلة حقيقية وتؤثر في مصير وحياة الناس بشكلٍ قاتل. هي المشكلة نفسها التي تواجه الفقراء في لبنان مثلاً في إحضار دواء مفقود، أو شراء مازوت لا يستطيعون تأمينه، أو حتى في تأمين نصف كيلو من اللحمة لا يستطيعون تحمل كلفته. لربما ما قد يراه كثيرون في هذا النوع من البرامج أنه ترفيهي ومسلٍّ كما لو أنه مسلسل تركي أو شيء «وهمي/ خرافي»؛ لكن جويل تريد أن تخبرنا بأن هذه هي حياتها. باختصار، فعلياً، هو برنامج وثائقي مكمل لما كانت جويل ماردينيان تقدّمه سابقاً، برنامج «تجميل» هذه المرّة لعالمٍ بأكمله، عالمٌ وهمي ربما تعيشه هي وعائلتها، وهو يصدق المقولة الشهيرة –وإن معدّلة-: ساعتها يصلح العطار ما أفسده الدهر: بضربةٍ واحدة.