تنشغل بعض الأعمال الدراميّة بإعادة تقديم تيمة فنيّة معينة، وإعادة اكتشافها داخل ثقافة مُختلفة وهويّة بصريّة مُتفرّدة على المستوى الوظيفي في خلق شخصيّات تنتمي إلى بُعد اجتماعي وأدبي ذي خصوصية على المستوى الداخلي لكنه مُتماثل على مستوى الشكل الخارجي، فتيمة مثل فكرة الرجوع بالزمن وخلق أكوان موازية بشخصيّات مختلفة لإعادة خلق اللحظة والتأثير على سريان الأحداث المستقبلية؛ موجودة منذ زمنٍ بعيد سواء على المستوى الروائي الأدبي أو السينمائي البصري، حتى على المستوى المحلي. أفلام مثل «طير أنت» (إخراج أحمد الجندي ـ 2009) قد حقّقت مُفردات الشكل والنوعيّة، وخلقت التيمة ذاتها مع بعض الاختلافات الداخلية. بيد أن المُفارقة هُنا لا تقع في التيمة، بل في كيفيّة تناولها على المستوى الداخلي، فالفكرة العامة والقلق الوجودي يجمعان الأفكار كُلها داخل التيمة كنموذج أكثر شمولية، لكن الامتداد الداخلي للخطوط السرديّة والتفرّد على مستوى الشخوص، إلى جانب تصاعد سرديات جانبية وعقد ثانوية تخص كُل شخصيّة على حدة، هو ما يخلق دراما من نوع آخر. دراما تتعلّق بالشخصيّات أكثر منها بالمحيط الخارجي، لأن الشخصيّات هي مُفتاح العالم الخارجي، والدراما هُنا انتقاليّة، تعوّل على الشخصيّات لتحريك السرد في مسافة نوعيّة، فالشخصيّات تتحرك في رحلتين: رحلة خارجيّة قصيرة المدى، تشتبك مع العوالم الموقتة بشكل مُباشر، وتكتسب قيمتها من فرادة العالم والشخصيّة، في ما يُسمى بإعادة تعريف للذات، خصوصاً بأن الذاكرة مبتورة تبدأ مع انتقال البطل إلى العام، فيحاول اكتشاف ذاته اعتماداً على المُلاحظة والتجربة والمعرفة المُباشرة. وهناك رحلة أخرى داخلية بعيدة المدى، تتعرّض للذات على المستوى الداخلي، تلجأ إلى الأدوات والمميزات قصيرة المدى التي يمنحها كُل عالم مواز للشخصيّة لتكوين انطباع عام وإنشاء مفهوم جامع للحكاية، بحث تُعيد الشخصية اكتشاف ذاتها وتعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى على المدى الطويل. والحقيقة وجود هذه المُفردات في أعمال أخرى قديمة غير قابل للنقاش، لكن التسلسل الدرامي، والوسيط الممتد في نمط الـ 15 حلقة لهما مُتطلّبات مُختلفة، فالإيقاع والجو العام لا يُمكن أن يحملا هذا النوع من السرديات. يجب أن تكون الكتابة مُكثّفة في الإطار الكوميدي، حتى يُصبح لكُل شخصية عالمها وقصّتها الخاصة المثيرة، وفي الوقت نفسه يجب أن تأخذ السرديّة براحها وتمتد في مفازات جديدة لتشد المُتفرج الذي شاهد مُنتجات إبداعية موازية لهذا النوع، لهذا فالتحدي هُنا كان يتجاوز الشكل النمطي ليصل إلى العُمق. يدور مسلسل «الصفّارة» حول شفيق (أحمد أمين) الذي يسرق صفارة الملك توت عنخ آمون حتى تتسنّى له العودة بالزمن إلى الوراء لمدة ثلاث دقائق فقط يُغيّر فيها مصيره، وبعدها يرتد إلى الحاضر مرّة أخرى ويكتشف التغيرات الناتجة عن الأفعال التي غيّرها في الماضي. وعلى إثر ذلك يدخل في مغامرات ويتلبس شخصيّات بخلفيات وثقافات مختلفة. أخرج المُسلسل علاء إسماعيل وشارك في كتابته خمسة أشخاص في ورشة كتابة ثُلاثية (سارة هجرس، وعبد الرحمن جاويش وشريف عبد الفتاح) تحت إشراف أحمد أمين والكاتب محمود عزّت. نجحت المجموعة في إنتاج شكل درامي مُكثّف ومناسب لمسلسلات الـ 15 حلقة، فالحكاية بين الشد والجذب؛ ليست مُطاردة بالعنفوان السينمائي الجارف والدقائق الخانقة للمنتج الفيلمي، بل توفّر لها الدراما المساحة المناسبة لإعادة اكتشاف مناطق جديدة، ومزجها بهويّات ثقافية واجتماعية مختلفة، من السهل الاشتباك معها. وهذا يرجع إلى بساطة الحكاية، خصوصاً أنّها تتعاطى مع جانب كوميدي يعتمد على الشخصيّات في إخراج الضحكات، ومدى تناقض شخصيّة شفيق الحقيقية مع الشخصيّة الجديدة التي يتلبّسها في عالمٍ موازٍ آخر.
رسالته تميل في مضمونها إلى التنمية البشرية؛ مفادها الرضى بالقدر والمصير

تتحول امتدادات مُسلسل «الصفّارة» إلى كوميديا حداثيّة، تنبثق وتتوزّع في ممرات متعددة، لتُعيد طرح السؤال ذاته من زاوية مُختلفة، وفي كُل مرّة يعود بها إلى الوراء؛ يشعر شفيق أنه المسؤول عن تحقيق مصيره وصناعة مستقبله، يمتلك الكثير من الخيارات التي توفّرها الصفّارة. الأمر أشبه بالرفاهيّة الحداثية التي توفرها بعض المجتمعات على مستوى الخيارات، بُعيد تقديمها المُسلسل في نمط خُرافي، يرتبط أكثر بالأسطورة، ويخلق مدخلاً حداثياً للقصّة على مستوى التفكيك. ليس ذلك فقط، فالمسلسل ذاته يتعاطى مع موتيفات حداثية، مثل منصات التواصل الاجتماعي، ويُظهر العداوات المتخيّلة وكيفيّة خلق الترند ورفع التفاعل، بيد أنه يقع في فخ الخطابة في نهايته. يمنحنا رسالة أقرب إلى الشكل الأولي المُباشر، تميل في مضمونها إلى التنمية البشرية؛ مفادها الرضى بالقدر والمصير، رُبما لأن الدراما التلفزيونية تستهدف شريحة واسعة من المُشاهدين، ما يُبرر حضور تلك النبرة الخطابية في الحلقة الأخيرة، ولكن على الناحية الأخرى، يختار المُخرج إخضاع بطله لخاتمة أكثر منطقية، غير سعيدة لكنها مرضية على أكثر من مستوى، ليقفل السرديّة ويصدّر رسالته بشكل ذكي ومُتفهم لطبيعة المُشاهد والبطل.
تفرّد المُسلسل بشخصيّاته. شفيق حمل المسلسل كله على كتفه إلى جانب أخيه وجيه (طه دسوقي) الذي أضاف إلى المسلسل طابعاً كوميدياً ساخراً وشخصيّات ثرية شاركته الرحلة، لتعمل كذاكرة منفصلة لشفيق الذي لا يتذكر أي شيء فور وصوله إلى عالم جديد. ومن خلال المواقف الكوميدية مع أخيه وجيه، يتّضح له الموقف. يعمل وجيه كذاكرة لأخيه، كما يعمل أبوه (محمود البزاوي) كذاكرة حميمية لا نهائية بالنسبة إليه، تتلقّفه وتُرشده بحكمة في المواقف الصعبة، بالإضافة إلى شخصية حبيبته شيرين (آية سماحة) وصديقه السَمِج علاء (حاتم صلاح) وأمه وداد (إنعام سالوسة). تضافرت كُل الشخصيّات لتجعل من شخصيّة شفيق مألوفة بالنسبة إلى المُتفرج، لتبني مع مرور الحلقات نوعاً من الاتصال والألفة الإيجابية، على المستويات كافةً، فالتغيّرات والأشكال المُختلفة تضمن على الأقل فصولاً من الضحك، لأن الانتقال بين الشخصيّات يمنح ديناميكية حتى على المستوى العاطفي لنتشارك مع شفيق ونتورط في مشكلاته، فنحن جميعاً مهووسون ومؤرّقون بالفرص الضائعة. الحيوات التي لم نستطع عيشها بسبب قرار حميمي متهوّر أو حتى تقدير حكيم للأمور. ومن تلك الفكرة تنطلق السردية وتتحرك بين الداخلي والخارجي، بين ما هو متاح، وما يُمكن أن يُتاح، بين ما هو متحقق، وما يُمكن تحقيقه، بين الموجود والأحلام والهواجس اللانهائية.

مسلسل «الصفّارة» على منصة «شاهد»