إذا نظرتُم إلى احتفالات تكريم المبدعين التي تُقام هنا وهناك في البلد، فهي احتفالات مبنية على خلفية ما قدّمه التلفزيون الرسمي من أشخاص وفنانين وعمالقة ثقافة حقيقيّين نستعيدُهم من خلال هذه الشاشة الأمينة التي تنظر إليها قلّة من الموظفين المتذبذبين على أنها باب رزق شرعي، وغير الشرعي «أفضل»، فيما معظم الموظفين أرباب عائلات، وأصحاب مهنة واحتراف وجدارة وتضحية. وهؤلاء كانت أخلاقُهم المهنية تمنعهم من اتخاذ أي خطوة سلبية تجاه الإدارة التي كانت، في الأغلب ديكتاتوريةً، وفي الأقلّ، منطقيةً وتعطي لكل ذي حق حقّه. وصبَرَ الموظفون صبْر أيوب على كل ما ارتُكِب في حقهم طوال السنوات العشر الأخيرة، مِنْ تَرْكٍ في مهبّ القرارات الإدارية «الداخلية» الظالمة، ومن تهاون لا يُطاق من قرارات «خارج» المبنى.
أرشيفه أغنى وأوسع أرشيف في العالم العربي
أنا ابن تلفزيون لبنان منذ مشاركتي في برنامج «استديو الفنّ» عام 1974 ونَيلي جائزة الشّعر الغنائي، ثم إعدادي وتقديمي لبرامج عدّة آخِرُها المستمر منذ ستةَ عشَر عاماً إلى اليوم «مسَا النور». وعملتُ في محطات لبنانية وعربية كثيرة في الإعداد وأحياناً في التقديم، أقول إن مساحة الحرية في التحرّك والأسئلة والمواضيع والشخصيّات كانت الأوسع والأشمل في تلفزيون لبنان. لم أتعرّض لمضايقات إلّا … من «أصحاب موقع» في التلفزيون لا أصحاب عقل ثقافي يفهم متطلّبات البرامج الثقافية، فكانوا يتدخلون في هذا الاسم أو ذاك فيعبّرون في النهاية عن جهلهم لا عن ثقافتهم في تقييم بعض ضيوفي. المهم هنا هو الحرية، والراحة في العمل. لم أجد أكثر ذوقاً وأخلاقاً واحتراماً وتفهّماً أكثر من موظفي تلفزيون لبنان الذين كانوا يندفعون لخدمة ضيوفي بما ليس من «اختصاصهم». إيمانهم بمؤسسة تلفزيون لبنان التي يعملون فيها، ويُطعِمون عيالهم من مالها، وروح الإيثار التي عندهم تدفعهم ليكونوا أبراراً بالفعل لا بالوصْف في خدمة تلفزيونهم. هؤلاء هم بالضبط. هؤلاء هم الذين صبروا على التأخر في إعطائهم ما يستحقون ولسان حالهم يقول كما قال لي أحد أشرف الموظفين وأكفأهم يوماً «بدنا نتحمّل يا أستاذ... هيدا بيتنا.. وما حدا بيترك بيته يخرَب».
أعرف حساسية وزير الإعلام زياد مكاري من تعيين «حارس قضائي» في إدارة التلفزيون الرسمي بعد تجربتين فاشلتين جدّاً لم تُنجبا إلّا زيادة التوتر السياسي والمهني والإداري مع الموظفين. كما أعرف عدم قدرته على تشكيل مجلس إدارة جديد يتطلّب قراراً من مجلس وزراء أصيل لا يكتفي بتصريف الأعمال. لكنني أشهد للحق لا للمسايرة أنه يبذل جهوداً استثنائية من أجل وضع سِكّة إدارية جيدة تستقطب الموظفين وتريحُهم في مهنتهم، «ولو رجع الأمر لتَوقيعي أنا لأنهيت الموضوع المالي العالق منذ سنة، في ربع ساعة، لكنها تعقيدات البلد التي سأتغلّب عليها» كما قال لي مرّة الوزير نفسه.
إنها أزمة، لكنها لن تطول، وظنّي أنها ستكون امتحاناً للجميع، لكي يُعاد إلى تلفزيون الدولة بعضٌ من حقوقه، ويُعيد الموظفون انتظامَهم، وتعود عجلة العمل لا إلى سابق عهدها القريب والخالي الوفاض مالياً، بل إلى سابق عهدها الجميل الذي كان...