في توشيح «رمضان أهلاً» الذي جدَّدَه وأطلقه أخيراً الفنان اللبناني هياف ياسين، ثمّة تضفيرٌ أخّاذ للأبعاد والأمداء الروحية، والحسّية، والتقنية، والجمالية، والموسيقية المشرقية-العربية الأصيلة المتجذّرة وغير المنسلخة عن روح العصر وتلاوينه. هكذا ينفذ ما صفا من بريق التقاليد الموسيقية الرمضانية إلى القرن الحادي والعشرين ومسامع الجيل الجديد، مُتكثِّفاً هذه المرّة في ومضةٍ توشيحية مميَّزة. يصطبغ الأداء بالخشوع احتفاءً، ويتّسم بالفروهة، ويخضّب متعة الإصغاء. ويتلمّس المستمع المكوّنات الإبداعية والعناصر الخصبة للعزف والغناء التراثيَّين التأويليَّين. إنه أساساً توشيحٌ شامي قديم كما يؤكّد هياف ياسين، اشتهر كإنشاد صرف بلا أيّ مرافقة آلاتية (حتى القرعية والإيقاعية منها) بأصوات الكبار أمثال توفيق المنجّد (1910-2000)، وحمزة شكّور (1944-2009). واستناداً إلى قالب التواشيح، فلَهُ «مذهب» (لازمة) ثابت التلحين، موقَّع دَوْريّاً على ضَربٍ إيقاعي معيّن، ويُؤدَّى بأصوات كلّ البطانة (أي الجوقة)، لتتواتر في ما بعد، مع سلسلة من «الأغصان» (المقاطع)، التي تؤدَّى ارتجالياً بشكلٍ منفرد.

هياف ياسين: انتابني شعورٌ للوهلة الأولى كأنّني أستمع إلى ترنيمٍ كنسيٍّ سرياني أو روميّ

إضافةً إلى أنه معتّق وأصيل بلحنه الآسر، فإنّ اللافت في هذا التوشيح وفقاً لشرح ياسين ورؤيته أنّ الدورة الإيقاعية الخاصة بمذهبه مُحيّرة جدّاً: «يبدأ الميزان خُماسياً، ليُستكمل سداسياً، فخماسياً مجدّداً، فرباعياً، فثلاثياً، فخماسياً من جديد، وهكذا دواليك... فانتابني شعورٌ للوهلة الأولى كأنّي أستمع إلى ترنيمٍ كنسيّ جَماعيّ سرياني و/ أو روميّ. إذ يستطيع المتلقّي أن يشعر بوضوح بزخّات الألحان القديمة المتعاقبة في هذه الأرض الشامية، وأن يُدرك مدى تداخل الأنغام مع الزمن، وكيفية عبور المقامات من حقبة إلى أخرى، لتتعزّز نظرية أنّ في هذا المشرق لساناً موسيقياً أحادياً مقامياً واحداً، يتفرّع بلهجاته مع تنوّع الظروف الثقافية والاجتماعية». وأردف قائلاً: «لذا، بادرتُ، إذ أردتُ تطويع «مذهب» هذا التوشيح ليكون متناسقاً مع أسلوب عصر النهضة الموسيقية العربية، فاقترحتُ له بدايةً ميزاناً ثلاثياً بسيطاً، تجسَّد بِضرْبِ «السماعي الدارج»، علماً أنّ مساحة الاختيار واسعة، ويمكن لها أن تتنوّع بين ضروب إيقاعية قصيرة وأخرى مطوّلة وعرجاء». ثمّ بدأت الرحلة في تطويع كلّ النغم في هذا «المذهب» على هذا الإيقاع، وإجراء تعديلات طفيفة (أو تحسينات)، ولا سيما لجهة توقيع النص الكلامي وتشبيكه مع الإيقاع بشكلٍ محكم، ثمّ الذهاب إلى إدراج آلات التخت الموسيقي الشرقي اللحنية المقترحة تباعاً: العود، الكمنجة، والسنطور، على قاعدة الأداء «الهِتِروفوني» Heterophony والتأويلي.
وما ذكره ياسين ـــ بعد الأداء الجماعي لـ «المذهب» ــــ دور أداء «أغصان» التوشيح، التي باتت تتماهى في الطرح الجديد مع قالب القصيدة المُرْسَلَة المعتمدة في عصر النهضة. نسمع في البداية تقاسيمَ لآلة موسيقية منفردة، ثمّ يبدأ ارتجال القصيدة مع متابعة نغمية عزفية للآلة الموسيقية، تترجم فيها النغم لكل مرحلة مقامية، لتعود فتتواتر من جديد مع «المذهب»، وهكذا دواليك إلى أن ينتهي التوشيح. وقد جاء تلحين هذا التوشيح على مقام «الحجاز» على اعتباره المقام المرجعيّ والأساسي، مع تركيزٍ قوي على إبراز مقام «النكريز» مراراً، وتطرّق إلى مقام «الزيركُلاه»، فمقام «الأوج»، والاستقرار دوماً بالعودة إلى المقام الأساسي مجدداً وهو «الحجاز».
يُعَدّ التوشيح من القوالب الكلاسيكية التي تصعب تأديتها


أمّا عن الفارق بين التوشيحات الرمضانية وخصائصها، وبين الأناشيد والابتهالات والأغاني الرمضانية، ففسَّرَ ياسين أنّ التوشيح هو قالب موسيقي يتألّف من «مذهب» (لازمة) موقَّع، يؤدَّى بشكل جماعي، ويتواتر مع مجموعة «أغصان»، تؤدَّى بشكل منفرد ومرتجَل، يمكن لها أن تكون مرسَلة بالتمام (توشيح «رمضان أهلاً»)، أو موقَّعة أو هجينة بين الاثنين معاً. ويُعَدّ التوشيح من القوالب الموسيقية الفنية (الكلاسيكية) التي تصعب تأديتها، ويمثّل ركيزةً في الإنشاد، تتماهى إلى حدّ كبير في ترنيم «مذهبها» مع «أدوار» الموشحات الحلبية، وفي «غُصنها» مع «الدور» المصري، الذي كان يختم به... فيما الأناشيد والأغاني الرمضانية، المقصود بها قالب آخر، شعبيّ الطابع وثابت ومسبق التلحين وموقَّع على ضروب بسيطة، عادةً ما تكون ثنائية الميزان. أمّا الأداء، فهو بسيط عموماً، ويتألّف من «لازمة» تؤدَّى جماعياً، تتواتر مع سلسلة «مقاطع» تؤدَّى فردياً، وغالباً ما يكون لحن المقاطع مطابقاً للحن اللازمة. ويتشابه قالب «الأنشودة» و/ أو الأغنية مع قالب «القدّ» (في حلب) وقالب «البسته» في العراق، وقالب «الطقطوقة» في مصر، حيث تصحّ تسميتها كلّها بـ«الأهازيج».
أما «الابتهال» في الأساس، فهو قالب مرتجل ومرسَل ويؤدَّى بشكل فرديّ. يمكن له أن يتدثر بطابع موسيقي فنّي، في حال كان المنشد متمكّناً من اللغة الموسيقية المقامية، وإلّا فإنه يحافظ على طابعه الشعبي، وموضوع «الابتهال» محصورٌ في التضرّع إلى الله، والدعاء له بخشوع واللجوء إليه.
يذكر أنّه شارك في توشيح «رمضان أهلاً» كلٌّ من جميل العلي (إنشاد)، وكريستو العلماوي (عود)، وستيفن الحكيم (كمنجة)، وناجي العريضي (إيقاع)، إضافةً إلى هياف ياسين عزفاً على آلة السنطور وإعداداً لكلّ الصيغة المتجدّدة، فيما نفّذت الفكرة الفنية والرسومات: تغريد عبد الفتّاح، والتسجيل لوائل نعيم (استديو نبض الشمال).

* يمكن الاستماع إلى التوشيح عبر هذا الرابط