صباح الأربعاء الماضي، وصل مشروع قانون يفرض تجريد شركة «بايت دانس» من تيك توك أو مواجهة الحظر، إلى مجلس النواب الأميركي بعد إقراره في لجنة الطاقة والتجارة البرلمانية والمؤلفة من 23 نائباً ديموقراطياً و29 نائباً جمهورياً. صوّت البرلمان على مشروع القانون بالموافقة واتخذ مساره الآن إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليه، ومن هناك قد يصل مكتب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي سبق أن قال إنه في حال وصل القانون إلى مكتبه، سيوقّع عليه. في المقابل، رفضت تيك توك مشروع القانون، وأعلنت «بايت دانس» أنّها لن تتخلى عن التطبيق، كما رفضت مزاعم التجسّس على بيانات المستخدمين الأميركيين، موضحة أنه منذ إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، كل بيانات المستخدمين الأميركيين على تيك توك موجودة في خوادم شركة «أوراكل» الأميركية داخل الولايات المتحدة، نافية بذلك كل مزاعم التجسّس.

كما أعربت «الاتحادات اليهودية في أميركا الشمالية» (JFNA)، وهي منظمة جامعة للجماعات اليهودية الأميركية، عن دعمها لمشروع القانون، مشيرةً إلى مخاوف من انتشار «معاداة السامية» و«المحتوى المناهض لإسرائيل» على تيك توك وفقاً لما نشرت صحيفة «جيروزالم بوست» في 12 آذار (مارس) الحالي. موقف الأطراف المتعلّقة بهذه القضية غريب. قبل حوالى الشهر، انطلقت الحملة الانتخابية الرئاسية لجو بايدن على تيك توك. وقبل أيام، عارض الرئيس السابق دونالد ترامب حظر التطبيق، معتبراً أن من شأن ذلك أن يقوّي شركة ميتا مالكة فايسبوك وإنستغرام، التي وصفها بـ«عدوّة الشعب». أما مستخدمو تيك توك الأميركيون، فأمطروا هواتف نواب مناطقهم بالمكالمات المطالبة برفض تمرير مشروع القانون. وهنا نسأل: إذا كانت حملة بايدن الانتخابية تستخدم التطبيق، فكيف صوّت نواب الحزب الديموقراطي على القرار؟ وإذا كان ترامب ضد القرار، فكيف صوّت النواب الجمهوريون عليه؟ وإذا أعلم الناخبون ممثليهم في البرلمان رفضهم له، فلِمَ لم يذعن هؤلاء لمطالب الناس؟
البحث عن إجابات لهذه الأسئلة يأخذنا إلى مشروع القرار نفسه، وهنا المفاجأة. النائب الأميركي الذي قدّم مشروع القرار في بداية الأمر، يدعى مايك غالاغر، وإذا بحثنا عن أبرز من تبرع له بالمال خلال الدورة الانتخابية الأخيرة عام 2022، نجد أن منظمة AIPAC الإسرائيلية على رأس اللائحة، أي إنّ «أيباك» هي التي أوصلته إلى المجلس الحالي بطريقة أو بأخرى. وليس غريباً على منظمة إسرائيلية أن تدعم نائباً مثل غالاغر في مشروع حظر تيك توك، فرئيس كيان الاحتلال، إسحق هرتسوغ، قال مع بدء حملة التعاطف الغربي مع الشعب الفلسطيني المتأثرة بالمجازر الإسرائيلية في غزة، إن «تطبيق تيك توك غسل عقل الشعب الأميركي». هذا من ناحية كيفية بدء الإجراء، أما من ناحية نصّ المشروع، أجل، في الشكل، القرار موجّه ضد تيك توك، لكن مضمون صفحات المشروع يقول لنا بأنّ ما يحصل ليس مجرد قلق من الصين، إنما يتعلق بسيطرة حكومة الولايات المتحدة على شعبها. إذ يعطي مشروع القانون للرئيس سلطةً إضافية لإغلاق أي منصة يعدّها مهدّدة للأمن القومي الأميركي من دون أي معايير مدرجة. عملياً، إذا شعر أي رئيس أميركي بوجود تهديد من قبل منصة تواصل، يمكنه حظرها وليس فقط تيك توك. والقرار إن مرّ، يمنح الرئيس الأميركي صلاحية حظر مواقع الويب، وليس التطبيقات فقط وفقاً لما فنّده مشرّعون أميركيون من الحزبين على منصة X. وقال السيناتور الجمهوري راند بول على X، إنّ «خوارزمية تيك توك تعمل داخل الولايات المتحدة في سحابة شركة أوراكل مع مراجعتهم للكود البرمجي (ليس في الصين)... إنهم يريدون حظر تيك توك لأنه مملوك من الصين، غير صحيح، فستون في المئة من الشركة مملوكة لمستثمرين أميركيين ودوليين، و 20% مملوكة لمؤسّسي الشركة، و20% مملوكة لموظفي الشركة، بما في ذلك أكثر من 7 آلاف أميركي. والرئيس التنفيذي لتيك توك من سنغافورة وليس من الصين. لذا اسأل نفسك: لماذا يستمرون في تكرار هذه الكذبة لإخافتك؟». ووصف حظر تيك توك بأنه «حصان طروادة»، أي يُراد من القرار أمرٌ آخر. هذا الآخر الذي أشار إليه راند بول، تحوّل إلى تكهنات انتشرت على منصة X وتيك توك بشكل كبير. وأكثرها تفاعلاً مع المستخدمين أنّ إدارة بايدن ستحظر تيك توك تمهيداً لحظر منصة X التي صارت مرتعاً لأقطاب اليمين ومنظّري المؤامرات.
رغم غرابة المشهد في الولايات المتحدة، والسرعة التي وصل فيها مشروع القرار إلى مجلس الشيوخ، إلا أنّ ما حصل كان متوقعاً. مع بدء حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تشنها قوات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، برزت منصّتان سمحتا للعالم بمشاهدة آلة الموت الإسرائيلية وهي تسلب الحياة من القلوب. والكيان اليائس بعد فشل جيشه، بدأ الانتقام من الشباب الجامعي الأميركي ومن مستخدمي منصات التواصل بسبب وقوفهم مع فلسطين، فاستُدعي مالك منصة X، إيلون ماسك، إلى فلسطين المحتلة، ليعتذر ويركع لقادة الاحتلال ويعدهم بضرب المحتوى المناصر لفلسطين والحد من انتشاره. وأثناء مقابلة له مع رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، تحدّث الأخير عن مشكلة تعانيها نخب الجامعات الأميركية الغربية العريقة (الأخبار 15/12/ 2023) فشاهدنا بعد ذلك إقالة رئيسة جامعة «هارفارد» كلودين غاي، وليز ماغيل من جامعة «بنسلفانيا» وسالي كورنبلوث من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» (MIT). ثم بقي تيك توك، وهنا حصل تقاطع بين مصالح عمالقة منصات التواصل المنافسين له، وتقاطع مع مقتنصي الفرص في الدولة العميقة، التي وجدت في مشروع القرار فرصة لتمرير بنود تسمح بتوسيع صلاحيات أجهزة السلطة ضد منصات التواصل. في النتيجة، وصل مشروع القانون إلى مجلس الشيوخ، والعالم يراقب ماذا سيحصل.
كل بيانات المستخدمين الأميركيين على تيك توك موجودة داخل الولايات المتحدة


تيك توك منصة لا تشبه أيّ شيء آخر خبرناه. يمكن أن نكرهها، لا بأس في ذلك، لكن لنتذكر أنّ الخوارزميات هي ذلك المحلل النفسي الذي يراقبنا من دون أن ننتبه إليه. يمدّنا بفيديوهات وجد أنها أثارت اهتمامنا. وإذا كان المحتوى العلمي أو الثقافي حاجتنا، صار حسابنا على تيك توك أشبه بقناة تثقيفية. وإذا أثارتنا أمور أخرى، ستصبح هي غالبية ما نشاهده. بالتالي، ليست المشكلة فقط في الخوارزميات، بل في المحتوى الذي نختار مشاهدته في استمرار. وإذا ما أزلنا هذا الجانب من أمامنا، سنجد أن تيك توك هو التطبيق الوحيد حالياً الذي يسمح للناس بالاطلاع على مجتمعات أخرى والاستماع إلى أحاديث وأفكار بشر آخرين حول العالم. عملياً هو انعكاس رقمي للعولمة، هو محتوى ويب مختلف، ليس مجرّد كلمات وبيانات، بل شريط سينما كبير يعج بالبشر الذين يسجلون حياتهم يومياً.