نزار نمراعتاد اللبنانيّون، للأسف، على محاولة افتعال فتنة داخلية كلّ بضعة أشهر، بل أسابيع، من بطولة الجهات السياسية نفسها، وبتحريض منها ومن وسائل إعلامية داعمة أو حليفة لها، تستغلّ الحوادث خدمةً لأجندات سياسية وتصبّ الزيت على نار التهويل. في الحلقة الأخيرة من مسلسل الفتنة هذا، انضمّت أبواق جديدة إلى الفرقة، موجّهةً سهامها الصوتية نحو «كوكتيل» من الأطراف موزّع بحسب الأيّام، ما أجّج الانقسام أكثر فأكثر. أمّا الأطراف الآخرون، فيواصلون سياسة الإنكار، متجاهلين تماماً الساحة الداخلية التي توازي أهمّية الشؤون الخارجية، فما الفائدة من أصلب حصن إذا كان مخترقاً طينه هشّ لا ينقصه سوى هذه البلّة؟
كلّ هذا، فيما الدولة بأجهزتها الأمنية تتّخذ صفة المراقب كأنّها منظّمة حقوقية. هي التي لم يرفّ جفن لها إزاء استشهاد المئات من أبناء الجنوب وأولاده على يد العدوّ الصهيوني، لن يؤثّر بها شخص واحد إضافي، فلا تمنع حصول حوادث أمنية مثل خطف منسّق «القوّات» في جبيل باسكال سليمان واغتياله (رغم جهودها في متابعة الجريمة بعد وقوعها وتوقيف أفراد العصابة المسؤولة بالمشاركة مع الجهات السورية)، وتترك التحريض الطائفي يأخذ مداه الإعلامي قبل الافتراضي، فيما تنتشر افتراضيّاً مقاطع للضحايا من دون أيّ معايير أخلاقية، إذ لا قانون عصرياً ينظّم الإعلام ومواقع التواصل معاً وأصلاً لا تطبيق للقانون الموجود القاضي بملاحقة المحرّضين على الفتنة والاقتتال الداخلي. هكذا، يُترك القرار لحفنة من رجال الأعمال والأحزاب وحتّى الدول التي تحور وتدور بلا حسيب، فيما يُلاحق صحافيّون فرديّاً بمجرّد اقترابهم من فضح فساد هؤلاء.
منذ أن أشيع خبر خطف سليمان في قضاء جبيل نهاية الأسبوع الماضي، كان اتّهام «حزب الله» معلّباً جاهزاً للاستهلاك، مستبقاً حتّى وصول الأجهزة الأمنية إلى مكان وقوع الجريمة، وهو ما دفع حتّى قيادة «القوّات» إلى الدعوة إلى التهدئة وعدم استباق التحقيق، قبل أن ينتقل الاتّهام إلى جميع السوريّين على الأراضي اللبنانية، لاجئين كانوا أم مقيمين أم تربطهم صلات قربى بلبنانيّين، لا يهمّ. هذا الاتّهام لا يكفيه عدد من المنشورات على مواقع التواصل لنشره على نطاق واسع، وهنا يأتي دور بعض الإعلام الذي يستهوي اللعب بالنار، مثل الطفل الذي اكتشف لتوّه المفرقعات ويذهب لتجربتها عند معرفته بغياب رقابة أهله.
غالبية الوسائل الإعلامية المحرّضة كانت من مواقع إلكترونية وصفحات تدور في فلك «القوّات» أو الولايات المتّحدة، فأخذت على عاتقها بثّ الرعب استكمالاً لحملة التهويل السياسية، وأعادت تدوير اتّهام «حزب الله»، مقحمةً أموراً لا علاقة لها، كما صفحة «نقد» التي خصّصت منشوراً فقط لـ«فضح تضليل» ما وصفته بـ«محور الممانعة» عبر استعراض ما قيل حول وجود الضحية في عهدة استخبارات الجيش أو في المستشفى أو محاولة ربط الجريمة بعمل سليمان في بنك «بيبلوس» أو بالمخدّرات. هو حقّ يراد به باطل؛ صحيح أنّ على الصحافيّين توخّى الدقّة في نقل معلوماته ولا سيّما في موضوع حسّاس كهذا، لكن في المقابل فإنّ ما يؤرق الصفحة ليس عدم الدقّة، بل الابتعاد عن اتّهام «حزب الله»، وهو ما يهمّها، وما يشكّل للمفارقة ابتعاداً عن الدقّة المنشودة. في الواقع، جميع الاحتمالات السالفة واردة، لكنّ الصفحة والفريق الذي تدعمه، لا تختار في كلّ مرّة سوى الاحتمال الأقرب إلى الفتنة، مستبقةً التحقيقات، ومقحمةً «حزب الله» حتّى بعد تبيان عدم علاقته. ويمكن الاستدلال على النيّة وراء هذا الإقحام من خلال المنشور نفسه، إذ ورد أنّ «هذه التصرّفات دليل إضافي على ضلوع شخصيّات المحور في جرائم تضليل أقلّه، يحاسب عليه القانون». والكلمة المفتاح هنا هي «أقلّه»، أي كأنّها تقول «حتّى لو لم تفعلوا شيئاً، فأنتم في دائرة الاتّهام دائماً».
راحت صفحات أخرى وصحافيّون يشكّكون في كون الجريمة قامت بها عصابة سرقة سيّارات، وذهب بعضهم حدّ «نبش» أبو عدس كما الصحافية مريم مجدولين اللحام التي كتبت منشوراً ورد ضمن سطوره: «القاتل معروف. الفاعل معروف. تكرار سيناريو أبو عدس حفظناه وحزب الله لن يسلم من فعلته بالسهولة التي تفترضون». ولم يعر هؤلاء أيّ اهتمام لكلمة السيّد حسن نصرالله مساء الإثنين التي قال فيها إنّ تكشّف ملابسات الجريمة «فضيحة كبيرة كشفت حقيقة القوّات والكتائب»، سائلاً «من يلاحقنا بقرار الحرب والسلم: من قام بالحرب حينها؟ هل أخذتم قراراً من الدولة أو أنتم اتخذتموه؟». وكان واضحاً أنّ هذا التجاهل كان متعمّداً، بل إنّ «الكتائب» تقصّدت إظهار هذا «التعمّد» على لسان النائب سليم الصايغ الذي قال في مقابلة مع mtv: «أعتبر أنّني أدنّس هذا البيت إن ردّيت على أمين عام الحزب».
تلفزيونيّاً، لم تحظَ القضية بالاهتمام الكافي في نشرات الأخبار يوم الأحد، قبل أن تغطّيها مساء الإثنين، بما في ذلك النقل المباشر ولا سيّما مع استمرار قطع مناصري «القوّات» أوتوستراد جبيل، ومن ثمّ التوجّه إلى منزل الضحية مع تواتر أنباء مقتله. وكان التركيز واسعاً على mtv وLBCI، تبعتهما OTV و«الجديد». وحاولت mtv إعطاء القضية بُعد النزوح السوري ولا سيّما في نشرة الأخبار المسائية، متطرّقةً خلال مقدّمتها إلى زيارة الرئيس القبرصي إلى لبنان من باب «النزوح السوري»، قبل أن تهدئ من نارها بحلول نشرة منتصف الليل بعد معرفة مصير سليمان وطلب «القوّات» التهدئة احتراماً لعائلة سليمان أوّلاً ولعيد الفطر ثانياً.
أمّا OTV فحاولت اللعب على الوترَين، مستغلّةً الفرصة لتكريس نفسها في صفّ «الأحزاب المسيحية» لكن في الوقت نفسه على ضفّة مقابلة من أعداء المقاومة. ورد في مقدّمتها مساء الإثنين: «في انتظار جلاء الحقيقة كاملةً في قضية خطف منسّق القوّات في جبيل باسكال سليمان، على أمل عودته سالماً إلى أهله في أسرع وقت ممكن، ثلاث ملاحظات يمكن تسجيلها بناءً على مجريات الساعات الأخيرة: أوّلاً، مشهد التضامن الوطني عموماً والمسيحي خصوصاً إزاء القضية، ولا سيّما وقوف التيّار الوطني الحرّ على المستوى الرسمي والشعبي إلى جانب القضية، وهو ما تجلّى في حضور عدد من نوّاب ومسؤولي التيّار إلى مكتب «القوّات» في مستيتا ليلاً، ولا سيّما نائب جبيل سيمون أبي رميا ومنسّق هيئة القضاء، فضلاً عن المواقف الواضحة في هذا السياق عبر وسائل الإعلام والتواصل. ثانياً، نهج التحريض والفتنة الذي أطلّ برأسه من جديد في الساعات الأخيرة، إذ سارع بعض الأصوات الى استباق التحقيق بالتصويب على جهة طائفية ومذهبية وسياسية محدّدة، وهو ما ثبت أنّه غير صحيح، بدليل اقتصار التوقيف على مواطنين سوريّين ضالعين في عملية الخطف، وهو ما استدعى ردّاً حاسماً من السيد حسن نصرالله اليوم (الإثنين)، مسمّياً حزبَي «القوات» و«الكتائب» ومَن لفّ لفّهم على حدّ تعبيره، ومؤكّداً الحرص على حماية الداخل اللبناني من العابثين. ثالثاً، وتزامناً مع حضور الرئيس القبرصي إلى لبنان للبحث في انتقال النازحين من لبنان إلى بلاده عبر البحر، تسليط الضوء مجدّداً على ملفّ الوجود السوري في لبنان ووجوب تنظيمه جدّياً لناحية المقيمين، وتحفيز العمل على العودة بالنسبة إلى النازحين، والأهمّ من كلّ ذلك تطبيق القانون اللبناني على الجميع من دون استثناء، لتفويت الفرصة على من يخطّط لضرب الأمن والاستقرار توازيًا مع تطورّات الجنوب وغزّة».
وذهبت LBCI إلى الإضاءة على وجود لبنانيّين من بين الموقوفين ثمّ اعتبار نفسها معنية بالردّ على السيّد نصرالله، عبر طريقتها المعهودة باللهجة «المحايدة» التي تحمل في طيّاتها رسائل مبطّنة، فورد ضمن مقدّمتها مساء الإثنين: «أسئلة كثيرة ولكن لا أحد يملك أجوبة واضحة. ولكن ما كان لافتاً جدّاً هذا المساء، دخول الأمين العام لحزب الله على خطّ السجال. فللمرّة الأولى منذ السابع من تشرين الأوّل الفائت، يعطي نصرالله هذا الحيّز من الوقت للحديث عن ملفّات لبنانية. في خطابه هذا المساء شنّ هجوماً على «القوّات» اللبنانية و«الكتائب» اللبنانية، حتّى أنّه استحضر الجبهة اللبنانية للهجوم عليها، باعتبارها أنّها مع الكتائب والقوّات تفرّدت بقرار الحرب عام... 1975». بالنسبة إلى «الجديد»، ركّزت القناة على ما وصلت إليه تحقيقات الجيش ورفضت محاولات الفتنة، لكنّها شنّت هجوماً على «الأحزاب المسيحية» التي وصفتها بـ«الحلف الثلاثي»، فأوردت في سطور مقدّمتها مساء الإثنين: «تشاء الصدف أنّ كلّ ما صُنع في الحرب ما يزال حيًّا من النصوص إلى النفوس، حيث استحضرت قوى سياسية بضعةً من شعارات الحرب وهدّدت بالأمن الذاتي، وراحت القوّات تحشد، والكتائب تهدّد وتمنح مُهلاً وأزمنةً، والتيار يدلي بدلوه كوليّ للمسيحيّين الأحرار منهم والمخطوفين»...
أمّا «المنار» وNBN فلم تُعرا الجريمة اهتماماً إلا عرضاً، والتركيز الأكبر كان حول كلام السيّد نصرالله حيالها. صحيح أنّ التطوّرات في الجنوب وفلسطين أولويّة ولا سيّما مع تجاهلها من القنوات الأخرى بشكل عام، لكنّ تغطية الحادثة جزء من هذه الأولويّة، خصوصاً مع محاولات استغلالها ضدّ المقاومة. هي فرصة ضائعة أوّلاً لإيصال رسالة ألّا جدران تفصل اللبنانيّين عندما يتعلّق الأمر بقتل أحدهم أيّ كان، وثانياً لإظهار أنّهما أفضل من «أبواق الفتنة» التي يهاجمانها. والأهمّ أنّ القناتَين معنيّتان بشكل خاصّ بسبب الاستثمار السياسي والهجوم على «حزب الله» خصوصاً و«الثنائي الشيعي» بشكل أوسع. أمّا الاهتمام الضئيل بهذا الشكل، فيظهرهما كأنّهما لا تكترثان لا للحدث ولا للاتّهامات الموجّهة، وهو أمر أيضاً يسهم في تأجيج الانقسام في البلد.
وكأنّ التحريض على مواقع التواصل لم يكن كافياً، انتشرت مقاطع لجثّة الضحية من دون أيّ احترام لخصوصية عائلته ولا حرمة الموت ولا على الأقلّ الناس الذين سيشاهدون هذه المقاطع. هو أمر يتكرّر عند كلّ جريمة مماثلة، وحتّى عند جرائم العدوان الصهيوني في الجنوب أو في غزّة. ورغم ذلك، لا الناشرون يتّعظون ولا منصّات التواصل تضبط هذا النوع من المحتوى، فيما تفضّل إسكات الأصوات المؤيّدة لفلسطين أو المعارضة للولايات المتّحدة. في كلّ الأحوال، الأمل في أن تكون حفلة الجنون والترويع وبثّ الفتن قد انتهت، وكذلك مسلسل الأمن المتفلّت والعصابات التي تسرح وتمرح. أمّا عطش «القوّات» و«الكتائب» للاستغلال السياسي ولعب دور الضحية من أجل تبرير استمرار الوجود، فأعيى مَن يداويه.