إنهُ تيك توك، اسم على مُسمّى، كلمة تصف صوت رقّاص الساعة: «تيك توك، تيك توك»، يتحرّك العقرب مُعلناً نهاية الوقت، وفي نهاية وقتنا موت. هل تشاهدون ما يُنتَج؟ أعني هل تُشاهدونه حقاً، بعَيْن نقدية وليس كمُتفرّجين مُستهلكين لهذا الكمّ الهائل من الإنتاج الذي يُنافِس حاويات النفايات؟ هل تُشاهدون نصائح ذوات الدم البارد تجاه الحياة والعلاقات وخلافه؟ عالم مليء بالتمظهُر الأبله والمُزيّف تجاه الحياة، جمع من المرضى، مُستهلكون وبائعون، مِن الذي يبيعك مُنتجاً إلى الذي يبيعك كلامه. جمع من البُلهاء الصاعدين على خشبة المسرح ليفرزوا الكارثة. من هؤلاء؟ من أين يجيئون بهذه الثقة ليعطوا نصائح «حياتية»؟ من أين أتى هذا الذي تُصدِّق كلامه؟ ألا ترى سوى كُتلة لحمية تطلُب المال؟ هل يظلّ مُستغرباً على هذا العالم نفسه أن يُخرّج دفعة من المُجرمين والمرضى للعالم؟أخيراً، أُعلن عن اكتشاف شبكة من مُغتصبي الأطفال التي تحتوي على مجموعة من التيكتوكرز الذين يتصيّدون ضحاياهم عبر هذا التطبيق، عبر وضع فخاخ من الجوائز الرائجة تلك، لتعلق قدم طفل من الأطفال فيها، فيقع فريسة وحش مريض، يبتزّه أو يغتصبه. وما لبث أن انكبّ قرف الإعلام كله أمام أعيُننا، كأن الموقف ينقصه إضافة المزيد منه. الإعلام نفسه الذي يخرج بهؤلاء الذي يرى انتشارهم واحتلالهم للتريند يغار بدوره ويقول في نفسه: «لماذا لا أركب الموجة أنا أيضاً؟». وإعلامنا؟ يا له من خبير في ركوب الأمواج. فهو والمهنية خطّان متوازيان لا يلتقيان. يصعد بهذه النماذج إلى المسرح، ثمّ يستعجب لماذا يرميه الناس بالطماطم، فيكون بازدواجيته المعهودة خنجراً في صدر الوعي الجمعي لمجتمعنا الذي لا ينقصه بالمرّة.
وما تلبث ظاهرة المحاكمات الإعلامية بالانتشار. لعقود، كانت برامج زافين ونيشان ورابعة الزيات ومارسيل غانم ومالك مكتبي وغيرهم، مبادرات غير مجانية طبعاً، لقتل أيّ حدث والخروج بنتائج تضيّع الحقوق ببعضها لتُصبح الجرائم أشبه بمسرحيات استعراضية يتبارز فيها من هم من صنف هؤلاء الإعلاميين من يمكنه أن يثير جدلاً أكثر من غيره، ومن يمكنه أن يحتلّ التريند أكثر من غيره عبر تصعيد شخصيات إشكالية ذات بُعد درامي تجعلنا أمام تركيبة غريبة من الجنس البشري، من المستحيل أن لا تصير حديث الساعة.
برامج أشبه بالمدرجات الرومانية للألعاب، حيث يتبارز من يستطيع أن يقدم الوحشية كمصدر للتسلية


راجت تلك الظاهرة، وانتشرت حتى تغلغلت، فصار لا يخلو الليل من برامج من هذا القبيل. برامج أشبه بالمدرجات الرومانية للألعاب، يتبارز فيها من يستطيع أن يقدم الوحشية كمصدر للتسلية. جماهير حول الملعب الذي يتوسطه إعلامي واثق من نفسه، يحيط نفسه ببعض الآراء المتباينة، ويخرج بضحايا وجُناة يلعب فيهم على هواه وكما يحلو لوسيلته الإعلامية أن تفعل، ليقدّموا عرضاً جماهرياً صاخِباً. يصير التيكتوك والتلفزيون واحداً، بإمكانك أن تستخدمهما لصناعة مصائد تعدّ ضحاياها. فماذا يفرق تلفزيونك عن هاتفك في هذه الحالة؟ لا شيء. على ما يُسمّى التيكتوك، ثمة بث مباشر تُرمى عبره أسود، وعلى التلفزيون أيضاً، يخرجون أسداً ويرمونه للمحارب، إما يقتله أو يصبح فريسته، وتنتهي اللعبة دائماً بموت أحدهم. وهكذا تعامل الإعلام في لبنان مع قضايا الناس، منذ عقود، أكانت القضايا التي تمسّ رغيف الخبز وغلاء الأسعار أو تلك التي تمسّ أمنه وسلامته، كمادة للاستعراض. وقد ينجو أحد مُذيعي الأخبار أيضاً، بشكل آخر من هذا الاختصاص الاستعراضي، لكن هذه المرة بطريقة مغلفة برصانة زائفة وغير منحازة ليتّهم «الشعب» بأنه مغفّل مثلاً. فمن ينسى واقعة ماريو عبود في أوقات الكورونا عندما قال للناس «يا بلا مخ» في محاكمة ميدانية لكل أطياف الشعب، ونحا على هذا المنحى الكثير من الإعلاميين غيره، يلوموننا، ووظيفتهم تثقيفنا كما تقول القاعدة التي لا نتبناها طبعاً. لكن من يحمل على عاتقه كونه «نخبوياً» (مع سخرية الكلمة)، كيف له أن يتّهمنا نحن بالنقصان؟ دعنا نعتبر أن وظيفتهم إفهامنا، أهكذا يكون الفهم؟ أهكذا يكون التثقيف؟ بالطبع هكذا، فهذا هو الوعي الذي نريد تشكيله في هذه البلاد، هكذا تولد الدمى التي تستسيغ كل شيء وتهضم كل شيء، هكذا تنشأ وتتربى الأكثريات المستعبدة التي تهز رأسها موافقة للطاغية.
ثمة قول شهير، بالطبع سمعه الجميع، يقول: «لا تجعلوا من الأغبياء مشاهير». والسؤال، من يُعطي ذلك الوحش الذي شكّل عصابة لاغتصاب الأطفال، الجرأة لفعل ذلك؟ بالطبع لا تستطيع لوم الإعلام على جريمة ارتكبها هؤلاء، إنها تخصّ أمراضهم، لكن في عموم الحالات، من يصنع شخصيات من الجحيم أبطالاً على شاشته، عليه أن يحترق بنارها.