مرّ خبر رحيل محمد توفيق البجيرمي (1938ـــــ 2013) بهدوء، ففي زحمة الموت، لم يعد الراحلون يحظون بدموع وفيرة، ولا بنعي يليق بإرثهم الغني. «تخيل يا رعاك الله» ارتبطت هذه الجملة بذاكرة السوريين، وسرعان ما عادت لتظهر بغزارة على مواقع التواصل الاجتماعي معلنةً رحيله. فقد اعتاد محمد توفيق البجيرمي أن ينهي بها رواية طرائفه وغرائبه التي يجمعها من أنحاء العالم ويقدمها في برنامج أسبوعي على التلفزيون السوري حمل اسم «طرائف من العالم».
تمكن أستاذ الآداب في جامعة دمشق عبر دقائق البرنامج العشرين، أن ينتزع شهرة واسعة، ومكانة هامة شكلت إحدى الزوايا الثابتة في هوية التلفزيون الرسمي. ارتبطت الجملة ذاتها برحيله أمس، حين كتب بعض طلابه على صفحاتهم الخاصة على الفايسبوك: «رحل الدكتور محمد توفيق البجيرمي فتخيل يا رعاك الله». والراحل من أصل فلسطيني عاش حياته متسلحاً بالعلم الذي نذر نفسه لأجله ودرس في «كلية الآداب» في «جامعة بغداد» وحاز بكالوريوس من مرتبة الشرف في الأدب الإنكليزي عام 1960، ثم أكمل دراساته العليا في انكلترا، حيث نال درجة الماجستير في الأدب الأفريقي عام 1974، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي عام 1980. وفي موازاة احترافه لتدريس الأدب الإنكليزي بطريقة خاصة به، اشتهر من خلال الشاشة الصغيرة في ستينيات القرن الماضي عندما قدم برنامج «نافذة على العالم» على التلفزيون العراقي استمر لمدة سنتين فقط. بعد ذلك جسد دور الجاحظ في مسلسل تلفزيوني يحكي عن صاحب «البخلاء» سنة 1969 . لكنه احتل مكانته الخاصة مع إطلاق برنامج «طرائف من العالم» على «القناة السورية» منذ عام 1961 حتى عام 1970 لكنه عاد ليقدم البرنامج نفسه منذ عام 1980 الذي استمر في تقديمه لاكثر من 25 عاماً.
عرف طلاب جامعة دمشق قاعات البجيرمي من رنة صوته المميزة، وقد أمضى سنوات طويلة في تدريس الشعر، والنقد الأدبي، والترجمة، والأدب المقارن، والأدب الأميركي. كما أشرف على أطروحتي ماجستير، وناقش أربع أطروحات في الأدب الإنكليزي قبل أن يتقاعد سنة 2000 . وكان للترجمة حصة من نتاجه، إذ ترجم أكثر من 13 كتاباً.
تتحالف الأيام الأخيرة لسنة 2013 مع موسم الفجيعة السوري، وتأبى أن تمضي من دون أن تأخذ معها رموزاً في الفن والثقافة والإعلام، على أمل أن يكون البجيرمي آخرهم.
5 تعليق
التعليقات
-
قصتي مع البجيرمي ، رحمه الله (3)كان المحاضر حاضراً بكل ما بوسعه ، وهو يذهب في شرح مادة المسرح ضمن مادة الأدب المقارن ، يأتي ويروح بالأفكار ، يتنقل برشاقة على المنصة وبحركات بهلوانية لكنها جميلة ، كما يتنقل بحرية في المدارس الفكرية حول المسرح ، ولا ينسى بين الفينة والأخرى إطراء هنا ، وطرفة هناك وكأنه يريد إثبات مقولة أحد علماء التربية عندما قال ما معناه ، أن المدرس الناجح يجب أن يكون كالممثل المبدع على المسرح في آخر المحاضرة قال وهو ينظر إلى المكان الذي أجلس فيه بين الزملاء : Hello you all at once, so I always laugh my students)) عرفت أنه يكلمني لأن الجميع كان ينظر نحوي ، غادرت القاعة وأنا متعثر بخطواتي أريد تجنب نظرات الزملاء الذين ضحكوا للمرة الثالثة ، وقد قررت بعدها ألا أغامر مرة أخرى ، وأضع نفسي في مثل هذا الموقف المحرج وقتها ، ومع الأيام عرفت عن الدكتور البجيرمي طيبته ومحبته للناس بشكل عام وللطلاب بشكل خاص ، ثم التقيته أكثر من مرة وتحدثنا معاً في مواضيع عامة واجتماعية لكنه لم يتحدث عن السياسة في أي مرة رحمه الله كان صاحب ذاكرة قوية وفكر متميز وذكاء حاد .
-
قصتي مع البجيرمي ، رحمه الله (1)كنت طالباً في السنة الأولى بكلية الاقتصاد بجامعة دمشق ، وكنا نداوم بقاعات مسبقة الصنع وضعت في كلية الآداب ، تلبية للأعداد المتزايدة في طلب دراسة التجارة ، اعتدت آنذاك أن أتنقل بين الكليات هارباً من دروس المحاسبة المملة ، لأحضر ما تيسر من محاضرات الفلسفة والشريعة والأدب العربي . تحدث زملائي أمامي في كلية أدب الإنكليزي عما يحصلون عليه من المتعة والفائدة في حضور محاضرات الدكتور محمد توفيق البجيرمي – رحمه الله - ، ذلك ما أثار فضولي بشدة ، رافقت زميلاً لي يدرس الأدب الإنكليزي كان يدعوني مراراً لمشاهدة الدكتور البجيرمي بحركاته وظرافته وطرافته ، قلت لزميلي : سأحضر لكن بشرط أن تساعدني على أن أفهم لأن لغتي الإنكليزية لن تجعلني أستوعب المسألة دفعة واحدة ، وافق وهو يضحك ، لم اعرف لماذا ، وقال لن تكون خاسراً في النهاية ، على الأقل تشم روائح طيبة وترى وجهاً حسناً في كلية الآداب ، أنتم في كلية الاقتصاد تعيشون على (البعل) . هي قاعة المدرج الثالث مقابل المدخل الرئيسي للقسم ، دخلت المدرج الكبير الذي تفوح منه الروائح العطرة وهي تعبق بالمكان - ما أجملها من رائحة تحكي ألف حكاية حلوة ، تحقق الهدف الأول من حضوري إذاً – إلى الهدف الثاني در .
-
قصتي مع البجيرمي (2)جلست وزميلي في المقاعد المتأخرة قليلاً والقريبة من الوسط بمحاذاة الدرج ، أقعدته على الطرف وأنا بجانبه من الداخل ، وكأن إحساساً ما يجعلني أقول في نفسي أرجو أن تمضى على خير امتلأ المدرج بالحضور وهناك أيضاً من يقف وكأنه مهرجان احتفالي ، دخل البجيرمي مع حفظ الألقاب ، إنه سيد الموقف ، وقف الجميع بهدوء منقطع النظير ، حياهم بالإنكليزية وتمنى لهم صباحاً سعيداً ، لا أدري ماذا قال لهم بعدها ، تلفّت إلى مترجمي زميلي لأسأله عما أضحكهم ، لمحني الدكتور ، وقعت بالمحضور إذاً ، فجأة توجه نحونا ، كما توقعت تماماً ، كان يقصدني وبحركات بطل مسرحية وبمشي سريع وصل إلى حيث كنت أجلس ، حدثني ، فهمت ما قاله لي ليس من المعنى بل من طريقة الحديث ولهجة الخطاب ، رحب بي ضيفاً وتمنى لي ألا أمل بالمحاضرة وسألني عن دراستي ، لم أستطع التحدث بأية كلمة لا بالعربية ولا بالإنكليزية ، لكني هززت رأسي موافقاً ، وأعطيته انطباعاً أني فهمت وأنا مسرور ، لكنه استغرب مما فعلت ، وأدار ظهره إلينا ، وقال جملة وهو عائد ، لم يرد من خلالها إحراجي لكن ما قاله أضحكهم مرة أحرى ، فهمت من زميلي أنه قال ما معناه ، ( مثل الأطرش بالزفة ) ، وكنت حقيقة كذلك ، فكرت وتساءلت كيف عرفني ، لماذا أضحكهم عليّ ، قال لي زميلي : إنه يمزح معك ، هو يعرفنا جميعاً بالاسم ، يعرف الضيوف أيضاً ، وشيئاً فشيئاً أخذت على الجو .
-
رحمك الله يا دكتور بجيرميرحمك الله يا معلمي، يا من علمتني حب الادب والشعر وصقلت خيالي كما علمت فكري وغذيت روحي بحب العلم والمعرفة وكل ذلك مع روح دعابة وظرف راق انيق وضحكة مجلجلة. العالم نقص خيرا كثيرا ونقص علما غزيرا برحيلك. اسكن الله في جنانه مع العلماء والانبياء. http://www.youtube.com/watch?v=mdlsHPWr0ak
-
الله يرحمهلا حول ولا قوة إلا بالله نعم! تربينا على برنامجه الأسبوعي وصوته الجهوري وعبارته الشهيرة التي ذكرها المقال. رحمه الله، وصبّر أهله ومحبيه وصلنا إلى زمن صرنا نتمنى به الموت والفناء لهول ما نشهده من دمار البلد وموت الناس. صار الموت راحة من هذه الحياة المليئة بالكرب والخوف والقلق والهم والغم والقرف.