لا بدّ لمن تابع الإعلام المرئي في الأيام السابقة من أن يلاحظ مفارقةً مهمّة: بدت الفضائيات العربية ـــــ وخصوصاً «الجزيرة» (وإلى حدّ ما «العربية» وقد اختلف أداؤها في الحدث الليبي عن أدائها في الحدث المصريّ) ـــــ متقدّمةً على مثيلاتها العالمية أمثال «سي. أن. أن». لقد ولّى زمن ما سُمّيَ حرب الخليج الأولى، أي الحرب على العراق عام ١٩٩١، حين كنا نشاهد القصف الأميركي لبغداد عبر الجوّ، وحين كانت CNN الوحيدة الموجودة لتغطية ما يجري في بلاد الرافدين.
في تلك الليلة التي ذكر فيها الطيار الأميركي كيف أنّ سماء بغداد «تتلألأ بالأنوار كما في حفلة مفرقعات»، شعرنا جميعاً بالإهانة، ليس فقط لأنّ ثمة عاصمة عربية تُلقى على سكانها صواريخ أميركية مجرمة، بل لأنّ الإعلام الغربي لم يكن ينقل لنا حقيقة ما يحدث على الأرض في ظلّ غياب أيّ تغطية أخرى مهنية وذات صدقية.
أما اليوم، فالصورة معكوسة، على الأقلّ لناحية أداء الإعلام العربي. الإعلام الغربي كان يغطّي الحدث الليبي عن بعد في الأيام الأولى من الأحداث، كما في حال مراسلة «سي. أن. أن» التي كانت تنقل أحداث ليبيا من القاهرة، مكتفيةً بإعادة ما أوردته الفضائيات العربية من مصادرها على الأرض. كذلك، كان مراسلَا القناة العريقَان ـــــ واحدٌ من الحدود الليبية المصرية وآخر من الحدود الليبية التونسية ـــــ يبعثان بتقارير تبتغي إثارةً غير موجودة فعلاً، سائرَين بانفعال بين جموع المصريين والتونسيين العائدين كلّ إلى بلاده، لاهثَيْن وراء أيّ خبر دَسِم عن عمليات قتل أو «عنف» في ليبيا (تماماً كما لو كانا يغطيان كارثةً طبيعية أو حادثاً عنيفاً). في هذا الوقت، كانت «الجزيرة» تتجيّش مجدداً، ومعها هذه المرّة «العربية» لتغطية الثورة الليبية من الداخل على نحو يجعلنا نواكب الحدث ونتفاعل معه: نقل مباشر شبه متواصل، مشاهد للتظاهرات وللضحايا صوّرها ليبيون بهواتفهم، شاهدو عيان يروون ما يحدث الآن في تلك المدينة أو تلك البلدة، محللون ليبيون يقدّمون قراءتهم لما يجري.
أما القنوات الأوروبية ـــــ وبخاصة الفرنسية ـــــ فكانت تعاني تخلّفاً حقيقيّاً إزاء الأحداث المتلاحقة في العالم العربي، كأنّ ما يجري لا يعني الشعوب في هذه البلدان (بلدان «الاتحاد من أجل المتوسّط» المزعوم) أو كأنّ دور هذا الإعلام بات يقتصر على الترفيه: هكذا بدت تقارير «أورونيوز» هزيلة، تتركّز على المطارات حيث يصل العائدون من ليبيا ويدلون بشهادات عن «معاناتهم» في الخروج من الجحيم الليبيّ. كذلك بدت «أل. سي. إي» الفرنسية الإخبارية مهتمّةً أساساً بالانحطاط الذي تعانيه الدبلوماسية الفرنسية، كأنّ الثورات العربية لا تتعدّى كونها موضوعاً آخر يمسّ النرجسية الفرنسية المعهودة.
هل ما زال بإمكاننا تخيّل هذه الانتفاضات العربية من دون الفضائيات العربية؟ كيف كنا سنتابع الحدث العربي لو كانت CNN كما في التسعينات، الوحيدة على الساحة؟ وإلى أيّ مدى تؤدّي الفضائيات العربية اليوم، دوراً متقدّماً ليس فقط في تغطية الحدث، بل في إنتاجه؟ لا شكّ في أنّ «الجزيرة» ـــــ وتحديداً الجمعة الماضي الذي شهد تظاهرات في عدد كبير من العواصم العربية ـــــ شبّكت بالصورة عالماً عربياً كانت قد تقطّعت أوصاله رغماً عن شعوبه. ولا شكّ في أن القنوات العالمية «العريقة» بعيدة عن أداء أيّ دور إعلاميّ مؤثّر. فهل أصبحنا، على الأقلّ على المستوى الإعلامي، نصنع حاضرنا، على أمل أن نصنع أيضاً مستقبلنا؟
* أكاديمية ومترجمة لبنانيّة