بعد تحديد عشرات الحالات في مناطق شمال ووسط البلاد (البويرة، البليدة، تيبازة، العاصمة، المدية، عين الدفلى) خلال شهر آب/ أغسطس الماضي، أحيا تأكيد وجود إصابة جديدة بالكوليرا في مدينة وهران، في الـ8 من أيلول/ سبتمبر، النقاش حول فاعلية السلطات العمومية في الوقاية من الأخطار الصحية وإدارتها.انهال النقد من كل حدب وصوب للتنديد بجمود ولا مبالاة السلطات، التي لم تطلق - إلا في شكل متأخر - حملة وقاية وطنية تهدف لوقف الوباء. الأزمة الصحية ألقت الضوء مرة أخرى على الضعف الهيكلي للنظام الصحي العمومي في الجزائر، المبني على المجانية، لكن المتميز بضعف سياسات الوقاية والأنشطة الصحية الأساسية.
وفي ما يخص اهتمامات السلطات، فهي تعطي الأولوية لتقديم الرعاية الصحية على حساب التثقيف حول الصحة، والأخطار البيئية، والوقاية، وكذلك دعم البحث، بصفته أحد أعمدة الصحة العامة. وفي سياق ارتباط وباء الكوليرا بضعف النظافة البيئية، يجب التنديد أيضاً بغياب تدخل الدولة في مجال الحماية الصحية للسكان.
بعد 56 عاماً على الاستقلال، لا يزال بلد ثري مثل الجزائر، يعاني صعوبات في تطوير سياسات صحية تستجيب لحاجات الجزائريين من ناحية الإنصاف والنفاذ للرعاية الوقائية والعلاجية على امتداد المجال الوطني، وهي مسألة ترتبط أساساً بالهوة الفاصلة بين التحديات الصحية المطروحة، والوسائل الموضوعة لمجابهتها، بحسب ما يقول الطبيب والأستاذ فريد الشاوي.
صحيح أن تجربة الجزائر، التي خرجت من الاستعمار بنظام صحي مُدمر، شهدت إرادة سياسية كبرى لناحية بناء أنظمة الصحة وتطويرها، لكن في المرحلة الحالية، التي تطرح على البلد تحدياً مضاعفاً يتمثّل في التحولين الوبائي والديموغرافي، يعتبر الشاوي أن الموارد البشرية والمادية والمالية، لا تزال بعيدة عن مستوى الحاجات.
خلال مقابلته مع «الأخبار»، يُذكّر المسؤول السابق عن إصلاح النظام الصحي والتأمين الاجتماعي، في حكومة مولود حمروش، بأن تفشي وباء الحصبة الأخير، ووباء الكوليرا الحالي، يشهدان على الاستمرار الوبائي لبعض الأمراض المعدية (المنقولة عبر المياه السل، الأمراض ذات المنشأ الحيواني)، التي لم يتم القضاء عليها بعد، علاوة على ظهور أمراض معدية جديدة مرتبطة بنمط العيش، كالتهاب الكبد الفيروسي والسيدا.
من جهة أخرى، يقول الشاوي إن «الجزائر شهدت تغيراً ديموغرافياً هاماً خلال الأعوام الخمسين الماضية على مستوى قاعدة الهرم، ولا يزال الأطفال والرضع يمثلون نسبة هامة من السكان (نحو 25%) في حين أن نسبة الشيخوخة، أي من سنهم 60 سنة فأكثر، ستمثل قبل عام 2030 نحو 12% من السكان، مقارنة مع 6% خلال الثمانينيات». ووفقاً للشاوي، سوف يُترجم هذا التحول الديموغرافي على المستوى الصحي في زيادة الأمراض غير المعدية، مثل السرطان أو أمراض الأيض، على غرار السكري وأمراض القلب والشرايين.
يعيش البلد إذاً في وضع صحي يفرض اتباع برامج تقليدية لمقاومة الأمراض المعدية وحماية الأم والطفل، وفي الوقت نفسه، وضع وسائل معقدة ومكلفة لمقاومة الأمراض غير المعدية «في مواجهة هذا التحدي المضاعف، فإن الإمكانات الحالية بالكاد تكفي: نعاني من عجر في أسرّة المستشفيات (1.7 على كل ألف ساكن، في حين يجب أن يكون المعدل الأدنى 3 أسرة)، وعجز في الموارد البشرية، وبخاصة الإطار شبه الطبي وأطباء الاختصاص، والأهم، هو نقص الموارد المالية، لأن الإنفاق الصحي العام لا يتجاوز 380 دولاراً في العام لكل ساكن (في مقابل 3 آلاف دولار في بلدان «منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية»)! نحن نسير إذاً في اتجاه وضع صحي مشابه للبلدان المتقدمة، لكن مع عبء الأمراض المعدية ومع إمكانات أقل بكثير».
في الوضع الحالي، لا تستجيب السياسة الصحية لحاجات السكان الأساسية من ناحية الإنصاف والنفاذ للرعاية، ولا تزال التفاوتات في توزيع الإمدادات الصحية والنفاذ إلى المرافق مهمة في سياق تصاعد مطالب المواطنين بتوفير خدمات صحية فعالة. ويتأسف البروفيسور الشاوي قائلاً، «في هذا الوضع المعقد، تعجز السلطات العمومية للأسف عن تحديد ووضع سياسة صحية واقعية، صائبة وفعالة تضع في الحسبان حاجات السكان الصحية والإمكانات المتوافرة، وتحشد جميع الموارد في برنامج يتخذ من المواطن مركزاً لجميع الاهتمامات. وعلى عكس ذلك، يقوم كبار المسؤولين بالاستعراض، ويملي كل منهم سياسة مرحلية، مفروضة في أغلبها من مجموعات ضغط، بدلاً من أن تفرضها المشكلات الحقيقية لصحة المواطنين».
يجب ألا تقتصر سياسات الصحة بعد الآن على المؤسسات الصحية، بل يجب التفكير في مقاربة مشتركة بين عديد القطاعات، تكون في ارتباط مع مجموع السياسات العمومية. كما أن التربية المواطنية على إدارة المياه، واستغلال الموارد المائية، ونوعية الصرف الصحي في الفضاء المدني، ومراقبة نوعية السلع والمواد الغذائية الأساسية، تمثل جميعها عوامل مؤثرة في الصحة، ويجب أخذها في الاعتبار أثناء صياغة سياسة صحية.
يخلص فريد الشاوي إلى أن «ما ينقص بلادنا هو برنامج وطني للصحة، مستلهم حصرياً من حاجات صحة المواطنين، ويقسم أهدافه على المدى القصير والمتوسط والبعيد، مع تحديد الأولويات والاستخدام العقلاني للإمكانات المتوافرة. ولتمويل هذا البرنامج، نرجو أن يشهد اقتصاد البلاد تطوراً إيجابياً في المستقبل، يُرفع الثروة الوطنية في شكل ملحوظ، لأن الجزء المخصص للصحة من تلك الثروة، ليس إلا نسبة من إجمالي الناتج المحلي (يمثل حالياً قرابة 5% منه). يجب علينا إذاً العمل أكثر، والإنتاج في شكل أفضل، حتى نوفر في المستقبل الإمكانات الضرورية لنظام صحي جيد».