نهاية الشهر الماضي، وصل وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، إلى العاصمة تونس. عقد الرجل اجتماعاً مع نظيره التونسي، هشام الفوراتي، أمّن خلاله استعداد تونس لاستقبال جرحى قواته. لم تنتهِ الزيارة عند ذلك الحدّ، بل عقد باشاغا ندوة صحافية، أدلى فيها بتصريح هو الأول من نوعه منذ تأليف الحكومة، حيث قال إن «المغرب العربي يواجه خطراً حقيقياً ما لم تتكاتف دوله لوقف المدّ الدكتاتوري... وبداية ذلك من طرابلس». هذا الكلام ليس النهاية، فبعد إشارته إلى «عدم التعويل على المجتمع الدولي»، دعا الرجل إلى «توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين دول المغرب العربي».لم تأت تصريحات الوزير الليبي من عدم، إذ إنها جاءت بعد استقبال رئاسي في تونس والجزائر لنائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، أحمد معيتيق. كما تبدو متفاعلة مع التصريحات التي صدرت في تونس قبل ذلك بأيام قليلة، خلال مؤتمر صحافي مشترك بين وزيرَي الخارجية التونسي والجزائري. وزير الخارجية الجزائري، صبري بوقادوم، أراد آنذاك بعث رسالة عبر الزيارة نفسها، الأولى له منذ توليه المسؤولية في ظرف حساس تمّر به بلاده، إذ قال في ختامها إن البلدين «على متن قارب واحد»، مضيفاً حول ليبيا: «لا أقبل ولن أقبل بأن تُقصف عاصمة عربية ومغاربية ونبقى صامتين». كما طالب الوزيران، في المؤتمر نفسه، بوقف فوري لإطلاق النار، ولم يكتفيا بذلك، بل وجّها دعوة إلى مصر لعقد اجتماع ما يعرف بـ«آلية دول الجوار للتنسيق حول ليبيا». لم تكن تلك الدعوة الأولى، حيث طالبت تونس قبلها، ولا تزال تطالب، بعقد اجتماع ثلاثي، لكن القاهرة تجاهلت الدعوات، وفضّلت عقد اجتماع لدول أفريقية انتهى إلى إصدار بيان يصبّ في مصلحة حفتر. لم يقف التجاهل عند ذلك الحدّ، إنما جاءت الإجابة على طلب «الوفاق» عقد قمة عربية عاجلة لتناول الهجوم على طرابلس بأن القمم الاستثنائية لا تُعقد إلا لبحث القضية الفلسطينية، ذلك فيما يتجهّز العرب لحضور قمّة حول «التهديد الإيراني» بطلب من السعودية!
يخضع الانقسام في المشرق العربي حول ليبيا أساساً لتقويمات سياسية ــــ أيديولوجية، بين مَن يريد استئصال «الإسلام الحركي» (الإمارات، السعودية، مصر)، ومَن يدعمه (قطر) أو لا مشكلة له معه (الكويت). أما بالنسبة إلى دول المغرب العربي، وخاصة تونس والجزائر، فالمسألة تتجاوز السياسة إلى الأمن. عانى البلدان من تهتّك الحدود الليبية، حيث دفعت الجزائر الثمن مبكراً عبر هجوم عين أميناس (2013)، ثم تونس بهجوم بن قردان (2016)، وتَشكُّل مجموعات إرهابية سرّبت الأسلحة إلى داخل البلاد، لتُستخدم في سلسلة هجمات، وتؤدي إلى تكوّن بؤرة جهادية في الجبال الغربية المتاخمة للجزائر. إلى جانب الخسائر الأمنية، أدى ذلك إلى مضاعفة المصروفات العسكرية في البلدين، لناحية التسليح وانتداب العسكريين وحفر خنادق حدودية ممتدة وتركيز منظومات مراقبة، هذا من دون الحديث عن الخسائر الأخرى، وخاصة في القطاع السياحي التونسي.
صارت دول المغرب العربي تمثّل لحكومة الوفاق حاضنة مهمّة للتنسيق


من خلال كلّ ما تقدم، يمكن فهم مقصد وزير الخارجية الجزائري بحديثه عن أن بلده وتونس «على متن قارب واحد»؛ فأي تدهور أمني قد يفتح باب خسائر جديدة، وأيضاً تصريح باشاغا الذي يدرك أهمية بلاده بالنسبة إلى الجارتين. بناءً عليه، لم تقف جهود حكومة الوفاق في طرق أبواب المغرب العربي.
يوم الاثنين، اتصل وزير خارجية «الوفاق»، محمد الطاهر سيالة، بنظرائه في تونس والجزائر والمغرب، وطالبهم بـ«القيام بدور أكبر لردّ العدوان على طرابلس والضغط لتوحيد الموقفين الإقليمي والدولي». جاء التفاعل سريعاً، حيث حطّ فائز السراج يوم الأربعاء في تونس، وقابل رئيس الجمهورية، وأجرى تحركات سياسية أخرى. بعد ذلك بيوم، طار السراج إلى الجزائر، وحظي هناك أيضاً باستقبال رسمي من طرف الوزير الأول ورئيس الجمهورية، لكن ما لم يحظَ بتغطية إعلامية كبيرة هو اللقاءات الجانبية التي جمعت مسؤولين عسكريين من البلدين.
بهذا، صارت دول المغرب العربي تمثّل لحكومة الوفاق حاضنة مهمّة للتنسيق، وكذلك للنشاط في بعض الأحيان، لا فقط من خلال لقاء السفراء الأجانب، بل كذلك للقاء فاعلين ليبيين (التقى السراج خلال زيارته الأخيرة لتونس عدداً من الأعيان والمثقفين من شرق ليبيا، تحضيراً لتأسيس مبادرة تخرج من إقليم برقة لإنهاء هجوم طرابلس). لكن دعم دول المغرب لـ«الوفاق» لا يتقارب مع ما تقدمه مصر والإمارات والسعودية من أسلحة وأموال ودعم سياسي لحفتر، ويعود ذلك إلى تحفظات كثيرة تجاهها، لكن هذا الدعم يوفر للحكومة متنفساً مهماً سيصير من دونه غرب ليبيا أشبه بجزيرة معزولة.
ثمة عنصر آخر ذو أهمية في النظر إلى الموضوع، وهو المزاج الشعبي في المغرب العربي. لم يترك خليفة حفتر انطباعات جيدة لدى التونسيين والجزائريين خاصة. في ما يتعلق بتونس، نشرت أجهزة الدعاية التابعة لحفتر، عقب زيارته الأولى والوحيدة قبل عامين، شريطاً يظهر استعراضاً في المطار لِما قالت إنه قوة حماية أمنية رافقته. استفزّ ذلك الناس، لأنه تجاوز حدود الأعراف الدبلوماسية، وأظهر تونس كما لو أنها عاجزة عن حماية ضيوفها. كما أظهر أيضاً هوس حفتر بالمظاهر العسكرية.
أما في الجزائر، فقد أَطلقت تصريحات غير مدروسة لحفتر، حول استعداده لشنّ حرب على الجزائر في حال انتهاكها حدود ليبيا، موجة سخط شعبي. لم يكن اسم حفتر متداولاً كثيراً في الجزائر، لكن هذه الحادثة كوّنت له شعبية سلبية، ظهرت حتى خلال التظاهرات ضدّ إعادة ترشيح عبد العزيز بوتفليقة، عبر رسومات استهزائية. الأهم من كلّ ذلك هو الشعور الشعبي بما يمثّله مشروع حفتر من خطر، لناحية التبشير بحكم عسكري يحاول الجزائريون تجاوزه، ويخشاه التونسيون.