تونس | أصدر قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية في تونس، فجر أمس، بطاقة إيداع بالسجن في حقّ زعيم حركة «النهضة»، راشد الغنوشي، بعد ثماني ساعات من التحقيق معه. وكان «الشيخ» أُوقف، مساء الإثنين الماضي، على خلفية ما قاله خلال لقاء لـ«جبهة الخلاص الوطني» المعارِضة، من أن إقصاء حركته سيؤدّي إلى حرب أهلية. ووُجّهت إلى الغنوشي (82 سنة) وستة من أعضاء «النهضة» تهمٌ تتعلّق بـ«الاعتداء المقصود منه تبديل هيئة الدولة، وحمْل السكّان على مهاجمة بعضهم بالسلاح، وإثارة الهرج والقتل والسلب». ويُعتبر اعتقال الغنوشي خطوة متقدّمة من جانب سلطة الرئيس قيس سعيد ضدّ معسكر المعارضة، لِما يمثّله الزعيم الإسلامي من ثقل في صفوف الأخيرة، وهو يأتي في سياق مسار «سلطوي» متواصل يخطّه سعيد، ويعتمد في خلاله خطاباً عدوانياً تجاه معارضيه ومنتقديه، تُرجم قبل أكثر من شهرين باعتقال عدد من المعارضين في ما يُعرف بقضيّة «التآمر على أمن الدولة». وأكد سعيد استمراره في توجّهه هذا خلال خطابه الثلاثاء الماضي، أمام عدد من قيادات وعناصر الأمن لمناسبة العيد الـ67 لقوات الأمن الداخلي، حينما قال: «على الذين يتلوّنون بكلّ لون ويعملون بكلّ السبل على تعطيل مسار تحقيق مطالب الشعب… أن يختاروا على أيّ مقعد يجلسون، فالحق بيّن والباطل بيّن، ومن اختار طريق الباطل فلا مكان له داخل الدولة، وعلينا جميعاً أن نتصدّى لهم حتى لا يبقوا حجر عثرة أمام تطهير البلاد».ولم يُثر اعتقال الغنوشي ردود فعل في الشارع، بخلاف ما توقّع كثيرون، وكأن الجماهير «النهضوية» تخلّت عنه، أو أن توجيهات وصلتْها بضبط النفس والتريّث. كذلك، لم يتداعَ أنصار الحزب إلى مقرّهم المركزي الذي حاصرته قوى أمنية وقامت بتفتيشه ووضعتْه تحت تصرّفها، مانعةً قيادات «النهضة» من الوصول إليه. ويُعدّ هذا الغياب مؤشّراً إلى تراجع قدرة الحركة الإسلامية في تونس على التعبئة، بعدما شكّلت، لعقود، إحدى أكبر القوى السياسية التي عرفتها البلاد. مع ذلك، فإن الخوف عاد ليرخي بظلّه على أنصار «النهضة» ومنتسبيها، وهم الذين ذاقوا السجون والمنافي والملاحقات على مدى أكثر من عقدَين قبل الانتفاضة. والواقع أن مَن يعرف تاريخ التنظيم الإسلامي، يدرك أن ردّ الفعل إنّما يأتي بعد استيعاب الصدمة. وعليه، فإن اعتقال الغنوشي لن يمرّ من دون تداعيات، كما أنه قد يفرض إعادة تنظيم صفوف حزبٍ أضرّ به موقعه في السلطة لمدّة سنوات، فضلاً عن أنه خلق داخله تصدّعات كثيرة، خصوصاً أن منطق «الأخويّة» الذي يحكمه في العمق سيجمع عدداً غير قليل من المناصرين تحت عنوان «تحرير الزعيم». وممّا يعزّز الاحتمال المتقدّم هو أن السكوت على اعتقال «الشيخ» يُعدّ قبولاً بالهزيمة، فيصبح تالياً حلّ الحزب سهلاً، وبالتالي يؤول مصيره إلى الاضمحلال أو التشظّي، علماً أن هذا المصير مرهون بمدى استمرارية نظام سعيد، وأيضاً بالموقف الدولي، لا سيما وأن لـ«النهضة» حلفاء لن يقبلوا بخروجها النهائي من اللعبة، كما أنها لا تزال، إلى حدّ الآن، وفي غياب البدائل، القوّة الوحيدة القادرة على فرْض توازن مع الحكم.
وولّد إيقاف الغنوشي ردود فعل داخلية متباينة، فيما بدت الجهات التي كانت تطالب بمتابعته ومحاسبته في ملفّات أخرى، من أهمّها اغتيال القياديَّين السياسيَّين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إضافة إلى قضايا التسفير إلى بؤر التوتّر وحماية جماعات متطرّفة، متردّدة في اتّخاذ موقف إزاء اعتقاله. ويعتقد قسم من معارضي النظام أن الإيقافات الأخيرة، التي شملت الغنوشي، ما هي إلّا محاولات إلهاء عن الملفّات الداهمة المتعلّقة بالجانب الاقتصادي والاجتماعي، ومسعى آخر من جانب النظام للتغطية على فشله في إيجاد حلول بعد تعثّر مسار التفاوض مع «صندوق النقد الدولي»، وفي ظلّ استمرار الضغط الخارجي، بخاصّة الأوروبي، وتتابع تحذيرات مسؤولين غربيين من إمكانية إفلاس الدولة التونسية واتّجاهها نحو الفوضى. وينتقد عدد من السياسيين هذا المسار، على رغم مساندتهم إجراءات 25 تموز وما تلاها، ويعتقدون بأن سعيد يعبّر في المجمل عن طموحاتهم، لكنه أخطأ في الأساليب والآليات، ولم يواجه الملفّات الحقيقية في مسألة المحاسبة، بما في ذلك ما تعلّق أخيراً براشد الغنوشي، إذ يَعتبرون تورّط الأخير في «ملفّات الإرهاب»، وتغطيته على «ملفّات الفساد»، خلال العشرية الماضية، كما يقولون، أجدر بالمحاسبة.
في هذا الوقت، لا يفوّت الرئيس التونسي فرصة إلّا وينتهزها للضغط على القضاء؛ فخلال كلمته أمام القيادات الأمنية، والتي صادفت بعد يوم من اعتقال الغنوشي، قال: «على القضاء أن يلعب دوره في هذه المرحلة التي تعيشها تونس حتى يكون في موعد مع انتظارات الشعب، بل في موعد مع التاريخ». ودأب سعيد على كيل التهم لخصومه أثناء التحقيق وقبل المحاكمات، وتوجيه الخطاب التحذيري المبطّن إلى القضاء، ممّا اعتبَره متابعون شكلاً من أشكال التدخُّل في شؤون السلطة القضائية وترهيباً للقضاة. ولا يبدو أن سلسلة الإيقافات ستتوقّف، إذ تشير التسريبات إلى إمكانية اعتقال قيادات سياسية أخرى ونقابيين ومناضلين مدنيين.
وبالتزامن مع اعتقال الغنوشي، منعت السلطات التونسية الأنشطة في كلّ مقرّات حركة «النهضة» في البلاد، وأنشطة «جبهة الخلاص الوطني» في منطقة تونس الكبرى، والتي تضمّ أربع محافظات. كذلك، منعت تنظيم ندوة صحافية في مقرّ حزب «تونس الإرادة» الذي أسَّسه الرئيس الأسبق، المنصف المرزوقي، استناداً إلى قانون متعلّق بحالة الطوارئ يعود إلى عام 1978، وصدر في سياق صراع نظام بورقيبة مع «الاتحاد العام التونسي للشغل». والإجراء الأخير ليس أقلّ أهميّة من حملة الإيقافات لأنه يستهدف حرية التنظيم وحرية الاجتماع، وجرى اعتماده قبل أيام لمنع اجتماع للحزب «الدستوري الحر»، بزعامة عبير موسي. أيضاً، يوحي الإجراء بأن له ما بعده، ليس فقط في وجه أنشطة الأحزاب المعارضة، بل أيضاً ضدّ تنظيمات مدنية ونقابية. وتجدر الإشارة إلى أن «الاتحاد العام التونسي للشغل» تراجع عن تنظيم تجمّع عمّالي كبير، لمناسبة «عيد العمال» العالمي في الأول من أيار، وذهب في اتّجاه الاحتفال مركزيّاً في قصر المؤتمرات في العاصمة، على أن تنظِّم هياكله الجهوية احتفالات في مقارّها. كما تتخوّف أحزاب من منْع تنظيم أنشطتها مستقبلاً، على غرار «التيار الديموقراطي» الذي يستعدّ لتنظيم مؤتمره الثالث بعد استقالة أمينه العام، غازي الشواشي، المعتقل في قضيّة «التآمر»، والذي خلفه منذ بداية العام نبيل حاجي، المعروف بانتقاداته لحكم سعيد.