بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط 2005، كان من اللافت مسارعة الدول الكبرى إلى تبنّي قضية اكتشاف حقيقة من اغتاله، والسير في إنشاء لجنة تحقيق دولية، ومن ثم محكمة خاصة بلبنان، بالتزامن مع الحملات الإعلامية والتصاريح الرسمية من جانب رؤساء الدول الكبرى الداعية إلى التشدد في ملاحقة الفاعلين للاقتصاص منهم وسوقهم إلى العدالة (الدولية). في خضمّ فصول هذه الأوبرا السوداء الحزينة، أوفد إلى لبنان بيتر فيتزجيرالد على رأس لجنة لتقصي الحقائق، مكلّفاً من العالم أجمع. بحضوره إلى موقع الجريمة أمام مسبح السان جورج في بيروت، خلص فيتزجيرالد إلى نتائج، أو توصيات، كانت بنتيجة دراسته لتاريخ لبنان والمنطقة، وتبيّن له بالتالي تورط النظام السوري وأقطاب لبنانيين، منهم أمنيّون جرى توقيف بعضهم وعزل آخرين في فترة لاحقة.
غادر فيتزجيرالد لبنان، ليُكمل العمل بعده الألماني ديتلف ميليس كرئيس للجنة التحقيق الدولية. وقد بنى هذا الأخير تقاريره على نظريات وفرضيات دُحضت لاحقاً. خلفه بلجيكي يدعى سيرج براميرتس، عمل بسرية خلافاً لسلفه، وبدا أنّه أكثر مهنيّةً منه. ظهر ذلك من خلال رحلاته إلى دول عدّة، ومن محتوى تقاريره التي تضمّنت مقاربة لوقائع شَعَر معها المراقبون بأنّ لجنة التحقيق الدولية هي فعلاً في طور النمو والتقدم. يُلحظ ذلك من تقدّم تقارير براميرتز عن تقارير سلفه، لكنّه لأسباب «تخصّه»، ترك موقعه، ليتبعه الكندي دانيال بلمار. وإذا ما كانت هذه اللجنة قد اتخذت لنفسها منحىً تطوّرياً، كما ظهر فعلاً، فبلمار يجب أن يكون نسخة معدَّلة ومتابعة لسلفه، وفق التسلسل المنطقي.
لو كنت في مكان بلمار الذي صار مدعياً عاماً في المحكمة الخاصة بلبنان، لاتّبعت ما قام به الأب الأول للجنة التحقيق الدولية، أي بيتر فيتزجيرالد، لناحية دراسة لبنان والمنطقة والأحداث التي جرت، ولكنت قد توسعت بذلك، لعلّني أستفيد من بعض المعلومات التي إذا ما اطّلع عليها عاقل يجد ترابطاً فيها. ولعلّ ذلك كان أسهل عليّ من جمع ستة مليارات معلومة هاتفية وداتا هائلة للبصمات والصور والهويات، وملفات مكدّسة يستغرق الاطّلاع عليها، لا درسها، عشرات السنين.
كنت عدت إلى ما قبل ثلاثين عاماً، واطّلعت على ما تيسّر من معلومات عن احتلال جهيمان العتيبي للمسجد الحرام، وكيف تمكّن «وسيط» من إقناع الفرنسيين من جهة، والسعوديين من الجهة الأخرى، بأن يقوم الفريق الأول بمهمة إنهاء هذه الأزمة، وكان أن استُخدمت الغازات السامة، وقُضي على محتلي الحرم المكّي. وقد جرى كلّ ذلك على مرأى من أسامة بن لادن، الذي كان لا يزال شاباً يافعاً. شاهد ذلك بمرارة وغصة، بعد محاولة والده، مراراً، التملص من الطلبات السعودية بتسليم الفرنسيين خرائط الإنشاءات التي نفذتها شركته خلال توسيع الحرم وملحقاته. وكان حريّاً ببلمار الاستعلام عن اللبنانيين الذين كانوا في الحج أثناء أزمة جهيمان العتيبي.
لو كنت بلمار، لطلبت من الحكومة الروسية، وتحديداً القيّمين على أجهزة الأمن والاستخبارات، تسهيل إطلاعي على المعلومات التي مُرّرت من جانبهم إلى الأمن السوري الموجود في لبنان عام 1999. تلقّف الأمن السوري هذه المعلومات مع استخبارات الجيش اللبناني، وتضمّنت «أخباراً» عن وجود نشاط مكثّف لمتشددين إسلاميين في مخيم في منطقة الضنيّة شماليّ لبنان. هناك حصلت مواجهة شرسة تمكّن الجيش اللبناني في نهايتها من قتل المسلحين وتوقيفهم، بينما فر آخرون، وتمكّن بعضهم من التواري عن الأنظار، فيما لا يزال بعضهم الآخر ناشطاً حتى اليوم بأسماء وألقاب مختلفة.
لو كنت بلمار لسألت الصحافي فارس خشان عن مجريات المحاكمات التي غطّاها وكتب عنها في الصحف، وهو تابع آنذاك عن كثب حيثيات المرافعة والحكم لمنفّذي جريمة اغتيال الشيخ نزار الحلبي عام 1995. ولقرأت بعد ذلك محاضر التحقيقات في اغتيال القضاة الأربعة على أقواس العدالة في قصر عدل صيدا. لربما كان ذلك سيوسّع آفاقي في التحقيق.
لو كنت بلمار لكشفت على مجريات أحداث أمنية مترابطة حصلت بين لبنان وسوريا والأردن، من مقتل الأميركية بوني ويذرول في صيدا عام 2002، ومحاولة قتل المبشّر المسيحي الهولندي في طرابلس عام 2003 بعبوة ناسفة. نجا الهولندي لكنّ معاونه الأردني جميل أحمد الرفاعي، الذي اعتنق المسيحية، قضى بهذه العبوة. ولكنت أيضاً استمعت إلى الموقوف اليمني معمر العوامي (ابن الشهيد)، وسألته عن كيفية تمكّنه ومن معه من وضع عبوة ناسفة في مطعم الماكدونالدز في الدورة عام 2003. كذلك كنت سألت مجموعة «فرسان الحق» في الأردن عن نتيجة تحقيقاتها في قضية عزمي الجيوسي ومن معه، ولا سيّما اللبنانيين المرتبطين بهم، وعن نشأة تنظيم «شرفاء الأردن»، الذي تبنّى اغتيال الأميركي لورنس فولي، ولركّزت على الظروف التي مكّنت أحمد الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي) من مغادرة الأردن.
لو كنت بلمار لسألت السلطات الاتحادية الأوسترالية وضباط الارتباط في الشرق الأوسط عن الأردني الأوسترالي صالح الجمل، الذي حضر إلى لبنان ومنه إلى سوريا، حيث نفّذ مع آخرين اعتداءً مسلحاً على مبنى الأمم المتحدة في دمشق عام 2004، وعاد سالماً إلى لبنان.
لو كنت بلمار لذهبت إلى روما واستمتعت بأكل البوظة واحتسيت القهوة في مكاتب الشرطة الإيطالية وفهمت من هو المسؤول عن عملية الـ«vendetta» (الانتقام) التي منعوا وقوعها عام 2004 في بيروت، بعد تزويد أجهزة الأمن اللبنانية بتفاصيل مثيرة عن اللبناني إسماعيل الخطيب وجماعته، ولتأكدت فعلاً مما إذا كان هدف هذه الجماعة استهداف السفارة الإيطالية في وسط بيروت، أم كانت هناك محاولة لاغتيال أحدهم أمام مقهى الـ«إتوال» بكمية المتفجرات التي ضبطت بنتيجة التحقيقات، والتي لم تُستكمل بسبب موت إسماعيل المذكور في زنزانة فرع المعلومات.
لو كنت بلمار، لسعيت إلى تضييق الإطار الجغرافي لإجراءات التحقيق، ولحصرت ذلك بأماكن محددة باتت معروفة للمحقّقين، وهي ليست شاسعة كصحاري العراق وشبه الجزيرة العربية، ولا وعرة كجبال أفغانستان وأوديتها. ولكنت كلفت الفرق التقنية الخاصة الموضوعة بتصرفي بإجراء مسح آثار لعيّنات الــ(DNA) والبصمات وكل ما توافر، واطّلعت على السجلات الطبية، وضبطت حزمة اتصالات للتدقيق فيها، وأجريت كشفاً على المبالغ التي تدفقت ومن ثم خرجت للتوزيع من نقطة جغرافية واحدة صغيرة معروفة. كذلك لكنت قارنت بين محتوى بنك المعلومات الذي توافر لديّ من الدراسات المذكورة أعلاه، وقاطني هذه النقطة الجغرافية المحددة، غير غافل عن أشخاص أُعلن مقتلهم أو اختفاؤهم، لعلّني أخلص إلى «الحقيقة».
لو كنت بلمار، لطلبت من الدول الداعمة للمحكمة الدولية تزويدي مخازن ذاكرة أقمار المراقبة الاصطناعية العائدة إليها. ولكنت استخرجت الصور الجوية لهذه النقطة الجغرافية، مستثمراً الصورة بكاملها، غير مجتزأة، لعلني أشاهد شاحنة الميتسوبيشي لدى دخولها وخروجها من هذه النقطة الجغرافية المحددة، ولا سيّما أنّ هذه الأقمار قادرة على التقاط صورة واضحة للغطاء المعدني فوق أنابيب المجاري في أيّ شارع.