لن تغيّر التمنيات التي يتبادلها اللبنانيون بمناسبة بدء السنة الجديدة من حقيقة أنّ كلّ المشاكل والأزمات التي شهدها عام 2010 ستُرحَّل، بكاملها تقريباً، إلى العام الذي يوشك أن يبدأ. حتى بعض الانفراجات التي حصلت في العلاقات اللبنانية ـــــ السورية الرسمية، عادت وتلاشت، وتكاد تعود إلى نقطة التوتر السابقة لولا استمرار الحوار السوري ـــــ السعودي، ولولا استمرار الصلة، ولو في حدودها الدنيا، بين الرئيسين اللبناني والسوري.بشكل رئيسي ، ارتبط تصعيد التوتر في الوضع الداخلي، بتأكد توجه التحقيق الدولي نحو اتهام «عناصر» من حزب الله بالمشاركة في جريمة اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري، في 14 شباط من عام 2005. وكما درجت العادة في حالات التأزم، حتى الأقل أهمية من مثل هذا الاتهام، فقد دخل الانقسام اللبناني ـــــ اللبناني مرحلة جديدة من مراحله «التاريخية» المتوترة. وكالعادة أيضاً، فقد شلّت المؤسسات أو تعطّلت، فيما يسعى أصحاب مصلحة فئوية داخلية وأصحاب مصالح خارجية، إلى استثمار هذا الحدث بطريقة يمكن أن تدفع فوراً نحو إشعال حرب أهلية. حرب تطلقها شرارة فتنة مذهبية ارتباطاً باتهامات القرار الاتهامي الذي سيصدر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في الأسابيع القادمة. وقد «بشّرنا» جون بولتون، أحد رموز المحافظين الجدد وممثل واشنطن السابق في الأمم المتحدة، بأنّه «بات شبه مؤكد أنّ القرار الاتهامي سيتهم مسؤولين سوريين وآخرين من حزب الله وقد يؤدّي إلى تجدّد حرب عام 2006». وقال كلاماً مشابهاً أيضاً، وزير خارجية بريطانيا، وليم هيغ. أما المسؤولون الرسميون الأميركيون، فكانوا أكثر دبلوماسية، إذ اكتفوا بتجاهل حصول المساعي السورية ـــــ السعودية. فيما سارع منسّق أمانة 14 آذار إلى عدم تفويت الفرصة، مكرًّراً الكلام الأميركي والغربي والإسرائيلي، عن أنّ لبنان سيشهد زلزالاً فور صدور القرار الاتهامي سببه «حماقة قد يرتكبها حزب الله»!
في شقّ من المواقف الأميركية والإسرائيلية ومواقف فريق داخلي لبناني ارتبط بهما ولا يزال، محاولة لن تتراجع أبداً من أجل توظيف المحكمة في الصراع الإقليمي والمحلي. وتزداد أهمية هذا التوظيف مع تبدّل موازين القوى لغير مصلحة أصحاب هذه المحاولات في المنطقة وفي لبنان بسبب التعثّر الأميركي والإسرائيلي على حدّ سواء. يحاول هؤلاء ملء الفراغ، واستعادة زمام المبادرة، ومنع الخصوم من تسجيل مزيد من النقاط.
إنّ عنوان المحكمة، الذي سيأكل اللبنانيون ويشربون معه، في عامهم القادم على أقل تقدير، يفضح الشقّ الداخلي من الأزمة اللبنانية. وتكفي في هذا السياق مقارنة وعود رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان قبل سنتين، بوعوده مطلع هذه السنة، لندرك حجم التراجع في وضعنا الداخلي.
لقد انتقل رئيس الجمهورية في الأسابيع الماضية إلى الدفاع عن حقه وحده، في إدارة الأزمة، وذلك يشير من جهة، إلى ما بلغته هذه الأزمة من استعصاء، ويشير من جهة أخرى إلى محدودية دور الدولة ممثلةً برئيس البلاد في إيجاد المخارج والحلول. وهكذا انتقل الرئيس إلى خط الدفاع الأخير، وهو عدم تمكين أحد الأطراف من أن يخرج منتصراً فتدخل البلاد في حلقة جديدة من الانقسام المشحون بكلّ عناصر التوتر، والمرشّح سريعاً ليتخذ شكل الحرب الأهلية.
ولا يجوز إلقاء كامل المسؤولية على الرئيس سليمان، فهو، في الواقع، يستطيع أن ينسب لنفسه، وعن حق، تفوّقًاً في مجال التوافقية: مارس ذلك قائداً للجيش ثم في موقعه الرئاسي الراهن. والسعي إلى التوافق هو، في ظروف الأزمات الكبرى، شرط لا بدّ من السعي إلى تنفيذه منعاً للانزلاق نحو الأخطر، أي الاقتتال الداخلي، لكنّ الرئيس سليمان، وسواه، ومهما توافر من حسن النوايا وصلابة التصميم وتنوّع الأدوات، يبقى، مع ذلك، عاجزاً عن بلوغ الحلول، أو حتى التسويات الضرورية والمؤقتة، بسبب طبيعة النظام السياسي. فهذا النظام يكرّس، بشكل مطّرد، قدرات أطراف المحاصصة الرئيسية فيه على ممارسة حق الفيتو.
لا يقود هذا التوصيف حكماً، إلى استنتاج من نوع أنّه ليس بالإمكان إذاً، أفضل ممّا كان. ونستذكر هنا أنّ الرئيس سليمان باشر بعد أشهر قليلة من تولّيه سدّة الرئاسة طرح مجموعة من العناوين الإصلاحية، من بين أبرزها إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وفق نصّ المادة 95 من الدستور، وكذلك اعتماد مبدأ النسبية في قانون الانتخابات النيابية (بالمناسبة جرى تطبيق النسبية في بعض الانتخابات الجامعية وكانت المحصّلة شديدة الإيجابية لجهة اتساع التمثيل وامتصاص الكثير من التوترات). يجب القول إنّ الرئيس سليمان لم يمارس ما يكفي من الضغوط لمباشرة مسار إصلاحي كالذي اقترحه، وهو اصطدم بأصحاب المصالح من سدنة الهيكل الطائفي والمذهبي، وأيضاً من المتوهمين بإمكان الحفاظ على المصالح والحصص عبر المناصفة والامتيازات وعلى حساب الكفاءة والمساواة بين المواطنين. كان ينبغي للرئيس في حينه أن يستنفر القوى الاجتماعية والسياسية ذات المصلحة، وخصوصاً الجيل الشاب. وكان عليه أن يخوض معركة لا مجرّد تمرين سياسي أو بروفة إعلامية.
لكن يجب الاعتراف أيضاً بأنّ الرئيس لم يحصل على الدعم الضروري من قوى التغيير والإصلاح والديموقراطية، فهي أيضاً اكتفت بالمراقبة وراوحت في مدار عجزها المتفاقم، ثمّ إنّ رياح الصراع الإقليمي ما لبثت أن لفحت الوضع اللبناني في محاولة جديدة للنيل من المقاومة ومن سلاحها ومن مبدأ وجودها أداةً للتحرير ولاستعادة الأرض والحقوق.
إنّ التعويل على دور الرئاسة، هو أيضاً ذو بُعد جوهري لجهة استعادة شيء من زمام المبادرة من جانب الرموز والمؤسسات اللبنانية. ومهما بلغت الغايات من الأهمية وحتى الأولوية، يبقى أنّ على اللبنانيين أن يجدوا الطريق إلى تفاهمهم الداخلي، فتعزيز دور الرئاسة هو خطوة في هذه المسيرة الصعبة والإجبارية، لكن من مقوّمات المضيّ في هذه المسيرة الإنقاذية، القدرة على ابتداع ميثاق وطني جديد. ميثاق يرتكز على المساواة بين المواطنين سبيلاً إلى تحريرهم من المحاصصة والانتماء الطائفيين والمذهبيين، وسبيلاً إلى التخلّص من الدويلات المتعدّدة والمتناحرة، لمصلحة الدولة المركزية الواحدة والموحّدة.
يبقى أنّه لا قيمة لمثل هذا الكلام وسواه، ما لم يمثّل، بطريقة ما جزءاً من برنامج للتغيير يثبت أصحابه قبل سواهم أنّهم جديرون بمثل هذه المهمة الوطنية. إنّ الخيبة من تجارب قوى التغيير تكاد تكون الظهير الأفعل لقوى الانقسام والطائفية. هذا أمر يجب تسجيله في نهاية هذا العام أملاً في أن تنطلق مع بداية العام المقبل محاولات لبناء قوى التيار الديموقراطي وبطريقة أكثر جديةً وأقل فئوية.
لا بدّ أخيراً، من تأكيد أنّ الشعب اللبناني في إنجازاته في حقول المقاومة والتحرير والانفتاح والتعلق بالحرية وبالديموقراطية، يستحقّ نظاماً أفضل، كما يستحق رجال دولة وحكم حقيقيين، لم يقع عليهم إلا نادراً في تاريخه المعاصر؛ إذ ذاك تصحّ كلمة كلّ عام وأنتم بخير.
* كاتب وسياسي لبناني