strong>روبرت كابلان*حروب العملات. الهجمات الإرهابية. الصراعات العسكرية. أنظمة مارقة تسعى إلى الحصول على أسلحة نووية. دول تنهار. واليوم، تسريبات كبيرة لملفات سريّة. ما سبب هذه الإضرابات؟ غياب أيّ قوة إمبراطورية. خلال الحرب الباردة، كان العالم منقسماً بين الأنظمة الإمبراطورية التابعة للسوفيات والأميركيين. غطّت الإمبراطورية السوفياتية، وريثة روس كييف وموسكو العصور الوسطى وسلالة رومانوف، أوروبا الشرقية، القوقاز وآسيا الوسطى. كما أنّها ساندت أنظمة في أفريقيا، الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. الإمبراطورية الأميركية، وريثة إمارة البندقية وبريطانيا العظمى، ساندت أيضاً حلفاء لها، وخصوصاً في أوروبا الغربية وشرق آسيا. واستكمالاً لتقليد إبقاء عتاد في أنحاء إمبراطورية روما، أبقت واشنطن على قواعد عسكرية في ألمانيا الغربية وتركيا وكوريا الجنوبية واليابان، مطوّقة بذلك الاتحاد السوفياتي.
رغم أنّ انهيار الإمبراطورية السوفياتية أدّى إلى سعادة كبيرة في أوروبا الوسطى، إلّا أنّه سبّب صراعات إثنية في البلقان والقوقاز أودت بحياة مئات الآلاف من الضحايا، وخلقت ملايين من اللاجئين. (في طاجيكستان وحدها قُتل أكثر من خمسين ألف شخص في الحرب الأهلية التي ذُكرت بالكاد في الإعلام الأميركي في التسعينات). سبّب الانهيار السوفياتي فوضى اقتصادية واجتماعية في روسيا نفسها، وكذلك في الشرق الأوسط. لم يكن اجتياح الرئيس العراقي صدام حسين للكويت بعد عام على سقوط جدار برلين، حادثة. كما لم يكن ممكناً تصوّر اجتياح أميركي للعراق لو كان الاتحاد السوفياتي، وهو راعٍ قوي لبغداد، على قيد الحياة في 2003. ولو لم ينهَر الاتحاد السوفياتي أو ينسحب بطريقة مخزية من أفغانستان، لم يكن أسامة بن لادن سيجد ملاذاً هناك، ولم تكن ربما اعتداءات 11 أيلول 2001 ستقع. هذه هي نتائج انهيار الإمبراطورية.
واليوم، نجد أنّ ركيزة السلام النسبي في الحرب الباردة، أي الولايات المتحدة، تتراجع، في الوقت الذي لا تزال فيه القوى الجديدة مثل الصين والهند غير مستعدة أو جاهزة لملء الفراغ. لن يكون هناك انهيار مفاجئ من جانبنا، فالولايات المتحدة، على عكس الاتحاد السوفياتي، تتمتع بحرية اقتصادية وسياسية تحافظ عليها بقوة. لكن، ببساطة، فإنّ قدرة أميركا على تحقيق القليل من النظام في العالم تتراجع ببطء.
أيام الدولار الأميركي كاحتياط مالي عالمي قليلة. وهي تشبه بذلك دبلوماسيتنا المتعثرة بفضل التسريبات الأمنية المتعددة التي تميّز عهد التواصل الإلكتروني، العدائي تجاه الحكم الإمبراطوري.
كذلك هناك القوة العسكرية الأميركية. تربح الجيوش الحروب، لكن في عصرٍ يكون فيه مسرح الصراعات كونياً، تكون القوات البحرية والجوية مؤشراً دقيقاً إلى القوة الوطنية. (أيّ اعتداء من إيران، على سبيل المثال، سيكون من الجو والبحر). لقد انخفض عدد السفن الحربية الأميركية من 600 في عهد ريغان إلى 300 اليوم، في الوقت الذي تكبر فيه بحرية الصين والهند. ستتعزز هذه التوجهات مع الخفوضات الدفاعية التي ستأتي بالتأكيد لحماية أميركا من أزمتها المالية. تستمر الولايات المتحدة في السيطرة على البحار والجو وستبقى كذلك في السنوات المقبلة، لكن المسافة بينها وبين الدول الأخرى تصغر.
الأعمال الإرهابية، الاعتداءات الإثنية، والسعي إلى امتلاك أسلحة قاتلة والكشف عن برقيات سريّة كلّها أفعال أشخاص لا يستطيعون الهروب من مسؤولياتهم الأخلاقية. لكنّ شعارات عصرنا هذا محددة، وهي تخصّ إمبراطورية ماتت وكانت أهم قوة أرضية في العالم، وأخرى كانت أهم قوة بحرية في العالم. قوة تجد نفسها غير قادرة على التأثير في الأحداث كما كانت تفعل من قبل، حتى لو كانت أقل تأكّداً من القضية التي تناضل من أجلها.
هذا ليس اتهاماً لسياسة الرئيس أوباما الخارجية. هناك أدلة قليلة على وجود بديل ناجع لتصرّفه مع كوريا الشمالية وإيران والعراق، في الوقت الذي يدور فيه نقاش حاد بشأن الطريقة الصحيحة التي يجب اتّباعها في أفغانستان. لكن ليس هناك شك في أنّ النظام ما بعد الإمبراطوري، الذي نعيش فيه، يسمح باضطرابات أكثر ممّا سمحت به الحرب الباردة. تضافر قوانا من أجل إبطاء تدهور أميركا في عالم ما بعد العراق وما بعد أفغانستان يعني تجنب تشابكات الأرض المنهِكة، والتركيز في المقابل على أن نصبح عامل توازن عالمي. يعني ذلك ترصّد المشاكل في الأفق عبر قواتنا الجوية والبحرية، والتدخل فقط حين تصبح الفظاعات المرتكبة تهدّد حلفاءنا والنظام العالمي عموماً. قد يكون هذا في مصلحة أميركا، لكن إعلانه قد يشجع الدول التي تسبّب المشاكل، نظراً إلى أنّ الأنظمة المارقة مؤثّرة في بعض المناطق من العالم. تستمر كوريا الشمالية في السير قدماً في برنامجها النووي، وتقصف جزيرة كورية جنوبية مبرهنة عن حدود القوة الأميركية والصينية في عالم نصف فوضوي. خلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفياتي يبقي كوريا الشمالية في مكانها فيما سيطرت بحرية الولايات المتحدة على المحيط الهادئ كما لو كان بحيرة أميركية. وإضافة إلى الصراع على الأرض في الشرق الأوسط، فإنّ السيطرة الاقتصادية للصين على المنطقة اليوم، تحوّل منطقة غرب الهادئ من بيئة مستقرة وهادئة إلى أخرى معقّدة. إنّ البحرية الصينية متأخرة عقوداً عن تلك الأميركية، لكن ذلك ليس بعزاء. يجب على الولايات المتحدة، بعدما اختبرت الحروب على الأرض، أن تستعد لتحديات في البحر. مع تحسن قدراتها التنقيبية، فإنّ الصين ستعرّض عمليات البحرية الأميركية إلى مزيد من الخطر. ويترافق ذلك مع شبكات «السونار» البحرية الصينية والحروب الإلكترونية التي تضعها في خدمة الصواريخ البالستية المضادة للسفن، إلى جانب غواصاتها الكهربائية والنووية.
بالنسبة إلى تايوان، لدى الصين 1500 صاروخ بالستي قصير المدى موجّه نحو الجزيرة، رغم أنّ هناك المئات من الرحلات الجوية كل أسبوع تربط بين البر الرئيسي والجزيرة في تجارة سلمية. حين تستوعب الصين تايوان، سلمياً، في السنوات المقبلة، سيكون ذلك إيذاناً بحلول بيئة عسكرية متعددة الأقطاب وأقل قابلية للتوقّع في شرق آسيا.
في الشرق الأوسط، نرى الانهيار الحقيقي لنظام الحرب الباردة الإمبراطوري. استبدل الانقسام الإسرائيلي ـــــ العربي، الذي يعكس الانقسام الأميركي ـــــ السوفياتي، باتفاق قوة أقل استقراراً. هذا مع وجود منطقة التأثير الإيراني من لبنان إلى غرب أفغانستان، التي تواجه إسرائيل والعالم العربي السنّي. يترافق ذلك مع صعود تركيا الإسلامية الجديدة التي لم تعد مقرّبة من الغرب. نعم، تفرض الإمبراطوريات النظام، لكنّه ليس نظاماً من أجل الخير بالضرورة، كما يظهر من نطاق إيران الإمبراطوري الصاعد. تفتقد التهديدات الأميركية ضد إيران الصدقية بسبب تعبنا الإمبراطوري الناتج من العراق وأفغانستان. انطلاقاً من مصلحتنا، لن نتورط على الأرجح في حرب جديدة في الشرق الأوسط، حتى لو أدى ذلك إلى توجه المنطقة نحو صراع نووي. هناك رأي يقول إنّه إذا تراجعنا، فإنّ الصين ستتقدم كجزء من عالم ما بعد أميركي مستقر، لكن يفترض ذلك أنّ كل القوى الإمبراطورية هي نفسها، حتى لو أنّ التاريخ يبرهن بصراحة العكس. كما أنّه لا يمكن لإمبراطورية أن تملأ الفراغ الذي تخلّفه أخرى.
كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قوتين تحملان رسالة، مدفوعتين بمثل عليا ـــــ الشيوعية والديموقراطية الليبرالية ـــــ ستحكمان العالم عبرها. لكن ليس للصين مفهوم مماثل. فهي مدفوعة بجوعها إلى الموارد الطبيعية (المشتقات النفطية والموارد المعدنية) التي تحتاج إليها لترفع مئات الملايين من مواطنيها إلى الطبقة الوسطى.

تفتقد التهديدات الأميركيّة ضد إيران الصدقية بسبب تعبنا الإمبراطوري الناتج من العراق وأفغانستان

قد يحرّض ذلك على نشوء نظام تبادل تجاري بين المحيط الهندي وأفريقيا وآسيا الوسطى، يمكن أن يحقق السلام مع أدنى نسبة من التدخل الأميركي. لكن من سيملأ الفراغ الأخلاقي؟ هل تهتم الصين فعلاً إذا طوّرت طهران أسلحة نووية، طالما لديها منفذ إلى الغاز الإيراني؟ كما قد لا تكون بكين مرتاحة تماماً مع نظام كوريا الشمالية، الذي يجوّع شعبه، لكنّها تدعمه في كل الأحوال.
يمكن القول إنّ القوة تترافق مع مسؤولية أخلاقية، لكن على الأرجح ستمر عقود قبل أن يصبح لدى الصين قوات بحرية وجوية تمكّنها من أن تكون شريكاً في نظام أمني عالمي. في الوقت الراهن، تحصل بكين على رحلة مجانية مقابل حماية طرق النقل البحري، التي تشارك بحرية الولايات المتحدة فيها. وتشاهدنا الصين نصارع من أجل تأمين الاستقرار في أفغانستان وباكستان كي تستطيع يوماً ما استخراج ثرواتهما الطبيعية.
إذا كانت الحرب الباردة فترة استقرار نسبي، وفّرها التفاهم الضمني بين الإمبراطوريتين، فنحن اليوم أمام إمبراطورية متراجعة، أي الولايات المتحدة الأميركية، التي تحاول أن تفرض النظام العالمي وسط قوى عالمية صاعدة وأحياناً عدائية.
تلوح في أفق كلّ هذا خارطة العالم المكتظة. في أوراسيا، أدت هجرة سكان الريف إلى خلق مدن كبيرة جداً تتأثر بالإعلام، وتتّجه إلى التدمير بفعل كارثة بيئية. تُستبدَل الجيوش التي يصعب نشرها بصواريخ بالستية طويلة المدى تبرهن عن قدرات أسلحة الدمار الشامل. تجعل التقنيات الجديدة التأثير كبيراً بين كلّ الأمور بسرعة ونسبة أكبر من قبل. التدفّق الحر للمعلومات، كما تظهر فضائح ويكيليكس، وتصغير الأسلحة كما برهنت التفجيرات في المدن الباكستانية، يعملان ضد صعود الأنظمة الإمبراطورية وضدّ استمرارها.
كانت الإمبراطورية الأميركية دوماً بنيوية أكثر مما كانت روحانية. تشبه شبكة حلفائها تلك التي تعود إلى ماضيها الإمبراطوري، ويمكن مقارنة التحديات التي تواجه قواتها في الخارج بتحدّيات قوى الإمبراطورية السالفة. لكن الجمهور الأميركي، وخصوصاً بعد إخفاقات العراق وأفغانستان، لم يعد يرغب في مغامرات كانت في جوهر الإمبريالية منذ العصور القديمة.
يفتقد الأميركيون عقلية إمبراطورية. لكن التقليل من التزامنا بقضايا الكون قد يؤدي الى نتائج مدمرة على البشرية. الاضطرابات التي نشهدها اليوم هي عيّنة مما سيحصل إذا تراجعت بلادنا عن مسؤولياتها الدولية.
* عن صحيفة «واشنطن بوست»