إعداد وترجمة ديما شريفعُقدت نهاية الأسبوع الماضي (19 و20 تشرين الثاني) في العاصمة البرتغالية لشبونة، قمة لحلف شمالي الأطلسي أُقرت فيها الاستراتيجيّة الجديدة للسنوات العشر المقبلة. وفي الوقت الذي دُعيت فيه روسيا لعقد لقاء مع الحلف ودوله وإجراء مصالحة بعد قطيعة حرب جورجيا في 2008، أعلنت موسكو ترحيبها بالدرع الصاروخية التي ستُنشر في تركيا ورومانيا وتشيكيا. لكن رغم هذا الترحيب الروسي، ثمة من يعتقد أنّ الدرع ستكون موجّهة ضد روسيا بالذات، لا ضد إيران كما يحلو للفاعلين في الحلف ترداده في الفترة الأخيرة. إلا أن البيان الختامي للقمة خرج من دون ذكر إيران أو أي دولة أخرى كمصدر تهديد أو كهدف للدرع الصاروخية، وكأنّ الدرع ليست موجّهة ضد أحد

ديانا جونستون *
الأمر الوحيد المفقود في أجندة قمة «المفهوم الاستراتيجي» لحلف شمالي الأطلسي هو مناقشة جديّة للاستراتيجية. يعود ذلك في جزء منه إلى أنّ الحلف بشكله الحالي، لا استراتيجية لديه، ولا يمكنه أن يحصل على واحدة خاصة به. في الحقيقة، فإنّ الناتو هو أداة لاستراتيجية الولايات المتحدة.
تمارس الولايات المتحدة المفهوم الاستراتيجي العملاني الوحيد، وحتى هذا بات شبحاً بعيد المنال. ويبدو أنّ القادة الأميركيين يفضلون إطلاق المواقف وعرض الحلول على تعريف الاستراتيجيات.
واحد ممّن يجرؤون على تعريف الاستراتيجية هو زبغنيو بريجينسكي، عراب المجاهدين الأفغان حين كان يمكن استخدامهم لتدمير الاتحاد السوفياتي. لم يخجل بريجينسكي من القول صراحة إنّ الهدف الاستراتيجي لسياسة الولايات المتحدة هو «الصدارة الأميركية»، وذلك في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» الصادر في 1993.
أما في ما يتعلق بالناتو، فقد وصفه كواحدة من المؤسسات التي تخدم إدامة السيطرة الأميركية، و«جعل الولايات المتحدة شريكاً أساسياً حتى في الشؤون الداخلية الأوروبية». في «شبكتها العالمية من المؤسسات المتخصصة»، التي تتضمن بالطبع الناتو، تمارس الولايات المتحدة القوة عبر «التفاوض المستمر، والحوار، والنشر، والسعي وراء توافق رسمي، رغم أنّ هذه القوة تنبع من مصدر واحد هو العاصمة واشنطن».
يناسب الوصف تماماً مؤتمر «المفهوم الاستراتيجي» في لشبونة، والتوافق المطلوب بين الأعضاء. توافق على السلام عبر الحرب، نزع السلاح النووي عبر التسلح النووي، والأهم، الدفاع عن الدول الأعضاء عبر إرسال قوات عسكرية لإغضاب السكان الأصليين في أراضٍ بعيدة.

الاستراتيجية ليست توافقاً تكتبه اللجان

إنّ الأسلوب الأميركي القاضي بـ«التفاوض المستمر، والحوار، والنشر، والسعي وراء توافق رسمي»، ينهك أيّ مقاومة قد تظهر من وقت لآخر. وبالتالي، فإنّ مقاومة ألمانيا وفرنسا لعضوية جورجيا في الناتو، وكذلك لـ«الدرع الصاروخية» السيئة السمعة، كانت من دون غاية مفيدة. وهذان الأمران هما استفزازان ملائمان لإطلاق سباق تسلح جديد مع موسكو والإضرار بالعلاقات المثمرة بين ألمانيا وفرنسا من جهة، وروسيا من جهة ثانية.
لكن الولايات المتحدة لا تقبل أيّ إجابة نفي، وتبقى تكرر أوامرها حتى تختفي المقاومة. الاستثناء الوحيد الأخير هو الرفض الفرنسي للانضمام إلى اجتياح العراق. لكن الرد الأميركي الغاضب أثار الذعر في الطبقة السياسية الفرنسية المحافظة ودفعها إلى مساندة نيكولا ساركوزي الموالي لأميركا.

البحث عن «التهديدات» و«التحديات»

أعلن عن جوهر «المفهوم الاستراتيجي» وجرى تطبيقه للمرة الأولى في ربيع 1999، حين تحدى الناتو القانون الدولي، الأمم المتحدة وميثاقه الخاص، عبر شنّ حرب عدائية خارج حدوده الدفاعية على يوغوسلافيا. حوّل ذلك الناتو من حلف دفاعي إلى آخر هجومي.
بعد عشر سنوات، اختيرت عرابة هذه الحرب، مادلين أولبرايت، لترؤّس «لجنة خبراء»، وبقيت تعدّ شهوراً لأجندة لشبونة عبر مؤتمرات ومشاورات ولقاءات.
كان الأبرز في هذه التجمعات اللورد بيتر ليفين، وهو رئيس مجلس إدارة شركة «لويدز أوف لندن»، عملاق التأمين، والرئيس التنفيذي السابق لشركة «رويال داتش شل» للنفط، جيروين فان دير فير.
هؤلاء ليسوا محللين استراتيجيين عسكريين، لكن مشاركتهم قد تطمئن مجتمع الأعمال العالمي إلى أنّ مصالحه حول العالم تؤخذ في الاعتبار.
بالفعل، فإنّ سلسلة من التهديدات عدّدها الأمين العام للحلف أندرس فوغ راسموسن في خطاب له العام الماضي، توحي أنّ الناتو يعمل في خدمة قطاع التأمين. قال إنّّ من المطلوب أن يهتم الناتو بالقرصنة، الأمن المعلوماتي، التغيّر المناخي، الأحداث المناخية المتطرفة مثل العواصف والفيضانات، ارتفاع مستوى البحار، الانتقال السكاني الكبير إلى المناطق غير المأهولة (أحياناً عبر الحدود). هذا إلى جانب النقص في المياه، الجفاف، الانخفاض في إنتاج الطعام، الاحتباس الحراري، انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، تراجع الغطاء الجليدي ما يكشف عن موارد لا يمكن الوصول إليها، فعالية الوقود والاعتماد على المصادر الخارجية، إلخ.
لا يمكن اعتبار معظم هذه التهديدات من النوع الذي يتطلب حلاً عسكرياً. وبالتأكيد، فإنّه لا مسؤولية لـ«الدول المارقة» أو «بؤر الطغيان» أو «الإرهابيين الدوليين» عن التغير المناخي، لكن راسموسن يصوّرها كتهديد للناتو.
ما ينذر بالشؤم من التعداد هو اعتبار الناتو أنّ كل هذه المشاكل تتطلب حلاً عسكرياً. التهديد الأساسي للناتو هو زواله، والبحث عن «مفهوم استراتيجي» هو بحث عن أعذار لاستمراره.

التهديد الذي يمثّله الناتو للعالم

التهديد الأساسي للناتو هو زواله، والبحث عن «مفهوم استراتيجي» هو بحث عن أعذار لاستمراره
في الوقت الذي يبحث فيه عن تهديدات، فإنّ الناتو نفسه هو تهديد للعالم. التهديد الأساسي هو مساهمته في تقوية النزعة التي تقودها أميركا للتخلي عن الدبلوماسية والمفاوضات لمصلحة القوة العسكرية.
يبدو هذا جلياً في تضمين راسموسن للظواهر المناخية في لائحته الخاصة بالتهديدات ضد الناتو، في الوقت الذي يجب فيه أن يكون ذلك مشكلة تتطلب دبلوماسية دولية ومفاوضات.
الخطر الأكبر هو أنّ الدبلوماسية الغربية تُحتضَر. لقد حددت الولايات المتحدة النبرة: نحن طاهرون، نملك القوة، يجب على باقي الدول أن تطيع وإلا...
تعتبر الدبلوماسية ضعفاً، ولم تعد وزارة الخارجية الأميركية منذ زمن في قلب السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
مع شبكتها الواسعة من القواعد العسكرية حول العالم، كما مع ملحقيها العسكريين في السفارات ومهماتها العديدة لزبائنها من الدول الأخرى، أصبحت وزارة الدفاع الأميركية اكثر قوّة وتأثيراً عالمياً من وزارة الخارجية.
أدّى وزراء الخارجية دوراً في الترويج للحرب عوض عن الدبلوماسية، مثل مادلين أولبرايت في البلقان، وكولين باول الذي أحضر معه أنابيب اختبار زائفة إلى الأمم المتحدة.
يحدد مستشار الأمن القومي السياسة المتبعة إلى جانب مراكز أبحاث ذات تمويل خاص والبنتاغون، مع تدخل من الكونغرس الذي يتألف من سياسيين يطمحون للحصول على عقود عسكرية لناخبيهم.
يجر الناتو حلفاء واشنطن الأوروبيين على الطريق نفسها. وكما حلّ البنتاغون مكان وزارة الخارجية، تستخدم الولايات المتحدة الناتو بديلاً محتملاً عن الأمم المتحدة.
كانت حرب كوسوفو في 1999 الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. واليوم، تخفّف فرنسا، في عهد ساركوزي، من تمثيلها المدني حول العالم وتستأصل الخدمة الخارجية الفرنسية التقليدية بعدما انضمت إلى قيادة الناتو المشتركة.
ولن يكون للسياسة الخارجية الخاصة بالاتحاد الأوروبي التي تؤسسها لايدي آشتون أي سياسة أو سلطة خاصة بها.

الجمود البيروقراطي

خلف النداءات بشأن «القيم المشتركة»، يعمل الناتو وفق مبدأ الجمود البيروقراطي. الحلف نفسه هو نمو للصناعة العسكرية الأميركية. لستين عاماً، كانت الصفقات العسكرية وعقود البنتاغون مصدراً أساسياً للأبحاث الصناعية، الأرباح، الوظائف، المهن في الكونغرس وحتى التمويل الجامعي. تفاعل هذه المصالح المختلفة يؤدي إلى تحديد استراتيجية أميركية ضمنية لإخضاع العالم.
يدخل ضمن هذا المشروع وجود شبكة تزداد في التوسع مؤلفة من 800 إلى ألف قاعدة عسكرية على أراض أجنبية، إلى جانب اتفاقات ثنائية مع دول ـــــ زبائن. تؤدي هذه الاتفاقات إلى إجبار الدول على شراء أسلحة أميركية وإعادة تقويم منهج عمل قواتها العسكرية لتصبح موجهة نحو الأمن الداخلي، مع تدخل محتمل في حروب أميركا العدوانية. كذلك تسعى إلى استخدام هذه العلاقات مع القوى المحلية للتأثير في سياسات الدول الضعيفة. وتعطي التدريبات العسكرية الدائمة مع الزبائن البنتاغون معرفة شاملة بالقدرة العسكرية لهذه الدول، لدمجها في الآلة العسكرية الأميركية. كما تسعى إلى نشر شبكة قواعدها وتدريباتها العسكرية لتطويق وعزل وترهيب، وفي النهاية، استفزاز الدول الكبرى التي تعدّ تهديداً مثل روسيا والصين.
إحدى أهم مميزات مشروع إخضاع العالم أنّه يجري تجاهله يوماً بعد يوم من جانب معظم الشعوب الخاضعة، والحلفاء المهيمن عليهم، أي أعضاء الناتو. كما أنّ الدعاية التي لا تنتهي عن «التهديدات الإرهابية» وغيرها من الإلهاءات تبقي معظم الأميركيين غير واعين لما يحصل. كما أنّ معظم الأميركيين جاهلون بباقي العالم وبالتالي غير مهتمين به.
المهمة الأساسية للمحللين الاستراتيجيين الأميركيين الذين يتنقّلون بين مراكز الأبحاث، مجالس إدارة الشركات والمؤسسات الاستشارية والحكومة، تبرير هذه الصناعة الكبيرة أكثر من إدارتها فعلياً. في الحقيقة هي تدير نفسها.
منذ انهيار «التهديد السوفياتي»، رضي صانعو السياسات بتهديدات خفية أو محتملة. إنّ عقيدة الولايات المتحدة العسكرية هي التحرك بشكل استباقي ضد أيّ منافسة محتملة لسيطرة أميركا على العالم.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، احتفظت روسيا بأكبر ترسانة أسلحة خارج الولايات المتحدة، والصين اليوم هي قوة اقتصادية صاعدة. لا تهدد أيّ منهما الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. على العكس، فإنّ الاثنتين مستعدتان للتركيز على الأعمال السلمية، لكنّهما حذرتان من محاصرتهما عسكرياً، ومن التدريبات العسكرية الاستفزازية، التي تقوم بها الولايات المتحدة على أبوابهما. قد تكون الاستراتيجية العدائية الضمنية غير واضحة لمعظم الأميركيين، لكنّ القادة في الدول المستهدفة يفهمون ما يحصل.

مثلّث روسيا ــ إيران ــ إسرائيل

تمثّل إيران اليوم «العدو» المحدد، وتدّعي واشنطن أنّ «الدرع الصاروخية» التي تفرضها على حلفائها الأوروبيين مصممة لحماية الغرب من إيران، لكنّ الروس يعرفون أنّ الدرع موجهة ضدهم. هم يفهمون بوضوح أنّ إيران لا تملك صواريخ مماثلة ولا تنوي أصلاً استخدامها ضد الغرب.
من الواضح لكل المحللين أنّه إذا طوّرت إيران صواريخ وأسلحة نووية، فهي ستكون رادعاً ضد إسرائيل، الدولة النووية الكبرى في المنطقة التي تتمتع بحرية مطلقة في الاعتداء على جيرانها. لا تريد إسرائيل أن تخسر هذه الحرية، وهي بالتالي ترفض الرادع الإيراني. يهوّل الإسرائيليون من الخطر الإيراني وهم عملوا عملاً متواصلاً لنقل عدوى شكّهم إلى الناتو. لقد وصفت إسرائيل بأنّها «عضو الحلف الرقم 29»، وعمل مسؤولوها جاهدين مع مادلين أولبرايت للتأكد من أنّ «المفهوم الاستراتيجي» يتضمن المصالح الإسرائيلية.
خلال السنوات الخمس الماضية، قامت إسرائيل والناتو بتدريبات بحرية مشتركة في البحر الأحمر والمتوسط، وشاركا في جولات تدريبية في بروكسل وأوكرانيا.
في 16 تشرين الأول 2006، أصبحت إسرائيل الدولة الأولى غير الأوروبية التي توصلت إلى ما يسمى اتفاق «برنامج تعاون فردي» مع الحلف للتعاون في 27 مجالاً مختلفاً.
من الضروري الإشارة إلى أنّ إسرائيل هي الدولة الوحيدة خارج أوروبا التي تشارك الولايات المتحدة في مجال المسؤولية في القيادة الأوروبية (عوضاً عن القيادة المركزية التي تغطي باقي الشرق الأوسط).
حلّ البنتاغون مكان وزارة الخارجية الأميركية، وتستخدم واشنطن الناتو بديلاً من الأمم المتحدة
في مؤتمر عن العلاقات بين الناتو وإسرائيل عُقد في هرتسيليا في 24 تشرين الأول 2006، قالت وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، تسيبي ليفني، إنّ «الحلف بين الناتو وإسرائيل طبيعي جداً». وأضافت «تشارَك الاثنان في رؤية استراتيجية موحدة. بطرق عدّة، إسرائيل هي خط الدفاع الأول عن طريقتنا المشتركة في العيش». طبعاً، لا يرى الجميع في الدول الأوروبية أنّ المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة تعبّر عن «طريقة مشتركة في العيش».
ما من شك أنّ هذا هو أحد الأسباب التي لم تؤدِّ الى تحويل العلاقات العميقة بين الحلف وإسرائيل إلى عضوية لهذه الأخيرة، وخصوصاً بعد العدوان الوحشي على غزة، إذ إنّ مثل هذه الخطوة ستثير الاعتراضات في الدول الأوروبية.
ورغم ذلك، تستمر إسرائيل في دعوة نفسها إلى الناتو، بدعم كبير من أتباعها الأوفياء في الكونغرس الأميركي. سيكون موقف إسرائيل العدائي تجاه جيرانها الإقليميّين مسؤولية جديّة للناتو. هذا الأخير هو عرضة للانجرار الى حروب تختارها إسرائيل، وهي ليست بأي شكل في مصلحة أوروبا.
لكن هناك إيجابية استراتيجية في الصلة الإسرائيلية، يبدو أنّ الولايات المتحدة تستخدمها ضد روسيا. فعبر الانضمام إلى مؤيدي نظرية «الخطر الإيراني» الهستيرية، تستطيع الولايات المتحدة أن تستمر في الادّعاء، بكلّ جدية، أنّ الدرع الصاروخية موجهة ضد إيران لا روسيا. لا يمكن أن نتوقع أن يُقنع ذلك الروس، لكن يمكن استخدام ذلك لجعل اعتراضاتهم تبدو مجنونة، على الأقل بالنسبة إلى الغربيين.
يعرف الروس أنّ الدرع ستحيط بروسيا التي لديها صواريخ تحتفظ بها للردع. عبر تحييد الصواريخ الروسية، ستطلق الولايات المتحدة يدها في الهجوم على روسيا التي لن تستطيع أن ترد. وبالتالي، مهما قيل، فإنّ الدرع في حال بدء العمل بها، ستسهّل أيّ اعتداء مستقبلي على موسكو.

تطويق روسيا

يستمر تطويق روسيا في البحر الأسود، البلقان ومنطقة القطب الشمالي. ويستمر مسؤولو الولايات المتحدة في الادعاء أنّ أوكرانيا يجب أن تنضم إلى الناتو. ومنذ أسابيع، نصح ايان، ابن زبغنيو بريجينسكي، أوباما في مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» بعدم التخلي عن «رؤياه» المتعلقة بأوروبا «كاملة وحرة وآمنة»، ومن ضمنها «عضوية محتملة لجورجيا وأوكرانيا في الناتو والاتحاد الأوروبي».
لا يؤخذ في الاعتبار واقع أنّ معظم الشعب الأوكراني ضد عضوية الناتو. بالنسبة إلى ابن سلالة بريجينسكي النبيلة، الأقلية هي الأهمّ. التخلي عن الرؤيا «يضعف أولئك القاطنين في جورجيا وأوكرانيا الذين يرون مستقبلهم في أوروبا». كما أنّه يعزز طموح الكرملين للحصول على «مجال للتأثير». فكرة أنّ الكرملين يطمح لـ«مجال تأثير» في أوكرانيا عبثية، نظراً إلى العلاقات التاريخية القوية بين روسيا وأوكرانيا، التي كانت عاصمتها كييف مهد الدولة الروسية.
تعود أصول عائلة بريجينسكي إلى غاليسيا، وهي جزء من غرب أوكرانيا كان في الماضي ضمن بولندا، حيث تعيش الأقلية المناهضة لروسيا.
تتأثر السياسة الخارجية الأميركية بهذه المنافسات الأجنبية التي لا يعرفها معظم الأميركيين. الإصرار الأميركي الكبير على احتواء أوكرانيا يستمر رغم أنّه يوحي بطرد أسطول البحر الأسود الروسي من قاعدته في شبه جزيرة القرم، التي تسكنها أغلبية تتحدث بالروسية وتناصر موسكو. هذه وصفة للحرب مع روسيا.
في هذا الوقت، يستمر المسؤولون الأميركيون في إعلان مساندتهم لجورجيا التي يرغب رئيسها المدرب أميركياً في الحصول على مساندة الناتو في حربه المقبلة ضد روسيا.
إلى جانب المناورات البحرية الاستفزازية في البحر الأسود، تقوم الولايات المتحدة، الناتو ودول أخرى ليست أعضاءً في الحلف (حتى اليوم) مثل السويد وفنلندا بتدريبات عسكرية كبيرة في بحر البلطيق، على مرمى حجر من مدينتي سان بيترسبورغ وكالينينغراد الروسيتين. كما جذبت أميركا بإصرار إلى المنطقة القطبية، كندا والدول الاسكاندينافية (ومنها الدنمارك عبر غرينلاند) في انتشار عسكري موّجه بطريقة مفتوحة ضد روسيا.
تطرّق فوغ راسموسن إلى هذا الانتشار الكبير في المنطقة القطبية حين تحدث عن «خطر» سيعالجه الناتو وهو «تراجع الجليد القطبي، ووجود موارد بقيت حتى اليوم مغطّاة بالجليد».
قد يعتقد المرء أنّ الكشف عن هذه الموارد فرصة للتعاون في استخراجها، لكن هذا ليس موجوداً في العقلية الأميركية الرسمية. في تشرين الأول الماضي، قال الأدميرال جيمس ستافريديس، القائد الأعلى للناتو في أوروبا، إنّ الاحتباس الحراري والسباق على الموارد قد يؤديان إلى صراع في المنطقة القطبية.
في كانون الثاني 2009، أعلن الناتو أنّ «الشمال» «ذو أهمية استراتيجية للحلف». ومنذ ذلك الوقت، مارس الحلف ألعاباً حربية مهمّة، يُعدّ على ما يبدو من خلالها للصراع مع روسيا على الموارد القطبية.
فككت روسيا تفكيكاً كبيراً دفاعاتها في القطب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ودعت الى مفاوضات حول تسويات للسيطرة على الموارد. في أيلول الماضي، دعا رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين إلى بذل جهود مشتركة لحماية النظام البيئي الضعيف، وجذب الاستثمارات الخارجية، والعمل من أجل حلّ الخلافات عبر القانون الدولي، لكن الولايات المتحدة تفضّل أن تحل القضية عبر عرض قوتها. قد يؤدي ذلك الى سباق تسلح جديد في المنطقة القطبية، وحتى الى مواجهات مسلحة.
رغم كلّ هذه التحركات الاستفزازية، من المستبعد أن تسعى الولايات المتحدة الى حرب فعلية مع روسيا، رغم أنّه لا يمكن استبعاد المناوشات والحوادث هنا وهناك.
تبدو سياسة الولايات المتحدة قاضية بتطويق وترهيب روسيا حتى تقبل أن يجري تحييدها في أيّ صراع مستقبلي مع الصين.

استهداف الصين

السبب الوحيد لاستهداف الصين يشبه المثل الذي يقال عن الراغبين في تسلق الجبال: «هي هنا، وهي كبيرة»، ويجب على الولايات المتحدة أن تتصدر كل شيء. الاستراتيجية للسيطرة على الصين هي نفسها المتبعة مع روسيا. إنها الخطط الحربية الكلاسيكية: التطويق، الحصار، ودعم الفوضى الداخلية.
من الأمثلة على هذه الاستراتيجية أنّ الولايات المتحدة تعزز بطريقة استفزازية وجودها العسكري على طول السواحل الصينية على المحيط الهادئ، وتعرض «حماية ضد الصين» على الدول في غرب آسيا.
كذلك تحاول اليوم أن تستميل الهند لإبعادها عن منظمة شانغهاي للتعاون، كي تمثّل ثقلاً موازناً للصين. وتدعم واشنطن وحلفاؤها أيّ انشقاق داخلي قد يضعف الصين، سواء عبر الدالاي لاما، الايغور أو ليو تشياباو، المنشق المسجون.
منحت لجنة من المشرعين النروجيّين ليو تشياباو جائزة نوبل للسلام. كان على رأس هذه اللجنة ثوربيورن جاغلاند، وهو النسخة النروجية عن طوني بلير، وقد شغل منصبي رئيس وزراء ووزير خارجية النروج، وكان أهم مناصري الناتو في بلاده.
خلال مؤتمر للبرلمانيين الأوروبيين العام الماضي، رعته الناتو، قال جاغلاند: «حين لا نكون قادرين على وقف الطغيان، تبدأ الحرب... لهذا لا يمكن الاستغناء عن الناتو... هو المنظمة العسكرية الوحيدة المتعددة الأقطاب التي تتجذر في القانون الدولي... هي منظمة تستطيع الأمم المتحدة استخدامها عند الضرورة، لوقف الطغيان، كما فعلنا في البلقان».
هذا تصريح جريء وكاذب، وخصوصاً أنّ الناتو تحدى علناً القانون الدولي والأمم المتحدة لشن الحرب في البلقان، حيث كان يوجد صراع عرقي لا طغيان. عبر اختيار ليو، فإنّ اللجنة النرويجية التي يترأسها جاغلاند، أعلنت أنّها «آمنت لوقت طويل بالعلاقة الوثيقة بين حقوق الإنسان والسلام».
هذه «العلاقة الوثيقة»، في متابعة منطق جاغلاند، تؤدي الى قصف أي دولة أجنبية (كما فعل حلف الناتو في يوغوسلافيا) تفشل في احترام حقوق الإنسان وفق التفسيرات الغربية.
بالفعل، فإنّ القوى نفسها التي تثير الضوضاء حول «حقوق الإنسان»، أي الولايات المتحدة وبريطانيا، هي التي تشن معظم الحروب حول العالم.
التصريح النروجي يوضح أنّ منح جائزة نوبل لليو (الذي أمضى بعضاً من شبابه في النروج) يعود في الحقيقة إلى دعم من الحلف.
«الديموقراطيات» للحلول مكان الأمم المتحدة
يضيف الأعضاء الأوروبيون في الناتو القليل إلى القوة الأميركية للولايات المتحدة. مساهمتهم هي في الأساس سياسية، ويبقي حضورهم وهم «المجتمع الدولي» حياً.
يمكن اعتبار السيطرة على العالم الذي يسعى إليه الجمود البيروقراطي في البنتاغون كحرب صليبية من جانب «ديموقراطيات» العالم لنشر نظامها التنويري السياسي على الدول المتمردة.
ترى الحكومات الأوروبية الاطلسية أنّ «ديموقراطيتها» دليل على حقها المطلق في التدخل في شؤون باقي الدول.
وبناءً على المغالطة التي تقول إنّ «حقوق الإنسان ضرورية من أجل السلام»، يؤكدون حقهم في صنع الحرب. السؤال الأساس هنا هو هل بقيت لدى «الديموقراطية الغربية» القوة الكافية لتفكيك آلة الحرب هذه قبل فوات الأوان؟
* عن «كاونتربانش» (CounterPunch)، نشرة سياسية أميركية تصدر مرتين في الأسبوع