أما وقد انتهت الأزمة السياسية في العراق، ولو باتفاق على الخطوط العامة، فلا بد من وقفة تأمّل لحال بلاد الرافدين واستعادة الثوابت في مقاربتها، بعدما ضاعت في ثنايا معركة انتخابية تتجاوز في أبعادها حكاية تداول سلطة، لتطاول الاصطفاف الإقليمي لبغداد لعقود مقبلة، الذي يمكن استشفافه من جردة لحسابات الربح والخسارة للأطراف الداخلية والخارجية


إيلي شلهوب *
حملت عملية تداول السلطة التي تحولت أزمة سياسية في العراق استغرق حلها أكثر من ثمانية أشهر، سلسلة من المتغيّرات في المشهد السياسي الداخلي، حيث ظهرت اصطفافات جديدة، وفي الحراك الإقليمي الذي شهد إعادة تموضع، لا بد من تسليط الضوء عليها، لما لها من تداعيات تتجاوز بلاد الرافدين، التي لا يمكن تقويم الوضع فيها إلا بإجراء تقويم دقيق لحسابات الربح والخسارة.
لكن قبل ولوج هذا البحث، لا بد من إعادة التأكيد على بعض الثوابت، التي يمكن أن يكون الاهتمام الظرفي بالمتغيرات العراقية على مستوى الانتخابات ونتائجها قد حجبها، وأوّلها أن الوجود الأميركي، وإن شارف على نهايته، يبقى احتلالاً، كما كانت عليه الحال مذ وطئت قدما أول جندي أميركي أرض العراق. وبالتالي فإن كل متعامل مع الأميركي هو باختصار متعامل مع الاحتلال، مهما كان دافعه وراء ذلك. لا يعني هذا أبداً إبداء ندم على سقوط نظام صدام حسين، الذي لا أحد يمكنه الدفاع عنه بأيّ حال، وهو لا يعني أيضاً تعميم صفة «العمالة» على جميع المتعاملين، الذين حاجج بعضهم بما ارتكبه النظام السابق في حقهم من كبائر ليبرر انضمامه إلى الغزو أو العملية السياسية، التي أطلقها الاحتلال قبل أن تخرج من يديه، فيما حاجج البعض الآخر بما سماه «تقاطعاً ظرفياً للمصالح». بل المقصود أنّ مبررات التعامل لم تعد موجودة في عراق ٢٠١٠، حيث لم يعد هناك وجود لصدام، والاحتلال الأميركي يرتّب أمتعته للرحيل، وبالتالي فإن التمسك بالولاء للمستعمر وحلفائه في المنطقة بات يعني خياراً استراتيجياً قد اتخذه هذا الشخص أو ذاك الحزب عن سابق تصور وتصميم، وباتت واجبةً محاكمته، سياسياً، على هذا الأساس، حتى إن كان بعضهم يرى أنه لا ينتظر شهادة بالوطنية من أحد.


الولاء للمستعمر وحلفائه في المنطقة يعني خياراً استراتيجياً قد اتخذه هذا الشخص أو ذاك الحزب عن سابق تصور
لا يستبطن هذا الأمر أيّ دعوة إلى تجاهل أو أيّ محو من الذاكرة للعقد الفاصل بين الإعداد للغزو وإرهاصات ما بعد الاحتلال، أي المرحلة الممتدة من عام ٢٠٠٢ حتى ٢٠١٢ مع ما حملته من دماء ودمار للحجر والبشر والكيان وجرائم بحق الإنسان والإنسانية. في المقابل، فإن التشبّث بإجراء مراجعة لهذه المرحلة لم تنضج ظروفها بعد، أو القيام بتصفية حسابات عنها، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التوتر والتعنت وإراقة الدماء، بل وارتماء من تعامل لمصلحة مع الاحتلال في أحضانه، وخاصةً في ظل خريطة سياسية غير مساعدة، وبالتالي نكون أمام حال من يريد قتل الناطور لا قطف العنب. علماً بأن مراجعة هذه المرحلة ومحاكمة رموزها تعدّان أمراً حيوياً لنهوض هذا البلد، لكن يجب أن يحصل ذلك على الطريقة الجنوب أفريقية التي قامت على الاعتراف والاعتذار والمغفرة من دون العقاب، وذلك عن كل ما ارتكبه العراقيون بحق بعضهم بعضاً من تطهير عرقي وخطف وتصفيات واعتقالات وتعذيب وتفجيرات ضد المدنيين والمقدسات ومجازر وسرقات ونهب، وخاصةً أن جميع الأطياف العراقية «أبدعت» في هذه الممارسات من دون استثناء...
أما في ما يتعلق بالاحتلال الأميركي، فتلك قصة أخرى؛ تجب ملاحقته لدى كل الجهات المختصة في أنحاء المعمورة لمحاسبته على كل ما ارتكبه في حق العراق، وأولى التهم تدمير هذا البلد وجميع بناه وإخراجه من المعادلة كدولة عظمى إقليمية تمثّل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل.
ثاني هذه الثوابت، ولا نتحدث هنا من حيث الأهمية، هو أنه إذا كانت مكة القبلة الدينية (عند المسلمين) فإن القبلة السياسية عند كل شريف في هذه المنطقة (والعالم) تبقى فلسطين. وإذا كان لا بد من إجراء تقويم جيواستراتيجي لنتيجة الصراع على العراق، فيجب أن يحتسب على قاعدة المكان الذي تموضعت فيه بلاد الرافدين في ما يتعلق بالصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، بمعنى موقعها ممّا بات يُعرف بمحوري الممانعة والاعتدال. من هنا يجب فهم أن الرغبة في انتصار الفريق العراقي المتحالف مع المحور السوري الإيراني، لا تنبع من إعجاب بعينَي محمود أحمدي نجاد أو بشار الأسد، ولا حباً بالسوهان (حلويات إيرانية) ولا بالبرازق، بل هي نتاج الالتزام المعلن (بالقول والفعل) بهذا المحور في النضال من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية عبر محاربة إسرائيل وراعيتها واشنطن مع كل ما تحمله من مشاريع تستهدف تعزيز الهيمنة الأميركية على المنطقة.
أما ثالث الثوابت، فهو السعي نحو بناء مواطنة عراقية مدنية تتجاوز التمايزات الطائفية والمذهبية والعرقية، التي إن تعاملنا معها، ولا نزال، فمن باب التعامل مع المرض الخبيث، الذي يجب علاجه واستئصال أسبابه، وهي نوعان: خارجية ممثلة بالاحتلال ومن خلفه إسرائيل، اللذين يبدو جلياً أنهما يسعيان إلى إثارة النعرات لإضعاف مجتمعاتنا عبر تفتيتها إلى متّحدات في صراع في ما بينها. وداخلية ممثلة بغياب الإجماع على مفهوم الهوية والانتماء، وبتاريخ مثقل بالآلام والمآسي، وحاضر لم تنضج فيه بعد الظروف الممهدة للمصالحة وطنية.
وبالحديث عن المواطنة العراقية تجدر الإشارة إلى أنها كانت على الدوام «مواطنة قلقة» في علاقتها بمحيطها الإقليمي، على ما يفيد خبراء في الشأن العراقي. ومنبع القلق هذا يعود إلى أن أهل بلاد الرافدين سعوا دوماً إلى التفلّت من مركز القرار الإقليمي، ويصح ذلك من أيام الحكم الصفوي في إيران مروراً بالاحتلال البريطاني حتى يومنا هذا. فضلاً عن أن العراقيين، بحسب الخبراء أنفسهم، لا يأمنون لعاصمة واحدة، وكثيراً ما كانوا محكومين بهاجس التوازن الإقليمي، ويسعون جاهدين إلى التفاهم مع الإقليم من أجل أن يلبّوا حاجة هذه المواطنة القلقة. ولا بد أن التعدديّة العرقية والمذهبية في العراق أدت دوراً في الحؤول دون قدرة هذا البلد على بناء جمهورية مستقلة مستقرة وقوية في الوقت نفسه، علماً بأن العراق ليس كلبنان، لا خيار أمامه سوى دمشق، بل بالعكس، هو مطوّق من خمس عواصم يمكن اللجوء إلى أيّ منها في أي وقت.
كلام هؤلاء الخبراء جاء في محاولة لتفسير «هذا التقلب في الولاء لدى الأطراف العراقية. لعل حزب الدعوة يمثّل النموذج الأكثر تعبيراً عن هذه المواطنة القلقة: نزعة صدّامية لضبط الإيقاع، واستعداد لنقل البندقية ساعة كان من أجل التخلص من ضغط معين. هناك أيضاً المجلس الأعلى، الذي لم يجد مشكلة أبداً في الانتقال من الحضن الإيراني والتزلف للسعودية ومصر وتركيا من أجل تجنب واقع ما، علماً بأنه يقتات بالفتات الإيراني. وهي حال مقتدى الصدر المقيم في قم والذي يهدد بالانتقال إلى لبنان، والمقصود طبعاً الانتقال من الحماية الإيرانية إلى الحماية السورية. حتى الأكراد، من أيام مصطفى البرزاني الذي لم يجد حرجاً من اللجوء إلى الاتحاد السوفياتي، حيث لا رابط من أي نوع كان يجمعه به، بل حتى الاستعانة بالإسرائيلي لتأمين مصالحه».
وبغض النظر عن صدقية هذه النظرية، التي تجد في التاريخ، عن غير قصد، ما يبرر الظاهرة الأبرز التي ظهرت إلى العلن خلال الأشهر الثمانية الماضية، والمقصود نقل البندقية من كتف إلى كتف، لا بد من استعادة أداء الأطراف، العراقية والإقليمية على حد سواء، خلال هذه الفترة على قاعدة مقارنة الأهداف التي أُعلنت مع الانتخابات وما تحقّق منها، وذلك من أجل الإضاءة على بعض الأمور، وفي الوقت نفسه تفريق الرابح من الخاسر.

المالكي: النزعة الصدّامية

لعل النزعة الصدامية للمالكي، الذي نجح في تحقيق هدفه المعلن منذ ما قبل الانتخابات في التجديد لنفسه رغم الرفض المعلن له من الجميع في الداخل والخارج، أبرز ما انتهت إليه الأزمة من ظواهر تثير قلق العديد من الأطراف في أن «يبتلع الجمل بما حمل» في إشارة إلى الدولة والنظام، وخاصةً أن المعروف أن «العراقي ينتخب الحاكم دوماً»، على ما تقول المعادلة الشهيرة في بلاد الرافدين.
وصحيح أن المالكي، على مستوى قطع الحساب الداخلي، يعدّ أكبر الفائزين من المعركة السياسية الأخيرة، لكنه فوز جاء بثمن مرتفع قبضه الصدريون والقائمة العراقية (بلا إياد علاوي) مناصب وحصصاً، والأكراد التزاماً بتحقيق مطالبهم، وقبضته إيران تعهدات سياسية، وسوريا اعترافاً بدورها في العراق مع عقود نفطية وتجارية أبرز بنودها إحياء خط أنابيب كركوك ـــــ بانياس. ورغم أن العمل لا يزال جارياً بنظام المحاصصة الطائفية، على الطريقة اللبنانية المقيتة، فإنه يُسجل للمالكي نجاحه (ليس وحده طبعاً) في إدخال سنّة العراق في العملية السياسية من الباب العريض، من دون أي تنازل للسعودية، بما تمثله من مشروع إقليمي. كما يُسجل له إجادته قراءة موازين القوى الإقليمية، التي تميل باتجاه محور طهران ـــــ دمشق، فكانت التسويات التي أبرمها مع هاتين العاصمتين، على حساب تحالفه القديم مع العم سام الذي يراه مُدبِراً.

الصدر: اللقاء في ٢٠١٥

أما ثاني الفائزين المحليين فلا شك أنه التيار الصدري، الذي نجح في تحقيق هدفه الذي حرص على تسريبه منذ إعلان نتيجة الانتخابات، في الحصول على القدر الأكبر من المناصب، وخاصةً الخدمية منها ما يعزز فرصه الانتخابية في الدورة المقبلة في ٢٠١٥، ويقيّد سلطة المالكي بالتزامات وتعهدات، وإطلاق المعتقلين الصدريين، ولا يقيّد حريته كتيار سياسي في الحركة. ناور ببراعة، بدءاً بإعلان السيد مقتدى الصدر أنه «لا يقبل المالكي إلا على نحو أكل الميتة» وتسريبه أن مرشحه لرئاسة الحكومة هو إبراهيم الجعفري، إلى انسحابه أكثر من مرة من المفاوضات مع دولة القانون، حتى بعد التوصل إلى اتفاق مبدئي معها، ومن ثَم تسريبه أنه سينتقل إلى بيروت في محاولة منه للحد من الضغط الإيراني عليه، إلى انتقاله إلى دمشق لعقد اجتماع مع اياد علاوي... شغل الصدر الدنيا وملأ الكون أشهُراً، اضطرت في نهايتها الولايات المتحدة إلى سحب الفيتو على مشاركة تياره في الحكومة، بل أبقته على توليه المناصب الأمنية. علماً بأن هناك قراراً للصدر بعدم تولي تياره رئاسة الوزراء في ظل الاحتلال الأميركي.
ولعل أبرز دليل على أن كل ما قام به التيار خلال الأشهر الماضية لم يكن سوى مناورات سياسية، أداء الصدريين، الذي مثّلوا خلال الأسابيع الأخيرة خط الدفاع الأول عن نوري المالكي، وأهم العاملين للتجديد له، وخاصةً في المفاوضات التي أداروها مع المجلس الأعلى والقائمة العراقية.

الثنائي الكردي: مكانك قف

ويعدّ التحالف الكردستاني ثالث الفائزين، بعدما نجح في الحفاظ على رئاسة الجمهورية لجلال الطالباني، برغم كل الضغوط الأميركية التي رمت إلى إعطائها لعلاوي، كما نجح، لفترة معينة، بإمساك العصا من الوسط وأداء دور بيضة القبان في الصراع بين المالكي وزعيم العراقية، ما مكّنه من انتزاع موافقة الأول على جميع المطالب الكردية. بل أكثر من ذلك، استطاع الأكراد، وبالتحديد رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، وبفعل ردّ الفعل السلبيّ على المبادرة السعودية، أن يؤدي دور عراب التسوية العراقية، رغم رفض المالكي إعطاء أربيل هذا الدور، والعلاقة المتوترة التي تجمع القادة السنّة للعراقية بالتحالف الكردستاني. لكن في نهاية الأمر، عاد الأكراد إلى حيث كانوا عشية الانتخابات: حصتهم بقيت على حالها، رئاسة وعدة مناصب، باسثناء وزارة الخارجية، التي ستؤول إلى العرب السنة على ما يبدو. أما موافقة المالكي على المطالب الكردية، فهي ممنوعة من الصرف، لكونها قد طالت العموميات المنصوص عليها أصلاً في الدستور دون آليات التطبيق حيث الخلافات. ويبدو واضحاً أن الأكراد أعلنوا تأييدهم للمالكي بعدما أيقنوا أنه مرشح إيران، التي لا يستطيعون تجاوز السقف السياسي الذي ترسمه، ويحظى بدعم واشنطن.

هزيمة علاوي وفوز كتلته

أما حكاية «العراقية»، فتلك قصة أخرى. بدأت مشروعاً أميركياً سعودياً، برعاية تركية وتأييد سوري، لإيصال علاوي إلى رئاسة الحكومة وانتزاع السنّة لحصتهم من الحكم، وانتهت باستيعاب السنّة في السلطة برعاية إيران ومعيّة سوريا وتركيا، بعدما أُقصي علاوي عن المعادلة، وأُخرجت السعودية من العراق. نتيجة طبيعية لتركيبة مثّلت التناقضات التي حملتها منذ ولادتها بذور تفجّرها، سواء على مستوى التموضع الجيواستراتيجي للدول الراعية: تركيا وسوريا اللتين تجمعهما تحالفات استراتيجية مع إيران، والسعودية والولايات المتحدة اللتين يجمعهما عداء معلن للجمهورية الإسلامية. أو على مستوى التناقضات الداخلية بين كتلة سنية ورئيس شيعي.
كان واضحاً، منذ البداية، أن التوليفة قامت على قاعدة إدخال السنّة في المعترك تحت عنوان شيعي هواه أميركي سعودي، ما يضمن استعادتهم حصتهم في العراق ونقل هذا البلد إلى محور المعتدلين العرب، فتكون واشنطن ومعها الرياض قد نجحتا في السياسة بتحقيق ما عجزتا عنه بالعسكر. انتهت العملية بأن نجح الطرف المقابل في تحويل علاوي إلى جسر لنقل السنّة إلى قلب العملية السياسية ومن ثم تدفيعه ثمن حماقاته التي بدأت باقتناعه بأنه يمكن أن تصل إلى رئاسة الحكومة العراقية شخصية معادية لإيران، ومرت باقتناعه بأن العقود التي قضاها من عمره في خدمة أجهزة الاستخبارات الأميركية يمكن أن تشفع له لدى إدارة باراك أوباما، ولم تنته بتصديقه أنه يتزعم فعلياً القائمة «العراقية» وأنه صاحب الحل والعقد فيها. تجلى ذلك بأبهى حلله في رفضه زيارة إيران قبيل الانتخابات، رغم ترتيبات أجريت لضمان استقباله بطريقة لائقة لعلها تمثّل عامل طمأنة بالنسبة إلى سلطات طهران. وفي عدم التقاطه إشارة التفاهم الإيراني الأميركي على المالكي، رغم الكلام الواضح الذي أسمعه إياه الرئيس الأسد خلال زيارته الأخيرة لدمشق. وعدم إدراكه حقيقة أن الزعماء السنّة لـ «العراقية» يعدّون أنفسهم أحق منه في الحصول على أي منصب يكون من حصة هذه القائمة السنية. وهكذا، حصلت «العراقية» على رئاسة البرلمان، وعلى عدد كبير من الوزارات بينها الخارجية، وعلى التزام برفع الاجتثاث عن قادتها، وفي مقدمتهم صالح المطلك، فيما انتقل علاوي إلى لندن حيث يقيم عاطلاً من العمل السياسي.
وللأمانة، سعت الأطراف المعنية كلها إلى حفظ ماء وجه علاوي عن طريق ما سمي رئاسة المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية. وكان الغرض من هذه «التخريجة» إعطاء علاوي صفة رسمية مساوية للرئاسات الثلاث من حيث الشكل والامتيازات، بما يبقيه في الحياة السياسية برتبة «حاكم مع وقف التنفيذ». ويبدو أن علاوي، الذي يقول إنه لم يحسم بعد موقفه من هذا المنصب، استصعب على نفسه مصيراً كهذا، وخاصةً بعدما انفضّ عنه الحلفاء في الداخل والخارج، عدا السعودية، هو الذي دخل الانتخابات طاووساً لا يهاب أحداً... وكان ما كان.
وهنا قد يكون من المجدي الإشارة إلى حادثة جرت خلال اجتماع قادة من «العراقية» مع عدد من الأمراء السعوديين احتفاءً بفوزها الانتخابي. في هذا الاجتماع، تحدث أمير سعودي عن «ضرورة الحؤول دون التجديد للمالكي بأي ثمن، لأنه لو حصل ذلك، فإن الشيعة سيحكمون العراق لـ1400 عام». لم ينتبه هذا الأمير إلى أن من بين الحضور العراقي شخصيات شيعية سارع أحدها (علماً بأنه علماني)، فور عودته إلى بغداد، إلى إيصال رسالة إلى المالكي بأن يعدّه العضو الرقم 90 في دولة القانون.
كذلك يمكن الإفادة من قول لأحد الخبثاء إن «قادة العراقية تربطهم بالسعودية حسابات مصرفية وبتركيا الحاجة إلى ذخر معنوي. لكن رقابهم بيد سوريا، التي أوت سنّة العراق وحمتهم وقدمت إليهم كل الدعم في مقاومتهم الاحتلال».

الحكيم: عودة الابن الضال!

يبقى على مستوى الأطراف الداخلية الأساسية «المجلس الأعلى»، الذي بدأت رحلة تعثراته مع الانتخابات، التي حصل في خلالها على أكثر من ضعف ما حصل عليه التيار الصدري من أصوات، لكنه خرج منها بنصف ما حصل عليه التيار من نواب. والمشكلة كما بدا واضحاً كانت سوء إدارته للعملية الانتخابية التي فسرها البعض بحال من الضياع في قيادة المجلس بعد وفاة زعيمه الراحل السيد عبد العزيز الحكيم. لكن حالة الضياع هذه، إذا صحّت، لم تؤثر ولو لحظة واحدة على حال التفاؤل التي أشاعها تولي السيد عمار الحكيم زعامة المجلس، لكونه أولاً شاباً في مقتبل العمر لم تلوثه أمراض السياسة ويتمتع بسمعة حسنة، وخاصةً بعدما أكد في بعض المجالس الخاصة أنه صاحب نهج مختلف عن نهج أبيه، وأنه يقف في مكان مختلف عن المكان الذي كان يقف فيه سلفه. وعزّزت هذا التفاؤل بلا شك معلومات عن وجود خلايا عسكرية مقاومة للاحتلال الأميركي في صفوف المجلس الأعلى، وإن كانت قيادته قد امتنعت عن الاعتراف بها منعاً للإحراج تجاه العم سام.
بدأ العمل على ترجمة نتائج الانتخابات، التي تشكك فيها كثيرون واعترف بها الجميع، على مستوى تركيبة السلطة، ومعه أطلق المجلس الأعلى لاءاته المعروفة: لا للتجديد لنوري المالكي، ولا لتولي أيّ من أعضاء حزب الدعوة رئاسة الوزراء، على قاعدة ضرورة تداول السلطة و«لا يمكننا تحمل ولاية جديدة للمالكي». وبناءً عليه، رشح المجلس عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة، على قاعدتين: إما نجاحه في الوصول إلى هذا المنصب، ويكون بذلك المجلس قد حقق مبتغاه، أو بالحد الأدنى سحبه والمالكي لمصلحة شخصية ثالثة يرضى عنها.
ويمكن تقسيم طريقة تعامل المجلس الأعلى مع هذا الاستحقاق إلى مرحلتين: في الأولى منها أدى دوراً «سلبياً» بمعنى العمل على عرقلة أي تسوية لمصلحة التجديد للمالكي، بل حتى العمل على تفجير اتفاقات عقدت في هذا الإطار. أما الثانية، التي بدأت مع إعلان التحالف الوطني ترشيح المالكي لرئاسة الحكومة، فأدى فيها دوراً «إيجابياً» في العمل على إيجاد صيغة ائتلافية بديلة للتحالف مع «العراقية» والأكراد لإيصال شخصية أخرى إلى هذا المنصب.
لا شك طبعاً في أن المجلس الأعلى، بما هو حزب سياسي، يحق له القيام بكل ما امتلكت أيمانه للوصول إلى مبتغاه، لكنه والحال هذه، يفقد خصوصيته، بما هو تنظيم شيعي استغرق بناؤه الكثير من الوقت والجهد والمال وأنشئ لغاية معينة، تبدأ بمحاربة ديكتاتورية صدام حسين، ولا تنتهي بأن يكون حزباً طليعياً لشيعة العراق، وسنداً للجمهورية الإسلامية التي ترعرع بين أحضانها، بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. هذه الخصوصية هي التي أملت قسوة النقد لأداء هذا المجلس في خلال مرحلة «الغزو ـــــ الاحتلال»، وفي خلال الأزمة الأخيرة، رغم تلقيه توجيهات واضحة من المرجعية الدينية التي يفترض أنه يدين بالولاء لها، وتوضيحات مفصلة من أكثر من جهة عليا في أكثر من عاصمة إقليمية للأسباب التي أملت خيار المالكي، وفي مقدمتها وحدة الصف الشيعي وقطع الطريق على التغلغل السعودي ـــــ الوهابي في بلاد الرافدين، وضمان تموضع عراق ما بعد الاحتلال في المكان الصحيح، كي يكون الحلقة المكمّلة للمحور الممتد من طهران إلى غزة مروراً بدمشق وبيروت.
ماذا فعل الحكيم الابن؟ لم يكتف بالاعتراض أو الحرد أو الاعتكاف أو حتى اللجوء إلى المعارضة، بل عمل في مرحلة أولى على إجهاض كل جهد يصب في هذا الإطار، وفي مرحلة ثانية على الارتماء في أحضان علاوي، رغم علمه بالفيتو الموضوع على إمساك هذا الأخير بمفاتيح الحكم ومفاصل الأمن، قبل أن يستنجد بعواصم محور الاعتدال.
ولعل السيد الحكيم قد وقع في خطأين قاتلين: الأول، اعتقاده بأن العمامة السوداء كافية وحدها لإعطائه المشروعية التي يحتاج إليها لبناء زعامة دينية ـــــ سياسية، في مجافاة للتاريخ والحاضر حيث تؤكد الشواهد أنّ الصغار ينتقصون من قيمة هذه العمامة التي تزداد توهجاً لما ترتديها شخصية من القامات الرفيعة فيرتفع حاملها إلى مصاف الأئمة. أما الخطأ الثاني، فاعتقاده أن قافلة الشهداء من آل الحكيم، بينها معظم أعمامه وآخرهم السيد محمد باقر الحكيم، يمكن أن تشفع له في الدنيا والآخرة. نسي على ما يبدو أن الشفاعة تجوز عند الباري، على ما تفيد الرواية الدينية، لكنها بالتأكيد لا مكان لها في هذا العالم، وخاصةً في السياسة. مهما يكن من أمر، فإن كل محاولات المجلس الأعلى لإجهاض التفاهمات الإقليمية والداخلية التي انتهت إلى التسوية المعروفة، قد باءت بالفشل، وتحول إلى مستجد لوزارة من هنا ومنصب من هناك، مع محاولة لتبرير تصرفاته السابقة بحجج لم تقنع أحداً، على أمل السماح له بالعودة إلى مواقعه السابقة.

إيران: أبعد من التفاصيل

يبدو جلياً أن الترتيبات الداخلية العراقية لم تكن واضحة عند طهران عقب ظهور نتائج الانتخابات العراقية، التي باغتتها لما حملته من مفاجآت: فوز «العراقية بـ٩١ مقعداً، والمالكي بـ٨٩ في مقابل انتكاسة المجلس الأعلى وفوز إبراهيم الجعفري منفرداً. كلها نتائج ما كانت في الحسبان، باستثناء ربما فوز «دولة القانون» ولكن ليس بهذا العدد من المقاعد. علماً بأن الصورة العامة، على المستوى الجيواستراتيجي، واضحة وضوح الشمس: ضم العراق إلى محور الممانعة وبالتالي استكمال حلقاته. أما الهدف البراغماتي، فكان قبول شراكة مع واشنطن في العراق، على أن تكون مفاتيح الحكم والأمن بيد طهران، ما يستبطن عدم السماح للولايات المتحدة بأن تأخذ في السياسة ما عجزت عنه بالعسكر. وقتها كانت قناعة قد بدأت تتكوّن عند القيادة الإيرانية بأن الأميركي في طريقه لا محالة إلى مغادرة العراق، حيث انسحاب معظم جنود الاحتلال كان مقرراً في الشهر السابع من ٢٠١٠.
لم يكن الواقع الجديد الذي أفرزته صناديق الاقتراع مريحاً للإيراني: إياد علاوي يمتلك القائمة الأكبر عدداً، وهو بالتالي صاحب الحق في تأليف الحكومة. والأنكى أنه يمثل المشروع السعودي الأميركي الذي تحاربه طهران في المنطقة، وفي الوقت نفسه يحظى بدعم معلن من كل من سوريا وتركيا، حليفي الجمهورية الإسلامية. في المقابل، فإن الطرف الشيعي الحليف الذي اكتسح الانتخابات في الطرف المقابل، والحديث عن نوري المالكي، كان ذاك الذي يثير مخاوف طهران التي كان يبدو واضحاً أنها لا تثق به. أما الشخص المفضل لديها، إبراهيم الجعفري، فلا حول له ولا قوة.
من هنا كانت طهران مضطرة إلى العمل على تفكيك نوعين من العبوات، بالتوازي: الأول إقليمي تمثل في العمل على إقناع الحليفين، السوري والتركي، بضرورة التخلي عن علاوي، نظراً لما يمثله من خطر على مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة. أما الثاني، فداخلي، ويتمثل في دفع الأطراف العراقية إلى التوافق على رئيس حكومة وتركيبة سلطة تلبي الأهداف المرحلية والاستراتيجية الإيرانية.
على المستوى الأول، كان النجاح كاملاً. مع تركيا، كان التوافق على قاعدة متطلبات التحالفات الاستراتيجية في المنطقة. أما الثمن، فضاع في ثنايا المصالح الثنائية المتبادلة على أكثر من مستوى. أما مع سوريا، فبقيت قاعدة التوافق نفسها، لكن بثمن إقرار رئيس الوزراء المقبل بالدور السوري في العراق وفي وصوله إلى الحكم، وتفويض دمشق برعاية الطائفة السنية وضمان حقوقها في العراق، إضافةً إلى إعادة تشغيل خط أنابيب نفط بانياس ـــــ كركوك، وعقود نفطية وتجارية أخرى. ولعل الثمن كان مرتفعاً على المسار السوري، وقد دُفع من الجيب العراقي، بسبب شخصية المرشح الأوفر حظاً لتولي السلطة في العراق، المالكي، الذي ربطته علاقة عداء متبادل مع النظام السوري منذ تفجيرات بغداد الدامية عام ٢٠٠٩.
أما على المستوى الداخلي، فلا شك على ما أظهرته التسوية التي خرجت إلى العلن أخيراً، أن طهران حققت نجاحاً كاملاً في أهدافها السالبة، والمقصود الحؤول دون تسلم رموز المشروع السعودي الأميركي الحكم والأمن، على ما بيّنه خروج علاوي من المعادلة، وفي الوقت نفسه إدخال الطائفة السنية في العملية السياسية بما يوفر لها المشروعية وللبلد الاستقرار.
أما من ناحية الأهداف الإيجابية، فكان النجاح نسبياً: لم يكن المالكي يوماً حصاناً مفضلاً لدى إيران، بل كان دوماً موضع تشكك وريبة فرضتهما ممارسته خلال ولايته الأولى، ونزعته الصدامية الرافضة لوضع بيضه كله في سلة واحدة. وبالتالي، فإن أمرين هما ما أمّن له تجديد ولايته: الأول نجاحه في فرض نفسه رقماً صعباً في المعادلة الداخلية لا يمكن تجاوزه، عن طريق النتائج الانتخابية التي حققها، والتي جعلته الطرف الأقوى في البيت الشيعي، مرفقة بالفيتو الإيراني الموضوع على بلوغ علاوي سدّة رئاسة الوزراء (وجرى التعبير عنه بمبدأ ضرورة أن يكون رئيس الوزراء من التحالف الوطني). أما الثاني، فوقوفه على نقطة التقاطع الأميركية ـــــ الإيرانية، التي جعلته مرشح تسوية لطرفين يسعى الأول إلى انسحاب مشرّف وآمن، فيما يمتلك الثاني مفاتيح تحقيق هذه الغاية.
من هنا جاءت المعادلة الإيرانية الآتية: إبقاء توزع الرئاسات الثلاث على ما هو عليه من حيث التقسيم العرقي والمذهبي، مع إعطاء الملك للمالكي والحكم للتحالف الوطني. أو بمعنى أكثر وضوحاً أن يتولى المالكي رئاسة الوزراء مع ربطه بأوزان (محاصرته في الحكومة بحلفاء إيران الموثوق بهم مثل التيار الصدري) وقيود وتعهدات تضمن عدم خروجه عن الخط.

سوريا: نحن هنا

قادة «العراقية» تربطهم بالسعودية حسابات مصرفية وبتركيا الحاجة إلى ذخر معنوي، وتبقى رقابهم بيد سوريا

بدورها، ورغم أن ما جرى في العراق لم يكن بالضبط ما اشتهته دمشق وأرادته، فإنه لم يحصل إلا بعد موافقتها وبركاتها وفق صيغة جاءت بمثابة اعتراف بالدور السوري المقرِّر في العراق، وبالرئيس بشار الأسد مرجعاً إقليمياً لسنّة بلاد الرافدين.
معروف أن سوريا كانت تروّج لعلاوي، على قاعدة توافق ضمّها وتركيا والسعودية والولايات المتحدة فرضته حال التقارب التي كانت تشهدها علاقاتها بالرياض وواشنطن في تلك الفترة. غير أن التنسيق السوري الإيراني المتواصل والقناعة التي توصّل إليها الطرفان بخطورة ما يمثله وصول علاوي إلى سدة الحكم بالنسبة إلى الاصطفاف الجيواستراتيجي في المنطقة، دفعا بدمشق إلى التخلي عن زعيم «العراقية» لمصلحة شخصية من «التحالف الوطني» سرعان ما أدرك الجميع وجود شبه استحالة أن تكون غير المالكي. من هنا، عملت الجهود الإيرانية على تصفية الأجواء بين هذا الأخير ودمشق، التي طرحت مجموعة من الشروط سرعان ما جرت الاستجابة لها جميعها.

الولايات المتحدة: قبول بالأمر الواقع

اما الولايات المتحدة، فلا شك أنها نجحت في التوصل إلى تفاهم ضمني مع إيران على دعم مرشح هذه الأخيرة بما يؤمن لواشنطن الحد الأدنى من مطالبها في مرحلة كانت فيها تستعدّ فيها لانتخابات نصفية للكونغرس، وبغنى عن أي عرقلة من النوع الذي يؤثر في عملية الاقتراع: انسحاب آمن. لكنها مُنيت بالفشل في كل الأهداف الأخرى: أولاً، فشلت في إيصال علاوي إلى رئاسة الحكومة. وثانياً، فشلت في إيجاد صيغة تؤدي في نهاية الأمر إلى توليه رئاسة الجمهورية بعد تعزيز صلاحياتها. وثالثاً، فشلت في الإيفاء بوعودها الأخيرة له، بتوليه رئاسة المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية بالصيغة التي طلبها (وفق ورقة مكتوبة تسلمها من الإدارة الأميركية)، بمعنى أن يكون هذا المنصب الاستشاري الطابع موازياً في أهميته للرئاسات الثلاث، وأن يكون سلطة تقريرية أعلى من الحكومة نفسها، رغم تلقيه ضمانات من الرئيس باراك أوباما نفسه.

السعودية: هل ينفع الندم؟

تبقى الرياض، التي تعدّ أبرز الخاسرين على المستوى الإقليمي، والتي لم تُخفِ يوماً رفضها للمالكي وتأكيدها أنها لا يمكن أن تقبل التجديد له، لم تفشل فقط في الدفع بعلاوي إلى كرسي رئاسة الحكومة، بل فشلت أيضاً في منع خصمها اللدود من بلوغه. لكن الأهم من كل ذلك، أنّها فشلت في الحفاظ على مرجعيتها لسنّة العراق، التي انتقلت إلى دمشق أولاً ومن بعدها أنقرة. حتى مبادرة الملك عبد الله، فشلت في تحقيق هدفها في إجهاض الحل العراقي، كما أن الطرف الآخر (والمقصود المالكي ومحيطه) رفض حتى إعطاء الرياض فرصة توفير الأرضية للتراجع عن رفضها له وإعلانها قبولها ما جرى مع حفظ ما وجهها.
* من أسرة «الأخبار»