سعد الله مزرعاني*تكثر الأسئلة عن الحرب واحتمال حصولها لدى المواطنين. ليس هؤلاء سائحين يستطلعون مكاناً يقصدونه ويتحققون من سلامة الأوضاع فيه. إنّهم مواطنون خبروا أو عاشوا صنوفاً عديدة من الأزمات والصراعات والحروب في بلدهم وعليه. وسؤالهم هو إذاً، سؤال مصيري مقترن بصنوف من المعاناة والذكريات المريرة، وبالكثير من الهواجس والقلق والخوف. فالمعارك كانت دائماً، مريرة وقاسية ومديدة. والأثمان كانت باستمرار، في الأرواح وفي الممتلكات، باهظة وخطيرة وحتى كوارثية.
لكن بمقدار ما كانت الأزمات تتواصل وتتناسل وتتفاقم، وبمقدار ما كان التوق طبيعيّاً من أجل رؤية نهاية لها كما يحصل في كلّ بلدان العالم، كانت تبرز سمات الاستعصاء المقرونة بالمزيد من المخاطر والتصعيد. السبب في ذلك هو إياه منذ أواسط القرن الماضي حتى يومنا هذا: قيام المشروع الاغتصابي الاستيطاني الصهيوني في فلسطين «رسمياً» عام 1948. نزعة التوسّع بالقوة من قبل هذا المشروع ليشمل كلّ الأراضي الفلسطينية والكثير من أراضي الدول العربية المجاورة. حماية المشروع وحماية خططه التوسّعية العدوانية من قبل الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، والغرب الاستعماري عموماً. الدور الذي أُنيط بالمشروع الصهيوني في تقسيم المنطقة وفي إخضاعها بالقوة من أجل السيطرة على ثرواتها وموقعها وأسواقها. تواطؤ الحكام العرب، قديماً وراهناً، مع الصهاينة وحماتهم، وقمع التحرّكات الشعبية التي ثارت مقاومة ومحتجّة ورافضة. ويتمّم هذا المسلسل الحزين عجز قوى تحرّرية متنوّعة عن تحقيق شعاراتها أو نكوصها، أو انصرافها إلى مصالحها الفئوية على حساب القضية وعدالتها، والحقوق وأصحابها سواء كانوا فلسطينيين أو عرباً على حدّ سواء.
المشروع الصهيوني والدور الاستعماري الذي أُنيط به، هما مصدر التوتر والحروب. ودعم حماية هذا المشروع من قبل القوى الاستعمارية هما ما وفّر لهذا المشروع قدراته الهجومية والعدوانية والتوسّعية على امتداد أكثر من ستة عقود.
ولقد خبر لبنان وعانى الكثير من أشكال الإجرام والعدوان الصهيونيين. لكنّ قصة لبنان تحوّلت قصة مختلفة مع انطلاق مرحلة المقاومة الشعبية التي كانت إحدى أبرز محطاتها النوعية في عام 1982. وفي مجرى هذه القصة، اجتُرحت بطولات لبنانية مدهشة، وتحققت انتصارات مدوّية بدءاً من عام 1982، مروراً بعام 2000، وصولاً إلى عام 2006.
ولعلّ أبرز أهم ما تبلور في مجرى الكفاح اللبناني ضدّ العدو الصهيوني، هو تبلور العمل المقاوم في صيغة شعبية مميّزة تخطّت الإطار اللبناني لتصبح جزءاً بارزاً ومحفّزاً ومعبئاً في مجمل معادلة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. إنّ هذا الجزء هو ما استهدفته إسرائيل في عام 2006 بناءً على قرار أميركي لأهداف تتصل أساساً بحاجات الاحتلال الأميركي للعراق ومراميه في «الشرق الأوسط الكبير». وهذا الجزء هو المستهدف اليوم، في موعد مضروب، تحديداً، مع صدور القرار الاتهامي عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في فصل الخريف المقبل.
لماذا المحكمة بالذات؟ لأنّه من خلال توجيه التقرير الاتهامي وجهة اتهام «حزب الله»، يمكن إطلاق فتنة مذهبية، تستغلها أيضاً إسرائيل من أجل توجيه ضربة مدمّرة إلى البنية العسكرية للمقاومة. ويجب أن يكون من شأن ذلك إحداث تحوّل في لبنان، يطيح المعادلة الراهنة التي تحكم توازناته. ومعروف أنّ هذه المعادلة هي ثمرة التعثّر الأميركي في المنطقة من جهة، وفشل عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006 وعلى غزة أواخر عام 2008، من جهة ثانية كما هي أيضاً ثمرة تبدّل في موازين القوى على صعيد السلطة، نجمت أساساً، عن أحداث 7 أيار 2008، وتكرّست في مؤتمر «الدوحة» الذي أعقبها في أواخر شهر أيار نفسه.
إنّ الحكومة الإسرائيلية التي أحبطت محاولات أوباما «التدخل» في شؤونها الداخلية عبر مشروع الدولتين ومهمة جورج ميتشل في صيغتها الأولى، استطاعت أيضاً استعادة زمام المبادرة بشأن الوضعين اللبناني والفلسطيني وبموافقة أميركية شبه مطلقة! ويدفع الغرور والصلافة قادة إسرائيل نحو كشف حلقات أساسية في مخططهم حيال المحكمة الدولية على وجه الخصوص. فبالإضافة إلى جهود ضخمة بُذلت من أجل التأثير في هيئات المحكمة نفسها، ومن خلال التسريبات، وعبر زرع الجواسيس (وخصوصاً في شبكة الهاتف اللبنانية)، يعمل الصهاينة على تغذية مشروع فتنة في لبنان، ولو عبر تدخل مباشر من قبلهم في إعلان موعد صدور القرار الاتهامي، وفي تحديد محتوى هذا القرار، وصولاً إلى تسمية الأشخاص المنفذين!
يتصل بكلّ ذلك الاستمرار في توجيه التهديدات للشعب اللبناني وللحكومة اللبنانية: فإسرائيل متضرّرة من الحدّ الأدنى من التوافق الهش القائم في لبنان. وهي تسعى إلى ضربه، وصولاً إلى استعادة كامل مقوّمات الانقسام اللبناني ـــــ اللبناني وملامحه. وهي أيضاً مستاءة من توجّه قيادة الجيش اللبناني نحو تكريس تناغمه وتعاونه مع المقاومة، ومن ملاحقته لعملائها وكشفهم، ومن رفضه لأن يكون أداة فتنة في تنفيذ بنود محتملة في القرار الاتهامي العتيد.

إسرائيل التي أحبطت محاولات أوباما «التدخل» في شؤونها الداخلية، استطاعت أيضاً استعادة زمام المبادرة بشأن الوضع اللبناني
ولقد أطلقت الحكومة الإسرائيلية وعوداً وعهوداً لعملائها في لبنان وللمراهنين على توجيه ضربة عسكرية للمقاومة، بأنّها ستفعل ذلك وبمنتهى القسوة والنجاح لإحداث انقلاب كامل في موازين القوى، وخصوصاً على مستوى السلطة اللبنانية في مؤسساتها المختلفة!
هذا هو السيناريو الخطير الحقيقي القائم الذي يجب أن يبدأ بتهديد السلم الأهلي في لبنان عبر فتنة مذهبية يطلق شرارتها القرار الاتهامي الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ليصل إلى تهديد لبنان كلّه عبر استهدافه بعدوان عسكري لمعاقبة القتلة المزعومين للشهيد الرئيس رفيق الحريري!
إنّ القلق مشروع، لكن يجب عدم تضييع مصدره، وخصوصاً عدم التفتيش عن مسؤول آخر عن سبب القلق ومعه تهديد السلم الأهلي والحرب والدمار والقتل! هذا هو أضعف الإيمان. أما المطلوب، ومن أجل درء الفتنة وإنقاذ لبنان واللبنانيين، فهو وعي أبعاد المخططات الإسرائيلية، والتوحّد في وجهها، وعزل المراهنين عليها. ذلك يتطلّب مبادرات يستطيع اتخاذها رئيس الجمهورية اللبنانية أوّلاً. من ذلك المساهمة النشيطة في فضح الاستهدافات والمخططات الإسرائيلية. ومن ثمّ في دعوة مؤتمر الحوار الوطني إلى الانعقاد بعد أخذ المبادرة في توسيع المشاركة فيه ليضمّ قوى إضافية، وليضع في أولوياته مواجهة مشروع الفتنة الإسرائيلي.
ويستلزم ذلك في مرحلة متصلة الانتقال السريع إلى بحث «استراتيجية الصمود والمواجهة في لبنان». وهي استراتيجية تشمل عناوين أساسية ينبغي أن توجه عمل مؤسسات السلطة ضمن ورشة وطنية شاملة لبدء معالجة أزمات لبنان المتعدّدة في جوانبها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والمالية... ولن يتمّ ذلك بغير اعتماد مقاربة جديدة تتراجع فيها ذهنية التقاسم والمحاصصة على أساس طائفي ومذهبي وارتهاني للخارج، لحساب نهج يستوحي المصلحة الوطنية بالدرجة الأولى.
لقد قدّم الجيش اللبناني النموذج الصحيح لصياغة المعادلة الوطنية المنشودة، وهو من خلال دماء شهيديه البارّين وتصدّيه للعدوان الإسرائيلي، شقّ الطريق الصحيح نحو بداية إحباط مشروع الفتنة والعدوان الإسرائيليين.
* كاتب وسياسي لبناني