لئلّا تنهار القسطنطينيّة
(كتاب مرفوع إلى بطريرك أنطاكية وأساقفتها والقلّة التي لا تزال مبالية)
لعلّه لم يعد ممكناً لأحد أن يستّر على الجلبة الحاصلة والضجيج المزعج المتردّد صداه في كلّ أنطاكية. وحفاظاً على قدسيّة المؤسّسة الإلهيّة آثرت على نفسي في كتابي هذا إليكم ألّا أسمّي أيّة قضيّة من القضايا التي باتت لا تُعدّ ولا تُحصى. كما أنّني لن أتناول بالتفصيل تلك التي لم تزل على امتداد تاريخ البطريركيّة تتفاعل بحدّة لم يسبق لها مثيل في تاريخنا القريب. ذلك أنّ ما أبغيه بصدق يهدف إلى نقد ذاتيّ هادئ، وتشخيص مشترك للأسباب الحقيقيّة المحفّزة لتلك الفوضى المستشرية بشراسة في الجسد القدسي من خلال التأمّل بالتساؤلات الآتية:
ـــــ هل للمال، وخاصّة الغريب منه، أيّ دور في زهو بنيان الكنيسة، جسد المسيح، المؤسّسة الرّوحيّة بامتياز؟ أم أنّ فلس الأرملة كان المساهم الأساسي أبداً في صنع العجائب على الدوام؟
ـــــ ما مدى أمانة هؤلاء القادة الروحيّين تجاه حاجات أولئك الذين باتّفاق أصواتهم شاركوا في تثبيتهم على العروش الروحيّة؟ أوَ ليس التكامل بين الاثنين فعل إيمان بخصوصيّة أقانيم الثّالوث كما بالتّناغم في ما بينها؟ أم أنّ السمة المهيمنة على علاقة الرّاعي بالقطيع باتت لا تؤخذ على محمل الجدّ، بدليل أنّ القطيع بات لا يتعرّف على صوت الرّاعي؟ ألا يبدو الأمر للعيان كأنّه صراع بين خصمين ليثبّت كلّ منهما نفوذه على حساب المؤمنين، وبهاء جسد المسيح؟
ـــــ كيف جرى، في غفلة من الزّمن، التحوّل في إدارة الكنيسة من المنحى الرّوحي إلى المنحى الذي تصير فيه شبيهة بأيّة مؤسّسة دنيويّة أخرى؟
ـــــ هل عزّة الكنيسة وقوّة شهادتها في هذا العالم باتتا منوطتين حصريّاً بالدور الذي تؤدّيه المؤسّسات الفارغة من نسمة الرّوح المحيية، والمرتفعة شاهقةً محيطةً بالبنيان السرّي، محاصرةً إيّاه حتّى الاختناق؟ أليس في ذلك تأكيد على تحريض الروح التنافسيّة السّاذجة في مسيرة الاستنساخ والتماثل مع المؤسّسات المنضبطة قسريّاً ضمن المسارات المتعارف عليها، الخاضعة لمقاييس الجودة العالميّة المفرغة من تدخّل الوحي؟ أين بات حضور الجماعة «المصلّية» من خلال الوجوه الوضّاءة المشرقة بالقداسة والشّهادة التي هي في صميم النّهج الكنسي؟
ـــــ هلّا غفلنا عن الاعتقاد الرّاسخ بالمناعة المميّزة لبنية كنيستنا الأرثوذكسيّة، التي لا بدّ من أن تفضح كلّ ما يجري على نحوٍ معاكس لطبيعتها كمؤسّسة روحيّة «نازلة من فوق»؟
ـــــ هلّا تبيّنا من خلال هذه المؤسّسات، على اختلافها، المسار المؤدّي إلى الإذعان لنظام العولمة المفسد للشهادة، التي تميّز المؤسّسة الروحيّة، والحريّة التي هي لأبناء الله المنضوين في رحابها؟ ألسنا بذلك نتحوّل إلى أسرى التراتبيّة والتبعيّة والمنّة منذ قرار إنشاء هذه الصّروح؟ وماذا لاحقاً، أي عن كلّ ما يتعلّق بمتابعة تلك المؤسّسات تأدية دورها المطلوب منها، الأمر الذي يجعلها ترزح أكثر فأكثر تحت رحمة المقتدرين، بعدما سبق أن حطّ من اقتدارهم ذلك المرفوع ظلماً على الصليب؟
ـــــ ألم تضعف اللُّحمة حتّى التفكّك بين أعضاء ذاك «الجسد القدسي»، حتّى بات الكلّ فرادى لا حول لهم ولا قوّة، ينوؤون تحت أعباء هذه الحياة الضّاغطة بمتطلّباتها، تتجاذبهم الكثير من الأفكار العالميّة والتيّارات الفكريّة؟
ـــــ أين الشّعب يسهم أينما كان في إخراج رعاته، ويعمل معهم في عمليّة جمع كلّ المواهب، وفي توظيفها في الخدمة، فيصطلح بهذا مفهوم الرّاعي والرعيّة، وتأخذ العمليّة المجمعيّة طريقها إلى التّنفيذ الواسع والمحتوم، فتُردم الهوّة بين الإكليروس والعلمانيّين؟ ألا نرى هذا الشّعب عند ذاك قائماً من سباته ليصير شريكاً في ممارسته كهنوته الملوكي، ومساهماً في سدّ الحاجة إذا ما طلب ذلك منه راعٍ أمين، لا غشّ فيه، ويعرف كلّ القطيع صوته؟
ـــــ هل ما زالت الكنيسة تنبعث كما كانت في وسط العالم حضوراً سرّيّاً يحوّله من كلّ نواحيه وأبعاده ضمن المسيرة الخلاصيّة إلى واقعيّة استحضار الملكوت، أم باتت في غربة حقيقيّة تقارب الأمر نظريّاً ليس إلّا؟ أوَ ليس السبب في ذلك هو الابتعاد عن الرّوح المجمعيّة وروح الشورى التي بإلهام من الرّوح القدس اتجهت نحو التسلّط على كل المستويات، والاستئثار بقرارات الكنيسة وطبيعة عملها وشهادتها؟ أين الصوت النبويّ المدوّي القادر على تصويب المسار على وسع المدى الأنطاكي، داحضاً بذلك عقم الجماعة، ومغيّراً ما أفسدته الممارسات الخارجة عن روح الكنيسة؟
إنّ شكلنا الظّاهر يبيّن مشكلة «انفصام في الشّخصيّة»، وازدواجيّة بين عاملَيْ المعتقد والممارسة. وإذ نعرف أنّ حكم الله وكنيسته في الأرض، كان بالمحبّة الخالصة وإفراغ الذّات، فإننا نراه اليوم يصير بأساليب الدّنيا والقهر، الذي دونه يسقط كلّ فعل استنزال الرحمة من لدن الله. بهذا ابتعدت التّراتبيّة في الكنيسة عن مضمونها الاصطفائي، وعن خطّها «المجمعي» في المبادرة والعمل، لتصير تراتبيّة طغيان وتسلّط ليس إلّا. فالويل لنا إذا ما أكملنا النهج على هذا النحو، دون الرّجوع إلى استلهام روح الكنيسة الظّافرة، التي فيها تستتبّ العلاقة الأبويّة، ويستوعب الأئمّة أبناءهم الذين هم أمانة من الله في أعناقهم.
سمير يوسف عبيد