مصطفى بسيوني*أدّى تراجع محصول القمح في كبرى الدول المصدّرة له، إلى قفزة كبيرة في أسعاره وتهديد إمدادات مصر منه، ما يهدد بأزمة خطيرة قد تؤدي بحسب رويترز والإيكونوميست لاضطرابات اجتماعية في أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم. يبدو الأمر قدرياً تماماً ولا ذنب للحكومة المصرية به على الإطلاق. فالحكومة المصرية ليس لها يد بالتأكيد في المناخ السيئ الذي ضرب روسيا وأدّى إلى تراجع صادراتها من القمح بمقدار الربع، بل تعليق تسليم الشحنات المتعاقد عليها بالفعل والارتفاع الهائل في الأسعار الناجم عن ذلك. يبدو النظام المصري سيئ الطالع. ففي الوقت الذي تتعقّد فيه الأوضاع والقضايا ويضطر لمواجهة أزمات لم يتعود عليها من قبل، تتفجر في وجهه أزمة تقليدية جداً لم تكن في حسبانه ولم يستعد لها.
يتضح حجم الأزمة الناجمة عن أوضاع محصول القمح العالمي وأسعاره عند معرفة أن الاستهلاك السنوي من القمح في مصر حوالى 14 مليون طن. والاستهلاك الشهري من قمح الخبز المدعوم 750 ألف طن شهرياً، بينما لا يصل الإنتاج المحلي لثمانية ملايين طن في عام 2008، حسب الكتاب الإحصائي السنوي الصادر عن الحكومة. وحسب تقرير حديث لمجلس الوزراء، فإن 90% من الأسر المصرية تستهلك الخبز المدعوم و60% من تلك الأسر تعتمد عليه اعتماداً رئيسياً. ويفيد التقرير نفسه بأن تكلفة دعم الخبز وصلت إلى 13.8 مليار جنيه في العام المالي 2008 ــــ 2009، وهو العام الذي شهد ارتفاعاً في أسعار الحبوب. أما العام المالي 2009 ــــ 2010، فيقدر الدعم الموجه للرغيف بـ116 جنيه للفرد، أي حوالى 20 دولاراً. ويتضح حجم الأزمة إذا عرفنا أنه وفقاً للتقرير نفسه، انخفضت نسبة الاعتماد على القمح المحلي في إنتاج الخبز المدعوم من 52.8% في عام 1999 ــــ 2000 وما بعدها إلى 38% عام 2008 ــــ 2009.
الأزمة الراهنة رفعت بقوة فاتورة استيراد القمح، حيث ارتفعت مدفوعات واردات القمح من 208.8 ملايين دولار في الربع الأول من السنة المالية 2009 ــــ 2010 إلى 404.3 في الربع الثاني، إلى 406.9 في الربع الثالث حسب نشرة البنك المركزي المصري. ولكن القفزات التالية في الأسعار، التي واكبت الحرائق الروسية، حملت معها تهديدات أكثر قسوة. فقد تعاقدت هيئة السلع التموينية على 60 ألف طن من روسيا بسعر 198.24 دولاراً شاملاً النقل للطن في السابع من تموز/ يوليو 2010. وفي 20 تموز/ يوليو، كان سعر الطن يقفز إلى 227.42 دولاراً ثم 257.5 دولاراً في 31 تموز/ يوليو. وفي السابع من آب/ أغسطس، تعاقدت الهيئة على 240 ألف طن من فرنسا بسعر 306 دولارات للطن شاملاً النقل.
هذه البيانات تعني بوضوح أن الخبز الذي يستهلكه 90% من السكان هو في خطر حقيقي، وأن التقارير التي تتحدث عن احتمال نشوب اضطرابات اجتماعية لا تحمل أي مبالغات. فبمجرد ظهور بوادر الأزمة، انعكست فوراً على أسعار المستهلكين، فارتفعت أسعار الدقيق الفاخر والمعكرونة بنسبة 50% في الأسواق. وتأتي أزمة القمح على طوابير خبز موجودة بالفعل، ضمن العديد من الأزمات التي تدفع قطاعات للتعبير عن غضبها يومياً وبطرق أصبحت ترسم ملامح الأحداث المقبلة. ففي الأسبوع الأول من رمضان، استولت أكثر من مئتي أسرة من منطقة عشوائية أُخليت بالقوة على وحدات سكنية مغلقة في إحدى المدن الجديدة، وهددوا بتفجير أسطوانات البوتاغاز إذا حاولت قوات الأمن إخلاءهم بالقوة. هذه الأزمات الدرامية تحلّ عشية انتخابات برلمانية ورئاسية يتحدد خلالها مستقبل النظام وسط معارضة متصاعدة لوجوده ولسيناريوهات التوريث.
ولكن هل أزمة القمح التي تهدد باضطرابات اجتماعية مجرد قضاء وقدر ولا يد فيها للنظام الذي لم يشعل الحرائق في روسيا؟ إذا وافقنا على التفسير القدري للأزمات، يجب أن يحظى النظام المصري بالكثير من سوء الطالع ليمكنه الجمع بين أزمات القمح واشتعال أسعار السلع الأساسية وتهديد مياه النيل وتفشي التهاب الكبد وانقطاع التيار الكهربائي وأزمة المرور وحوادث القطارات إلى آخر مسلسل الأزمات التي أصبح من الصعب إحصاؤها، ويمكن ببعض الجهد إيجاد تفسير لكل منها خارج مسؤولية النظام. ولكن اجتماعها على هذا النحو لا يكفي لتفسيره سوء الطالع أو القدر. ولنأخذ مثلاً بأزمة القمح الراهنة. لقد اعتبر توفير الخبز دائما إحدى أهم ركائز استقرار النظام في مصر. وليس مصادفة أن أكبر انتفاضة شعبية شهدتها مصر في العصر الحديث كانت انتفاضة الخبز في كانون الثاني/ يناير 1977. وكانت أي بادرة أزمة في توفير احتياطي القمح في الصوامع المصرية تستدعي استنفار النظام فوراً. كما كان توفير النقد الأجنبي لشراء القمح إحدى أكثر مهمات النظام قدسية. وربما كانت أزمة منع أميركا القمح عن مصر في الستينيات وتدخل روسيا السوفياتية للإنقاذ وأزمة احتياطي النقد الأجنبي في نهاية الثمانينيات والأسعار العالمية في عام 2008 من أهم الأزمات التي شعر بها النظام في مصر. ولكن رغم الحديث الدائم عن محاولات تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، لم تكن السياسات المطبقة بالفعل تتفق مع المعلن. فكيف يمكن الحديث عن اكتفاء ذاتي من القمح بينما السياسات المطبقة تدمّر تدميراً منظماً حياة الفلاحين. لقد كان أبرز ملامح السياسة الزراعية تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية في عام 1997، والذي كان يعني القضاء على استقرار ما يزيد على 900 ألف أسرة ريفية وطرد أعداد واسعة من الفلاحين من الأراضي، وقفزت ساعتها إيجارات الأراضي الزراعية من 660 جنيهاً إلى أكثر من ألفي جنيه ووصلت حالياً إلى أربعة آلاف جنيه سنوياً. بالإضافة إلى ذلك، رُفعت أسعار الأسمدة ومستلزمات الزراعة وأُلغي الدعم عليها وتُركت للسوق السوداء وأُثقل الفلاحون بديون بنك الائتمان الزراعي، ما أدى إلى صدور أحكام بالحبس على أعداد كبيرة من الفلاحين. ناهيك بالأزمات المتكررة في مياه الري التي تذهب لملاعب الغولف، والتي يزيد عددها حسب تحقيق في جريدة الأهرام على 20 ملعباً تستهلك ما يقرب من مليار ليتر مياه أسبوعياً، ويحتاج الفدان

كيف يمكن الحديث عن اكتفاء ذاتي من القمح بينما السياسات المطبقة تدمّر تدميراً منظماً حياة الفلاحين؟
الواحد في ملاعب الغولف إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما يحتاجه فدان الزراعة. المفارقة أن عدد لاعبي الغولف في مصر لا يزيد على ألفي لاعب أغلبهم من الأجانب، حسب التحقيق نفسه. هل أوضاع من هذا القبيل تدفع الفلاح المصري البسيط للمساهمة في سد الفجوة الغذائية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح؟ الحقيقة أن اندفاع الفلاحين لزراعة الخضروات والنباتات العطرية والبرسيم لتوفير علف الحيوانات والمحاصيل التي تحقق ربحاً سريعاً لسداد ديون بنك الائتمان، تبدو مبررة ومفهومة تماماً، حتى لو كان ذلك على حساب المحاصيل الاستراتيجية كالقمح. أو على الأقل مبررة أكثر بكثير من توجه المزارع الرأسمالية (التي تحصل على المزايا والتسهيلات) لزراعة محاصيل التصدير لجني أرباح طائلة.
السياسة التي اتبعها النظام لم تكن قدراً كالجفاف والحرائق، بل كانت اختياراً واضحاً حقق مكاسب طائلة لكبار الملاك وأصحاب المزارع، وحقق الإفقار للفلاحين وانتهى إلى تهديد خبز الفقراء. إن أبواق الدعاية التي انطلقت للتبشير بالخير الذي سيجلبه مشروع توشكى القومي تبدو اليوم نكتة سخيفة أمام طوابير الخبز. تماماً مثلما كشف مسلسل انقطاع التيار الكهربائي واختناق المرور وتلوث مياه الشرب إن وجدت، حديث البنية الأساسية والمرافق. ولم يبقَ سوى أزمات لا تكفي الظروف السيئة والأقدار لتفسيرها، ولا تصلح أبواق الإعلام الرسمي لإخفائها. والأهم أن الذراع الأمنية لا تصلح لمنع نتائجها التي تلوح في الأفق.
* صحافي مصري