عصام العريان *مع بداية مسيرتنا في الحركة الإسلامية، كان «الجهاد» شغلنا الشاغل ولا يزال. وكانت حواراتنا بين بعضنا وبيننا وبين إخواننا من الإسلاميين تدور دائماً حول مفهوم «الجهاد» والتغيير بالقوة واستخدام العنف وطرق العمل للإسلام وأفضل السبل لخدمة ديننا وأمّتنا، أمة الإسلام.
كان مفهوم «الجهاد» في عرفنا لا يعني سوى القتال، وأنه هو السبيل للتغيير وتحقيق حلمنا الإسلامي. ولا أنسى في بداية لقاءاتي مع أخ من الإخوان قضى في السجن سنوات طوالاً، وبعد اقتناعنا بمنهج الإخوان المسلمين في التغيير السلمي والعمل بين الناس وفق المنهج القرآني «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، حين سألته: وماذا عن الجهاد والقتال في سبيل الله؟ فكانت إجابته وقتها: إنّ اللّه تعالى يقرّر في كتابه العزيز {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}. [سورة البقرة: 253]
وكان هؤلاء الرجال يترفّقون بنا، ولا يصدموننا برفض أفكارنا المتحمسة ويأخذون بسنّة التدرج معنا. وكان لنا مع شيوخنا الكرام الذين تتلمذنا على كتبهم ومحاضراتهم ودروسهم خلال العقد المبارك، عقد السبعينيات من القرن العشرين، حوارات ومناقشات في المفاهيم والمصطلحات والفهم الصحيح للإسلام، وكانت لنا جولات في أساليب الحركة والدعوة والعمل للإسلام، مثل الإمام الشيخ الغزالي والشيخ محمد نجيب المطيعي رحمهما الله، والدكتور القرضاوي.
وكانت مناطق الحوار الساخن في صفوف الشباب خلال تلك الفترة، وما زالت في ما أظن حتى الآن تدور حول مسألتين:
الأولى: الفهم الصحيح للإسلام والموقف من قضايا عقائدية أو فقهية شغلت المسلمين طوال تاريخهم من فجر الإسلام، وما زالت تمزّق وحدة المسلمين. وأدى ذلك إلى اتجاه عدد من الشباب إلى الفهم السلفي الضيق، وليس بالمعنى الواسع، أو إلى التكفير والتبديع والتفسيق للمسلمين.
الثانية: منهج التغيير وما يتعلق به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على الحاكم الظالم أو الكافر وحروب العصابات والانقلابات العسكرية. وسبب ذلك نزوع عدد من الشباب إلى استخدام القوة والعنف باسم الجهاد في سبيل الله. ولقد أثمرت مناقشتنا مع شيوخنا في إصدار عدد لا بأس به من الكتب والدراسات والبحوث أو الحوارات المسجلة لشرح أصول الفهم العشرين التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا كأوّل أركان بيعة الإخوان لجماعتهم في ركن الفهم مثل «دستور الوحدة الثقافية» للغزالي وشرائط للقرضاوي ومحاضرات للمطيعي... إلخ.
وها نحن اليوم، بعد جهد استغرق 6 سنوات من الدكتور القرضاوي، أمام سفر جليل وكتاب ضخم طال انتظاره عن «فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسُّنة»، صدر عن مكتبة وهبة بالقاهرة هذا العام وأهداني أستاذنا نسخة منه مع تحية ووصف لا أستحقه.
وفى ظني أن الشيخ لا ينتظر من قرّاء ذلك السفر الجليل مجرد الإشادة به والتقريظ له، لذلك عكفت عليه بجزأيه أقرأ بتمعن وأقارن بين ما سطَّره الشيخ وبين ما تحتاج إليه الحركة الإسلامية اليوم وما تحتاج إليه أمة الإسلام من شيوخها ومفكريها. فكان هذا التعقيب الذي يريد من الشيخ مراعاة ما استجد من قضايا تحتاج إلى مزيد من البحث في الطبعات القادمة.
ملاحظات سريعة أوليّة
أولاً: الكتاب ضخم، وهو موجه إلى طائفة واسعة من المهمومين والباحثين وصل إلى عشر طوائف. وبالتالي فإن استفادة كل طائفة منه ستكون بحدود، وتحتاج إلى استكمال الجهد الخاص بها في بحوث مستقلة. ولعلّ تلاميذ الشيخ الذين لهم معه لقاء سنوي يستكملون ذلك الجهد العظيم في دراسات متصلة يشرف هو عليها.
ثانياً: الشباب بالذات، وهم من كانوا سبباً رئيسياً في إخراج ذلك الجهد العظيم، يحتاجون إلى طبعة مختصرة تجيب عن أهم الأسئلة من دون استفاضة في البحوث اللغوية والفقهية والحديثية والأصولية. ويمكن من يريد العودة إلى تأصيل المسائل الرجوع إلى الكتاب الضخم. ويا ليت الشيخ يكلف أحد تلاميذه من مكتبه العلمي تحرير كتيّب صغير مثل رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية «قاعدة في قتال الكفار» تقرر قواعد عشرة في فقه الجهاد مثلاً.
فنّد الشيخ حجج الذين يقولون بالجهاد الهجومي، ووضع ملاحظات على تحمّس سيد قطب لفكرة الجهاد المتواصل
ثالثاً: القانونيون والسياسيون والعسكريون يحتاجون إلى إفراد كتاب مستقل عن «قانون الحرب في الإسلام». فإذا كان الإمام محمد بن الحسن الشيباني له السبق في إقرار قواعد فقهية سبقت العصور في كتابه «السير الكبير»، فقد توقف المسلمون عن الاجتهاد في ذلك الباب رغم شدة الحاجة إليه. وهنا أقترح أن يعقد الشيخ ندوة للاجتهاد الجماعي يحضرها ممثلون لتلك الطوائف تسترجع التاريخ الحديث منذ حروب الدولة العثمانية ثم حروب الاستقلال ثم النزاعات البينية على الحدود المصطنعة الآن والحروب الأهلية التي شغلت المسلمين طوال القرن الماضي لتضع في نهاية المطاف دستوراً للحرب في الإسلام.
رابعاً: استغرقت بعض البحوث الهامة أجزاءً ضخمة من الكتاب مثل: النسخ في القرآن، وآية السيف، وحديث «أمرت أن أقاتل الناس» وغيرها مما يصرف القارئ غير المتخصص عن جوهر الكتاب، وأقترح أن تكون في ملاحق في نهاية الكتاب مع وضع خلاصتها فقط في صلب الكتاب.
خامساً: يحتاج الموضوع إلى فصل هام يتعلق بالجهاد والقتال والحرب كحركة مجتمع ودور دولة وبيان كيف تعامل معه المسلمون خلال عصور الإسلام المختلفة منذ فجر الدعوة في عصر الرسول إلى عصرنا الحالي، يجمع شتات ما تفرق في ثنايا الفصول المختلفة.
وهنا نحتاج إلى تأصيل قاعدة هامة جداً، هي أن اجتهادات الفقهاء كانت مرتبطة بعصورهم وظروف الحياة وقت الاجتهاد وتقرير قاعدة لا تقل أهمية، هي أن النظم والوسائل والطرق التي اتبعها المسلمون في ظروف تاريخية لا تلزم بقية المسلمين على مدار التاريخ. وهنا يقول الإمام حسن البنا في رسالته الهامة «المؤتمر الخامس» مقرراً عدة أمور أساسية:
1. نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة.
2. يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها، هو كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله، وأن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها. لهذا، يجب أن تستقى النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، معين السهولة الأولى، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيّد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه.
3. يعتقد الإخوان أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة لكل الشعوب لكل العصور والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة، وخصوصاً في الأمور الدنيوية البحتة. فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها.
ولهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب، ولهذا أيضاً كان الإسلام لا يأبى أبداً الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعد الكلية وأصوله العامة.
سادساً: كان بيان المصطلحات والفروق الهامة بينها في صدر الكتاب ضرورة، وهو ما تفتقده البحوث الشرعية الآن.
كذلك، كان هاماً التأكيد أن الجهاد لا يتعلق في جانب الحرب والقتال بفقه السياسة الشرعية الذي يتسم بالرحابة والمرونة والقابلية والتطور لأنه يقوم أساساً على فقه المقاصد والمصالح، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وأن هذه الألوان من الفقه فيها مجال واسع للاجتهاد الإنشائي والاجتهاد الانتقائي، واختلاف التنوع، وتعدد الأنظار والرؤى، دون نكير من فريق على فريق، ما دام يحترم الثوابت، ويرعى الأصول الشرعية والضوابط المرعية.
سابعاً: تطرق الشيخ في الكتاب إلى قضية خطيرة وهامة هي علاقة المسلمين بغيرهم من أمم العالم وشعوبه، وهل تقوم على السلم والموادعة أم على الحروب المستمرة المتواصلة؟
وتطرق كذلك إلى ما يترتب على ذلك من الالتزام بالمواثيق الدولية، كميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات المرعية دولياً كمعاهدات جنيف الأربعة، وعلاقتنا بالهندوس والبوذيين والآسيويين الذين يدينون بالشنتود، وفرّق بينهم وبين الصهاينة اليهود الذين احتلوا فلسطين وشردوا أهلها، وأن سبب حربنا وجهادنا ضد الصهاينة ليس عرقهم السامي ولا ديانتهم اليهودية، بل احتلالهم لأرضنا.
وفنّد الشيخ حجج الذين يقولون بالجهاد الهجومي في الباب الثالث الذي هو أوسع أبواب الكتاب وشمل 12 فصلاً، وهو ما يُعدّ كتاباً مستقلاً. وتطرق إلى ست ملاحظات على كلام الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن في تفسيره لسورة الأنفال وتحمسه الشديد لفكرة الجهاد الهجومي المتواصل. وهذه مسألة أخرى ضمن عدة قضايا جاءت فى كتابات الشهيد سيد قطب تحتاج إلى دراستها ووضعها في موضعها الصحيح، وقد تصدى الشيخ لبعضها رغم غضب البعض منه ومنها، كقضيته طرح برامج تفصيلية لجزئيات الحياة ومناحيها والمشاركة في الانتخابات العامة والموقف من الحكومات الحالية والوطنية والمواطنة. وفي ظني أنه لو كان الشهيد بيننا وجرت تلك الحوارات والمناقشات لتلك القضايا، لتغيّرت وجهة نظره فيها أو لصحّح بعض المفاهيم الخاطئة عنها.
وهنا أقترح على الشيخ القرضاوي أن يجمع شتات ما تعقب به على بعض ما فُهِم خطأً عن الشهيد سيد قطب أو ملاحظاته هو على بعض أفكار الشهيد في كتاب واحد مثلما فعل سالم البهنساوي وغيره حتى يتسنى لقرّاء كتابات الشهيد من الإخوان وغيرهم معرفة جميع الآراء والتعقيبات ويمكّنهم من الاستفادة من كتاباته دون الغلو فيها، الذي دفع بعض الشباب إلى سلوك مسالك وعرة، ولردّ الاتهامات المبالغ فيها بشأن دور الشهيد في هذه الاتجاهات والسلوكيات الخاطئة.
ولقد كان لافتاً للنظر أن اندفاع الشهيد قطب في تأييد بعض وجهات نظره وتقريره جعله يخالف الإمام الشهيد حسن البنا في مسائل معدودة منها «الجهاد» ومنها «المشاركة في الانتخابات» ومنها «التقدم ببرامج عملية لعلاج مشكلات واقعية» على سبيل المثال.
ولقد كان من الفوائد الهامة للشباب شرح فكرة «الجهاد المدني»، وأن مفهوم الجهاد في الإسلام واسع وشامل لا يقتصر على «القتال» كما كنا نعتقد. ورغم أن البعض عقّب على ذلك (د. محمد عباس في المختار الإسلامي) وبيّن أن الحكام في بلادنا يغلقون كل منافذ الجهاد المدني، ويضعون العقبات والعراقيل في وجه كل مصلح، ويزوّرون كل انتخابات طلابية ونقابية وبرلمانية، بل يمنعون إنشاء الجمعيات الأهلية، إلا أن ذلك لا ينفي أهمية تحرير المصطلحات وبيان اتساع مفهوم الجهاد. ولعل لنا في نشاط المسلمين في الغرب والشرق ما يؤيد أهمية فهم شمول الجهاد لكل نشاط بشري يقصد به المسلم وجه الله ونشر الإسلام ونصرة المسلمين، بل ودفع الظلم عن المستضعفين في الأرض من أي جنس ودين.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر