حسام كنفانيحسام كنفاني
قمّة عربية خماسيّة في طرابلس. من الممكن إدراج الخبر في إطار نوادر العمل العربي المشترك، إذا ما بقي هناك مكان لمثل هذا التعبير. القادة المجتمعون يدركون أن هذا العمل وصل إلى مرحلة الحضيض، ولا بد من التحرك لفعل شيء ما. التحرّك المبدئي كان من القادة الخمسة، تمهيداً لقمّة استثنائية تبث الروح في الجسد العربي الرسمي المتمثل بـ«جامعة الدول العربية».
فكّر العرب كثيراً، وصلوا ليلهم بنهارهم ليهتدوا إلى المشروع المفاجأة الذي سيعيد صياغة العلاقات العربية في إطار جديد، وخرجوا علينا بفكرة «الاتحاد». لم يكملوا العبارة، هل هي «الاتحاد العربي»، على غرار الاتحاد الأوروبي، المستمدة الفكرة من تجربته، أم هو «اتحاد الدول العربية»، مع العلم أنه لدى تأسيس الجامعة كان هناك إصرار على أن تكون «جامعة الدول العربية» لا «الجامعة العربية»، تكريساً لواقع التقسيم الجغرافي وحرصاً على أن يكون هذا الكيان الناشئ مجرّد مكان لقاء من دون أي أبعاد أيديولوجية، أو مقدمة لمشروع «الوحدة العربية» التي كانت تدغدغ أحلام بعض العرب وترعب البعض الآخر.
إذا كان العالم العربي في ذلك الوقت منقسماً إلى معسكرين، فاليوم هو أسوأ بمراحل، بعدما بات لكل دولة مشروعها الخاص المرتبط بهذه الجهة أو تلك. وحتى فكرة «القومية العربية»، التي كانت في مرحلة من المراحل الشغل الشاغل للشارع العربي بغض النظر عن مواقف الأنظمة، لم تعد متوافرة إلا في ثنايا بعض المجتمعات، التي دخلت في مرحلة غير مسبوقة من اليأس والإحباط، ولم تعد مهتمّة أساساً بإنتاج فكر سياسي عربي أو مشاريع تغييرية.
على هذه الأرضية تأتي الفكرة الجديدة لـ«الاتحاد»، الذي من المؤكد أنه سيكون «للدول العربية»، إذا قُدّر له الوجود، وهو أمر مستبعد، ولا سيما أن البداية كانت خير معبّر عما يمكن أن يكون عليه الكيان «الاتحادي». بداية تشير إلى أنه سيكون اسماً على غير مسمى. «الانقسام» قد يكون مسمى أكثر صدقيّة وأكثر تعبيراً، وخصوصاً بعد ما شهده «الاجتماع التأسيسي» للقادة الخمسة. اجتماع لم يخرج إلا بالإعلان عن الخلاف في وجهات النظر على كيفية تطوير الجامعة وتغيير اسمها. وجهتا نظر كانتا حاضرتين بين الخمسة: تغيير سريع وتغيير بطيء. وإذا كانت هذه الحال مع هذه المجموعة الصغيرة من «القادة»، فمن الممكن توقّع وجهات نظر إضافية لدى التئام مجموعة الـ22، سواء في قمّة عربية استثنائية أو عادية.
ومن المؤكد أن «القادة» الخمسة كانوا مدركين أنهم ذاهبون إلى طرابلس لعدم الاتفاق، حتى وإن كانت الصورة الجامعة قد أظهرتهم مبتسمين. ربما كان الأجدر أن يعفوا الشعوب من المزيد من اليأس، ويوفروا على أنفسهم إعلان الاختلاف مجدداً، رغم أنه معروف للجميع. ما هي الغاية من هذا الاجتماع أو هذا الاتحاد؟ ربما تكون الغاية في مكان آخر. مكان تفضحه بعض بنود مشروع الاتحاد.
العرب يبدو أنهم شعروا بالغيرة من الكيانات المتوالدة في العالم من حولهم. الاتحاد الأوروبي كان أولاً، ثم قمة الثماني التي تحولت إلى قمة العشرين، تلتها مجموعة شنغهاي وغيرها من المجموعات أو الاتحادات الجديدة التي تظهر تباعاً إلى النور. كان لا بد من تحرّك ما لذر الرماد في العيون. جاءت أولاً فكرة تغيير مسمى الجامعة واقتباس «الاتحاد» من الأوروبيين. وكأن المشكلة كانت في الاسم، وتغييره هو الحل، على اعتبار أن النموذج الأوروبي هو إلى حد ما النموذج الأكثر نجاحاً في العمل المشترك على الصعيد الدولي. تجاهل العرب المراحل التأسيسية الكثيرة للاتحاد الأوروبي، وقفزوا مباشرة إلى النهاية: «الاتحاد».
تغيير للمسمى يصنع بعض اللهو في الشارع الغافل، ويرفع العتب عن الأنظمة. لكن ما يشير إليه نص المشروع مخالف تماماً للنموذج الأوروبي، ولا سيما بالنسبة للحدود التي لن تكون قابلة للإزالة، فكل كيان عربي سيبقى متمترساً خلف حدوده المحصنة في وجه «الشقيق» العربي الآخر. فالمشروع ينصّ على «احترام الحدود القائمة بين دول الاتحاد». وأكثر من ذلك، فالأنظمة تسعى إلى حماية نفسها من تدخّلات شركائها في الاتحاد. المشروع نص على «عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم الاعتراف بأسلوب الاستيلاء على الحكم بطريقة غير دستورية». فقرة تعطي فكرة عن حال الثقة بين الدول العربية في «اتحادها»، وإلا فما الحاجة إلى المادة الثامنة عشرة التي تنص على أن «تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدولة وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها».
فقرات أخرى في المشروع تكشف الغاية منه. غاية من الممكن اختصارها بتكريس الوضع العربي الانقسامي القائم لكن في إطار مسمّىً «اتحادياً». وبناءً عليه، فإذا كان هذا هو المفهوم العربي للاتحاد، فلا بد من التمسّك ببقاء «الجامعة»، على اهترائها.