طالعت بكثير من الاهتمام مقال السيّد أمين الياس («الأخبار»، 4 آذار 2010) المُعنْون «ردّاً على أنطوان فليفل: يواكيم مبارك والنزعة العلمانيّة». وقد سرّني هذا الرد الذي لا يمكنه إلّا أن يغني النقاش البنّاء والاستجلاء لهذا المفهوم ولإمكانيّة تطبيقه أو عدمه في لبنان. وبعد شكر كاتبه لغيرته على فكر يواكيم مبارك الذي أجلّ، وجب عليّ توضيح بعض النقاط:1ــــ لا شكّ بأنّ إلقاء الضوء على مقوّمة معيّنة من أنظومة لاهوتيّة أو فلسفيّة قد يعطي انطباع شموليّتها في فكر ما، وقد أدركت هذا الأمر لدى شروعي في كتابة سلسلة المقالات هذه. زد على ذلك أنّ اللاهوتيين الذين يتناولهم هذا البحث ليسوا على موقف موحّد من العلمانيّة وأنّ لكل منهم تعريفه. لكن جوهر المفهوم العلماني الذي يتمثّل بالفصل بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة موجود لدى من أتطرّق إلى فكرهم، ولو بدرجات متفاوتة. فعلمانيّة جورج خضر التي هي مرادفة للدولة المدنيّة تختلف عن طرح غريغوار حدّاد الذي يطالب بعلمانيّة شاملة. ولذلك، فقد اخترت تعبير «نزعة» الذي يعني «ميلاً إلى» والذي ترجمته الفرنسيّة "tendance" أو "inclinaison" أو "disposition" أو "penchant"، اخترت هذا التعبير لأنّ العلمانيّة ليست بالضرورة أنظومة فكريّة أو نضالاً سياسياً عند كل المفكريّن الذين ينعقد هذا البحث على فكرهم. فكر مبارك يندرج من ضمن هذا المنطق، ولذلك لم أتكلّم عن فكر مبارك العلماني ولا عن نضال مبارك العلماني. فالعلمانيّة عند مبارك نزعة. أمّا ما دفعني إلى القول إنّ هذه النزعة ليست عرضيّة أو ظرفيّة في فكره، لا بل أساسيّة للشهادة المسيحيّة في الشرق، فقد استنبطته من نصوص الأب العلامة، ومن دراسات حول فكره.
2ــــ يواكيم مبارك ذكر العلمانيّة أو لمّح إليها مباشرة مرّات عدّة في كتاباته، أذكر أهمّها:
في ما يتعلّق بتصوّره للعلمانيّة كحل للقضيّة الفلسطينيّة: «...يدفع الصراع الفلسطيني اليهود والمسيحييّن والمسلمين إلى خيار العلمانيّة» (Palestine et arabité, Beyrouth, éditions du Cénacle Libanais, 1972ــــ1973, p. 205).
في ما يتعلّق بصراع المسيحيين المشرقيين السياسي المُعلمَن: «على المسيحيين أن يساهموا في علمنة (laïciser) الصراع والدعوة إلى الصراع الإنساني من أجل الإنسان، والاستناد عند الحاجة إلى القيم الإنسانويّة الموجودة في الأديان التوحيديّة...» (La chambre nuptiale du cœur, Approches spirituelles et questionnements de l'Orient syriani, Paris, Cariscript, 1993, p. 98.).
في ما يتعلّق بالاستقلاليّة السياسيّة الفاصلة بين الزمني والروحي: «أمنية أكثريّة اللبنانيّين من كل الطوائف هي في إيجاد، من ضمن حريّة مطلقة للمعتقدات واستقلاليّة شرعيّة للسلطة المدنيّة عن السلطة الدينيّة، نوع من تشابه داخل النظام الزمني للمدينة الزمنيّة مع النظام الروحي المقترح بكرم من فوق» (Les Chrétiens et le monde arabe, éditions du Cénacle Libanais, 1972ــــ1973, p. 204ــــ205).
في ما يتعلّق بإمكانيّة التكلّم عن نظام علماني سياسي للدولة: «الدولة التي عليها صون الحقوق في الإختلاف وخدمة المجتمعات التي تعتبر نفسها دينيّة، لا يمكنها بعد الآن أن تتبنّى ديانة معيّنة أو الإلحاد، تحت طائلة جعل الوئام بين الجماعات والسلام بين الأمم مستحيلين. علينا إذاً دعم المطالب المشروعة للجماعات التي تريد، بحسب قناعتها، أن تؤكّد علمانيّة الدولة» (Libanica, n. 13, 10.1985.). أمّا دراسة مشير عون المعنونة «Les chrétiens d’Orient dans la pensée de Youakim Moubarac. Leur problème, leur vocation et leur avenir, Courrier œcuménique, 49, 2004, p. 34ــــ45 ; 50, p. 49ــــ61»، فهي تستجلي مكانة العلمانيّة في فكر مبارك، بالأخص من ناحية التزام المسيحيين المشرقيين بنضال علماني في سبيل الإنسان العربي. هذا النضال الذي يضعهم أمام «شجاعة التخلّي عن الذات ككيان مسيحي منظّم اجتماعيّاً يملك سلطة سياسيّة مباشرة أو غير مباشرة».
كل هذه المراجع قد دفعتني إلى التكلّم عن فصل واضح بين الديني والزمني في فكر مبارك.
3ــــ أمّا في ما يتعلّق بالندوة الحواريّة المنعقدة في 1965، فهي تفصح عن معضلات تخصّ العلمانيّة في لبنان، ومن أهمّها صعوبة قبول الفكر الإسلامي لها. ولكن الشيخ صبحي الصالح لا يختزل بشخصه كل الفكر الإسلامي، وخصوصاً أنّ مبارك رفض دائماً اعتبار هذا الفكر فكراً متجمّداً لا يتطوّر. زد على ذلك أنّ هذه الإشكالية التي ذكّرنا بها السيّد أمين الياس وهي إشكاليّة صحيحة، لا تخصّ هذا البحث الذي ينحصر انعقاده على إلقاء الضوء على النزعة العلمانيّة عند بعض اللاهوتيين المسيحيين.
لا شكّ بأنّ تغيير صيغة النظام في لبنان يجب أن ينبع من إرادة كل أبنائه. ولكن هذه المعطيات لا تقفل باب البحث والاقتراح، وما هو مستحيل الآن هو ربّما معقول في مستقبل ما. فعندما كان الفيلسوف سبينوزا يفكّر ويكتب في عزلته عن إخضاع الديني للزمني (وهذا شكل متقدّم من العلمانيّة)، كان بالإمكان اعتبار تصوّراته وهميّة. ولكن التاريخ أثبت عكس ذلك، وكثير من الفلاسفة يعتبرونه أباً للدولة العصريّة التي قوامها العلمانيّة. رفض الكثير من المسلمين والمسيحيين للعلمانيّة لا يمكنه إغلاق باب المناقشة والاقتراح والتحرّي، وخصوصاً في ظل جمهورية ديموقراطيّة.
أ. ف.