علاء اللامي * للمرة الثانية، يدفع تنظيم القاعدة في العراق ـــــ وباسمه المحلي «الدولة الإسلامية في العراق» ـــــ ثمن إطلالاته الإعلامية من دماء قادته. فبعد إطلالة الزرقاوي ومجموعة من مسلّحيه في شريط «فيديو» مصوّر، قُتل هو وعدد من مساعديه بقصف جوي. هذه المرة، أطل تنظيم القاعدة قبل بضعة أيام بوثيقة أطلق عليها اسم «خطة اسـتراتيجية لتعزيز الموقف السياسي لـ«دولة العراق الإسلامية»»، وهي أول وثيقة مفصّلة ومكتوبة بدراية تنظيرية تصدر عن أحد تنظيمات ما عرف اصطلاحاً بـ«السلفية الجهادية السّنية». وبعد بضعة أيام على نشر هذه الوثيقة الاستراتيجية، التي ناقشت ـــــ ضمن ما ناقشت ـــــ موضوع الكاريزما القيادية في التنظيم ودولته المفترضة وضرورة المحافظة على الرصيد المتوافر منها، أعلن عن مقتل زعيمي التنظيم المعروفين بكنيتي «أبو عمر البغدادي» و«أبو أيوب المصري» أو «أبو حمزة المهاجر». أعلن النبأ نوري المالكي. في اليوم ذاته، وقبل عدة ساعات، صدر قرار الهيئة القضائية التمييزية القاضي بإعادة عمليات العدّ والفرز في محافظة بغداد الكبرى، التي يمثّلها 68 نائباً من مجموع 325 في البرلمان العراقي، فهل يتعلّق الأمر بمصادفة غرائبية أخرى في بلد الألف ليلة وليلة؟ وهل قتل زعيما «القاعدة» من جانب قوة عشائرية تطلبهما بثأر معيّن ولها علاقة بالاستخبارات العراقية أو بغيرها؟ ولماذا تأخّر الإعلان عن العملية يومين؟ وإذا كان التأخير ليومين بسبب انتظار نتائج فحص الحمض النووي للتأكّد من هوية القتيلين، فالمعروف أن انتظار الفحص يمتد عادةً إلى أربعة أيام على أقل تقدير، فهل جرت العملية قبل أربعة أو خمسة أيام، وجرى توقيت الإعلان عنها ليكون في يوم صدور قرار الهيئة التمييزية؟
قد تبدو هذه التساؤلات غير ذات أهمية على الصعيد الدلالي للحادثة، لكنها قد تكون مفيدة لنا في التعرّف على السياق العام لها. فالواضح أن الحادثة جاءت في أجواء استعصاء سياسي بين الكتل البرلمانية الفائزة في الانتخابات التشريعية الأخيرة وبشكل لا سابق له، قد يهدّد بانهيار شامل واندلاع موجة جديدة من الاقتتال الطائفي. ومن هنا، تبدو الحادثة كهدية هبطت من السماء على رئيس الوزراء المالكي وكتلته الانتخابية، وهي ستزيد من شعبيته حتماً، وستضع مزيداً من الضغط على خصومه سواء كانوا في التحالف الشيعي «قائمة الحكيم» أو في قائمة علاوي. وبالمناسبة، فقد التزمت القائمتان المذكورتان الصمت التام على عملية القضاء على زعيمي تنظيم القاعدة، ولم تعلّقا عليها بكلمة واحدة حتى الآن. كما شاركهما الصمت عدد من الشخصيات والقوى السياسية خارجهما، والأكيد هو أن هذا الصمت ليس بعيداً عن مناخات الاستقطاب الطائفي والحزبي السياسي.
هل جرى تأجيل إعلان العملية لتوقيتها مع يوم صدور قرار الهيئة التمييزية؟
بالعودة إلى وثيقة «تنظيم القاعدة» الاستراتيجية الجديدة، نجد الكثير مما قد يضيء لنا غوامض عملية مقتل المصري والبغدادي. فالوثيقة تسجّل الانتباهة التالية: «... ونستطيع القول إنّ الحرب القادمة هي حرب سياسية إعلامية بالدرجة الأولى، والرابح الأول في هذه المعركة هو من يحسن التخطيط والإعداد لمرحلة ما بعد الانسحاب، بحيث يستطيع تعزيز وجوده وتمثيله لدى الناس حتى يمكّنه ذلك من تسلّم زمام المرحلة بالكامل، والأخذ برأس القيادة لتوجيه العراق حسب توجّهه ومنهجه، سواء أكان توجهاً خيانياً أم وطنياً أم إسلامياً». وحين تقول الوثيقة بوطنية أحد الأطراف، فهي لا تقول ذلك امتداحاً له بل تصنيفاً سلبياً لأنها ترى أنّ «المقاومة الوطنية» أكثر خطورةً على ما تسميه «المشروع الجهادي» للتنظيم من قوات «الصحوة» المنشقّة عنه، مما يعني أن «تنظيم القاعدة» أدرك ما كان ينبغي للمقاومة الوطنية إدراكه مبكراً، وقبل أن يدمّر هذا التنظيمُ التكفيري المقاومةَ العراقيةَ ككل. وثيقة «القاعدة» تقول ذلك بوضوح معزّز بالأسماء حيث نقرأ «لأننا نرى اليوم مشروعين مختلفين في العراق، أحدهما: الوطني وهو ما تمثّله «فصائل التخويل» مع «المجلس السياسي»، وعلى الرغم من الخلاف بينهم إلّا أنه سيبقى يسيراً وغالبه منصبّ في تعارض المصالح وبعض الرؤى والأطروحات التي يمكن تلافي محل الخلاف فيها». في هذه الفقرة يبدو أن «القاعدة» قد طلقت أيّ تردّد كانت تبديه في مواجهة المقاومة الوطنية، وخصوصاً مجموعة التخويل التي يقودها الشيخ حارث الضاري، وقررت حسم المعركة ضدها رغم ما آلت إليه تلك المقاومة من ضعف وتشظٍّ حالياً. فهل أدركت تلك الفصائل الوطنية خطر تنظيم «القاعدة» عليها أخيراً بعدما اطّلعت على نوايا الوثيقة الاستراتيجية للتنظيم وحسمت بدورها تردّدها وقررت الانتهاء من قيادته عبر جهد استخباري معيّن وتنسيق عملياتي مع قوى أخرى؟
في مجموعة المهمّات والأهداف التي يضعها التنظيم أمامه نقرأ واحدة تخص ما سمّتها الوثيقة «الرموز الجهادية»، إذ أكدت «أهميّة الرموز الجهادية في هذا الوقت خصوصاً، وقد خلصنا إلى أن الأمير البغدادي قد حقّق شيئاً لا يستهان به في هذا الموضوع، ومن أسباب هذه السياسة الإعلامية الجديدة المتخذة في هذا المجال. وبالتالي فالحفاظ على هذا الرصيد والقدرة على إمكان سد هذه الثغرة لو حدثت لا بد أن يؤخذ في الحسبان». إنّ كلاماً عن ضرورة الحفاظ على الرموز القيادية وسد الثغرة إن حدثت ينبئ عن أفكار ومعلومات قد تكون دارت أخيراً في رأس الجهاز القيادي للتنظيم، وربما كانت لديهم استنتاجات ومعلومات استخباريّة معيّنة في هذا السياق. ومعلوم أن للتنظيم جهازاً استخبارياً جيداً وفعّالاً ورث رجاله وتقنياته من جهاز استخبارات النظام العراقي السابق. بل إنّ البغدادي نفسه، كما يقال، كان ضابطاً برتبة عميد في ذلك الجهاز قبل سقوط النظام.
كذلك لاحظ محللون ومراقبون خلوّ «الوثيقة الاستراتيجية الجديدة» إلى درجة ملحوظة من عناصر وشعارات كانت تقوم عليها سياساتها. ومن ذلك غياب أو ندرة التشنيع على المسلمين الشيعة وتكفيرهم، رغم أنّ بياناً آخر للتنظيم صدر بعد تفجيرات العمارات السكنية أخيراً، تبرّأ فيه التنظيم من تلك التفجيرات، ولكنه ذكَّر بمواقفه المعروفة من «الروافض أعياناً وجمهوراً».
ورغم تأكيد الوثيقة على الجهد السياسي والإعلامي، فإنّها لم تغفل الجانب العسكري، وكانت صريحة في اختيار أقسى أشكال التعامل مع العدو. إذ كان شعارها المعلن هو: تسع رصاصات للعراقي المرتدّ ورصاصة واحدة للصليبي الأميركي!
وممّا له دلالة خاصة هو اتساع أفق قادة هذا التنظيم وتنوّع الدوائر الثقافية والاصطلاحية التي أمسى يتحرك فيها ويستعملها في لغته، فقد يفاجأ المرء حين يقرأ في وثيقة «السلفية الجهادية»: «إنّ تطهير المناطق من أماكن وجود القوات العراقية العميلة من خلال استهداف المراكز والأماكن التي يكونون فيها.. له أهمية بالغة في تعزيز المعادلة السابقة لمصلحة المشروع الجهادي، إضافةً إلى أنه استنزاف كبير لتلك القوات العميلة التي سيبقى شغلها الشاغل إعادة إعمار تلك المقارّ أو البحث عن مقارّ أخرى... وهذا شبيه بسياسة الأرض المحروقة لكنها مركّزة ومختصة بفئة معينة وهي قوات الردّة».
الواضح أن النهاية الدموية لزعيمي تنظيم القاعدة لا تخرج من نسيج هذا التفكير الدموي الذي ينتج مصائر ونهايات من ذات الطينة. يبقى أن نسجل أن تنظيم القاعدة سيظل الأكثر صراحةً ومباشرةً في دمويته المعلنة بين جميع التنظيمات المسلحة ذات الطابع السري، حيث لم يسبقه طرف إلى التغني والتلذّذ بقتل البشر بالرصاص أو بسياسة الأرض المحروقة.
* كاتب عراقي