جورج سعد *قرر مجلس الوزراء اللبناني في اجتماعه في 12 نيسان الجاري في قضية الموضوعين بالتصرف المساواة بين الموظفين والمستخدمين وغيرهم من الذين لم يراجعوا مجلس شورى الدولة، وهم في حالة واحدة لجهة المماثلة والمشابهة في أوضاعهم. كما قرر الطلب إلى مجلس الخدمة المدنية بالتنسيق مع إدارة التفتيش المركزي وديوان المحاسبة دراسة أوضاع الموظفين... وإعمال مبدأ الثواب والعقاب (راجع صحيفة النهار 13 نيسان الجاري).
إزاء ذلك، لا بد من إبداء بعض الملاحظات:
أولاً: لم يكن ضرورياً الكلام على مبدأ الثواب والعقاب (درس إنتاجية المديرين العامين لتطبيق مبدأ الثواب على من يتمتع بأداء جيّد وفعّال، ومبدأ العقاب على من يخالف القوانين). لم يكن هذا الأمر ضرورياً لأنه يعني أن هذا المبدأ لم يكن مطبّقاً في السابق، وهذه نقطة سوداء في أداء الحكومات المتعاقبة. والحال أن ثمة فصلاً بحاله من نظام الموظفين يعرض للعقوبات التأديبية. ولو كان صحيحاً أن هذا المبدأ لم يكن مطبقاً، فماذا يفسر إبطال مجلس الشورى مراسيم الوضع بالتصرف التي وجد أنها تخفي عقوبات تأديبية، وماذا يفسر أيضاً القرارات العديدة التي اتخذتها الهيئة العليا للتأديب. لنقل إنه لم يكن مطبقاً على أحسن ما يرام وبصورة فوضوية جداً. ولكن الإعلان عن إعماله اليوم يعني أن الفوضى كانت تعم كل البلد، فيما الحقيقة أن العقاب كان يطال، على أحسن ما يرام، غير المحسوبين على تيارات سياسية فاعلة.
ثانياً: لا يمكن أن يتفهم هؤلاء الموضوعون بالتصرف أن تُتّخذ هذه القرارات دون تحديد مهل زمنية للبت بالتعيينات، وهم الذين طال انتظارهم لتنفيذ الإدارة قرارات قضائية صدرت لمصلحتهم منذ سنين.
ثالثاً: كذلك لا القضاة ولا أي عامل في القانون (أساتذة، محامون، إلخ..) يمكن أن يتفهموا أن يُساوى من حصل على حكم قضائي بمن لم يتقدم بمراجعة قضائية. إن هذا النهج يدعو المواطنين إلى التردد وعدم مراجعة القضاء فيما دور الحكومة ينبغي أن يكون حث المواطنين على اتباع الطرق القضائية لإحقاق حقوقهم، وهذا ما يميز الدول المعاصرة. حتى أنه في بلد كفرنسا يُحكى اليوم أن المجتمع أصبح بأكمله مجتمعاًً قانونياً وقضائياً (une société juiciarisée et juridicisée) حيث يراجع الناس القضاء في أي شاردة وواردة.
المعصية تكمن في ما صدر عن الحكومة من أن قرارات إبطال مراسيم الوضع بالتصرف إن هي إلا شكلية
ما يعني أن الدولة اللبنانية تستطيع إيجاد حلول للّذين وُضعوا بالتصرف وممن لم يتقدموا بمراجعات طعن. أكثر من ذلك، يمكن أن تقرر الدولة الحلول ذاتها للفئتين، ولكن لا بد من تمييز معين بين الحالتين: كأن يصار إلى ترتيب وضع أصحاب الأحكام القضائية قبل الآخرين. ثم لا بد من أن يصار إلى التعويض المالي للذين صدرت أحكام لمصلحتهم بصورة تلقائية، حتى خارج إطار التقدم بمراجعات لإعمال المادة 93 من نظام الشورى (الغرامات الإكراهية) لأن هؤلاء حصلوا على قرارات قضائية وينبغي تقدير احترامهم للقضاء الوطني وللقوانين الوطنية، لا سيما أن بعضهم، على ما نعتقد، كان بإمكانه سلوك الطريق السياسي منذ البداية والعودة إلى وظيفته «على الطريقة اللبنانية» ــــ حالة محمد عبيد.
رابعاً: أما الخطأ الفادح الذي ترتكبه الحكومة، فيتمثل بإحالة ملفات الموضوعين بالتصرف الذين حصلوا على أحكام قضائية إلى الهيئات الرقابية. لقد اكتسبت قراراتهم قوة القضية المقضية، وكان يجب إعادتهم منذ زمن بعيد إلى مراكزهم أو إلى مراكز مساوية بالأهمية. إن قوة المقضية la force de la chose jugée هي سبب شرعي للتقدم بمراجعات الطعن لتجاوز حد السلطة (المادة 108 من نظام الشورى). وقرارات إبطال مراسيم الوضع بالتصرف بُنيت على أنها عقوبات تأديبية في المضمون (انظر تعليقنا على قرار «محمد عبيد»، مجلس الشورى اللبناني الصادر في 7/5/2002، مجلة الحياة النيابية، أيلول 2002، ص 83).
عندما يقرر الشورى أن هذه القرارات تخفي عقوبات تأديبية، وعندما لا تبادر الدولة إلى إحالة المعنيين إلى القضاء أو إلى الهيئات التأديبية، فإن هذا يعني ضمنياً أن الدولة ارتكبت انحرافاً في السلطة واتخذت قرارات كيدية لأسباب غالباً ما تكون سياسية أو شخصية أو غير ذلك. فلا يعقل أن تستمر في الإعلان عن شكوكها بقيام أعمال تستأهل العقاب.
يمكن أن ترد الحكومة على ما نقول بأن إحالة الملفات إلى الهيئات الرقابية هو عمل شبه روتيني يحصل عند أي تعيين، وهذا صحيح. ولكن في هذه الحالة لا يُعلن عن الإحالة، لا سيما بما يخص الذين استحصلوا على قرارات قضائية تؤكد الانحراف بالسلطة رغم تفضيل الشورى عدم الاستناد الظاهري إلى هذا المفهوم. أمر من أمرين لا ثالث لهما: إما شكوك بالسلوك وفي هذه الحالة كان يجب إحالة هؤلاء إلى القضاء المختص، إما لا شكوك وفي هذه الحالة تُحترم القرارات القضائية ولا تُبرز الإحالة إلى الهيئات الرقابية.
خامساً: المعصية الكبرى تكمن في ما صدر عن الحكومة من أن قرارات إبطال مراسيم الوضع بالتصرف إن هي إلا أحكام شكلية. في هذا نسف لكل ما يدرِّسُه أساتذة القانون الإداري في الجامعات، لكل جهد القضاة ولكل بديهيات القرارات القضائية. القضاء الإداري اللبناني قرَّر في الأساس (لا في الشكل) مستنداً في قراره إلى مطالعة مفوض الحكومة آنذاك أن هذه المراسيم هي بالفعل عقوبات تأديبية، وأبطلها. كان يجب إعادة الوضع إلى ما كان عليه. هذا ما نقرأه أيضاً في رأي الدكتور سهيل بوجي (المدير العام لرئاسة مجلس الوزراء) في مطالعة وضعها موضوعها «طلب تعويض وعطل وضرر بسبب إهمال تنفيذ قراري مجلس شورى الدولة والتمهيد لملء وظيفة للمدير العام للتنظيم المدني الشاغرة بالوكالة سنداً لقرار مجلس الوزراء الرقم 67/2005»، حيث يستعيد المفهوم الأساسي الشهير في القانون الإداري وهو أن «إبطال العمل الإداري نتيجة لطعن قضائي ينتج مفاعيله القانونية من اليوم الذي صدر فيه العمل المبطل. ومن شأن الإبطال أن يجعل العمل معدوم الوجود دون الحاجة حتى إلى الكلام عن المفعول الرجعي للإبطال، ويكون العمل الإداري باطلاً من تاريخ نشوئه كما لو أنه لم يتخذ أصلاًً.
لو افترضنا أن الحكومة تعني بـ«الأحكام الشكلية» أن إبطال هذه القرارات لا يعني أن المعنيين لم يرتكبوا مخالفات، بل هو إبطال مبني ليس إلا على واقعة أن هؤلاء الموظفين لم يستفيدوا من حق الدفاع. في هذه الحالة المعصية أكبر لأنها تعني أن الحكومة لم تنفذ القرار القضائي: إما بإعادة الموظف إلى وظيفته أو وظيفة مماثلة وإما إحالته إلى الهيئات العليا للتأديب أو إلى النيابات العامة. ولكن أن تتقاعس تاركة الأمور على حالها مرتبة تعويضات كبيرة على الدولة أو ساكتة على فساد فهذا لا يليق بسلوك حكومي يحترم القضاء والمواطن.
سادساً: في رأينا، إنّ قرار الحكومة الصادر في 12 نيسان الجاري والمتعلق بوضع آليات لتعيين الموضوعين بالتصرف مشوب بمغالطات جمة، وضرره بالغ على الموضوعين بالتصرف الذين استحصلوا على قرارات قضائية لمصلحتهم. وعليه فإنه قرار نافذ بكل معنى الكلمة، لا سيما أن قرارات مجلس الوزراء غدت «بصورة عامة» قرارات نافذة منذ قرار بروموريان. إن قرار مجلس الوزراء الذي نحن في صدد تناوله هو نافذ بامتياز، ولو أنه يتلطى تحت غطاء تسميات عديدة (آليات للتعيين، توجيهات، إحالات، تدابير داخلية) وتالياً ننصح المعنيين بالتقدم بمراجعة تهدف إلى إبطال قرار مجلس الوزراء هذا.
* أستاذ في كلية الحقوق ـــ الجامعة اللبنانية