إيلي شلهوبأما وقد أجمع الأطراف كلهم على مفصلية اللحظات التي تمر بها بلاد الرافدين، حيث العملية الاقتراعية ترقى إلى حدّ الاستفتاء على هوية العراق ومصيره، فلا بد من وقفة تأمل في ما جرى ويجري، لما لهذه الانتخابات من تداعيات على المنطقة ككل.
مجموعة من الأفكار والعناوين المرتبطة بهذا الحدث، لكثرة ما استُنفدت خلال الأيام الماضية، تحولت إلى مسلّمات: إنها آخر انتخابات تجري في ظل الاحتلال (على الأرجح). إن الطرف المنتصر فيها سيحكم العراق ويحدّد مصيره لعقود. إن السنّة، الذين ارتضوا أخيراً خسارة الملك والعرش، لن يرتكبوا خطأ المقاطعة مرة أخرى، ويطالبون بحصتهم من الكعكة. إن الشيعة، مهما انقسمت صفوفهم واختلفوا في ما بينهم، لن يقبلوا، بأي شكل، خسارة امتيازات دفعوا ثمنها دماً بعد عقود، بل قرون من الاضطهاد والتنكيل، منذ موقعة كربلاء الشهيرة. وإن الأكراد، الذين يراهنون على أن يبقوا «بيضة القبان»، ماضون في تعزيز سلطتهم في كردستان، بل توسعتها عمودياً (في مقابل بغداد) وأفقياً (عبر ضم المزيد من الأراضي). وإن الجميع، مؤيّدي الاحتلال ومعارضيه، أغلقوا فصل الغزو والاحتلال وارتضوا قوانين اللعبة (التي فرضها الأميركيون) لتقاسم السلطة...
هي باختصار معركة الحواسم العراقية، التي يتوقع أن تكون من الشراسة بحيث تسقط جميع الاعتبارات والقيود (القانونية والأخلاقية وغيرها)، ومن الخطورة بما يهدد بعودة الاحتراب الأهلي، لكثرة ما في الميزان من قضايا مصيرية على المحك، ولوفرة المقاتلين والسلاح (باتت هناك الآن ميليشيات سنّية منظمة تسمّى «صحوات» تضاف إلى الشيعية منها والكردية).
لكنها أيضاً معركة الحواسم الإقليمية بامتياز. الجولة الأخيرة في حرب نفوذ خيضت جولتها الأولى في 2003. حرب تعددت أوجهها (حامية وباردة ومباشرة وبالوكالة وسياسية ودبلوماسية وأمنية وعسكرية)، بدأت مقدماتها عشية غزو العراق، وقدحت شرارتها معه. اجتياح عارضته سوريا وتركيا وأيّدته السعودية ومصر ولم تمانعه إيران، أعاد خلط الأوراق وأفرز اصطفافات جديدة في المنطقة، قسّمتها إلى فسطاطين: اعتدال وممانعة. بسببه تعاظم نفوذ إيران التي تخلّصت من خلاله من «الجدار الصدامي»، وفي الوقت نفسه تعاظم «خطرها» (بعيون آل سعود ومبارك) بعدما هيمن حلفاؤها على بغداد ولامس حرس ثورتها السعودية التي تخشى قيام دولة شيعية على حدودها. وعلى خلفيته توترت علاقة دمشق بالرياض (التي أيّدت القرار 1559). ومن هناك أيضاً انطلقت عدوى الاقتتال المذهبي، الذي بلغ حداً تحوّلت فيه إيران إلى عدو وإسرائيل إلى صديق وحزب الله إلى مغامر و«حماس» (لمجرد أنها تحظى بالدعم الإيراني) إلى انقلابية...
هي الجولة الأخيرة من معركة عمرها ثماني سنوات، تغيّر في خلالها شكل العراق والاصطفافات داخله ومعه شكل المنطقة والاصطفافات فيها. يوم دخل الأميركيون بغداد، قاتل الأكراد (البشمركة) إلى جانبهم، وفتح الشيعة (فيلق بدر) الطريق أمامهم (في مقابل جيش المهدي الذي رفع لواء المقاومة)، وتصدّى لهم السنّة (فلول صدام واستخباراته و«القاعدة» وأخواته). اليوم، عشية الانسحاب المزمع للقوات الأميركية، لا يزال الأكراد، من وجهة نظر واشنطن، الحلفاء الذين يمكن الاعتماد عليهم. لكنّ نظرتها إلى حلفائها الآخرين يبدو أنها تغيّرت. باتت على اقتناع (كرّسه زلماي خليل زاد في 2007) بأنهم أكثر قرباً من طهران منهم إليها، وأن الوضع في العراق والمنطقة لا يستقيم إلا بإعادة الاعتبار إلى السنّة بما يحدّ من النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين و«يثلج صدور» حلفائها من أمراء النفط وحرّاس الأهرام. زيارة جوزف بايدن لإعادة المجتثين خير دليل.
حتى الأطر السياسية تغيّرت. خلال السنوات الأولى من الاحتلال، كانت الاصطفافات السياسية مذهبية بحتة أو عرقية بحتة. لائحة للأكراد (التحالف الكردستاني) وأخرى للعرب السنّة (جبهة التوافق) وأخرى للشيعة (الائتلاف الموحّد)، وبعض الفكة. كان هناك خارجون عن العملية السياسية (أفراد وتنظيمات) ومتمردون عليها (التيار الصدري)، وكان حابل المقاومة مخلوطاً بنابل الإرهاب المذهبي الذي استعر اقتتالاً في الأزقة وتطهيراً مذهبياً وعرقياً في الأحياء. أما اليوم، إضافة إلى الفكة، فالشيعة لائحتان («الائتلاف» و«دولة القانون») مع تلاوين مذهبية، والسنّة تفرقوا لوائح صغيرة، والكردستاني يواجه لائحة نوشيروان مصطفى، بل ظهرت لوائح عابرة للمذاهب، تتقدمها لائحتا أياد علاوي وجواد البولاني. تزايد جمهور الخطاب الوطني الجامع، وأصبح التمييز بين حركات المقاومة، التي خرج بعضها إلى العلن أخيراً، والتنظيمات الإرهابية أكثر وضوحاً.
كذلك حال الجوار؛ إيران، التي اعتمدت أول أيام الاحتلال تكتيك تنغيص حياة الأميركيين بالحد الذي يمنعهم من حكم العراق ولا يجبرهم على مغادرته، باتت لها يد الطولى وقادرة على ضبط إيقاع الصراع في هذا البلد بما يغنيها عن الوجود الأميركي. وسوريا، التي ألقت بثقلها خلف حركات المقاومة العراقية، رعت أخيراً حوار الأميركيين مع البعثيين السابقين، الذي أثمر توافقاً على أياد علاوي، تؤيّده الرياض التي يبدو واضحاً أن الملف العراقي يتصدّر لائحة ملفات المصالحة بينها وبين دمشق. هي الرياض نفسها التي قاطعت (ومعها باقي العرب) عراق ما بعد صدّام، لأن حكّامه شيعة لا يعادون إيران (لا تزال ترفض استقبال نوري المالكي).
جولة أخيرة لن يسلم أحد من تداعياتها، نتيجتها ستعيد رسم الخريطة الإقليمية وتحدد وجه المنطقة... لعقود.