نهلة الشهالقد يكون التمرين مضجراً، ولكنه يفرض نفسه: لا تسرّ نتائج العام المنصرم إلا الأعداء. ولا تبدو طلائع العام الجديد حاملة لأفضل منها، رغم «تفاءلوا بالخير تجدوه». قد يعتدّ اللبنانيون بأن بلدهم شهد قبل انقضاء 2009 تأليف حكومة وحدة وطنية. مبروك! وقد يعتد السوريون بأن دمشق قد استعادت خلاله ألقها وتجاوزت الإطار الخانق الذي كان منصوباً لها. صحيح. ولن نستعيد هنا ذلك المثال السفسطائي عن نصفي الكوب... بل نُشغل بتعيين موقع الدينامية القائمة ووجهة نبض عصبها. وهذا يدفعنا للبدء من فلسطين، التي ما زالت معطياتها تتحكم إلى حد بعيد بسواها، والدليل معركة مصر لحجز موقعها في التسوية الأميركية لـ«مسألة الشرق الأوسط»، وتوسلها في هذا السياق حتى بناء الجدار المقلوب. أو الخوف/ الشبق تجاه فكرة الوطن البديل التي تحرك الأردن. ويمكن الاسترسال.
من نافل القول أن العام المنقضي كان كارثياً على فلسطين، ليس فحسب لأنه افتتح بالعدوان على غزة وما جرّه من ضحايا، مما لا مثيل لوحشيته على امتداد التاريخ الفلسطيني، رغم أنه لم يصنع من الورود. بل لأن الانقسام الفلسطيني لم يجد له تسويات، كما لم يولِّد ظواهر تتجاوزه. وهذه النقطة الأخيرة تعادل سابقتها في الأهمية والدلالة على السواء، وهي واحدة من مسائل يُفترض أن تحظى، بسرعة وإلحاح، بالإثارة والنقاش في العام المفتتَح... ما دمنا مرغمين على جردة الحساب، ورديفها مهمات يعد المرء نفسه بمباشرتها. الحاصل: التشديد على الحاجة إلى التوافق لا يطابق الدعاوى البلهاء للمصالحة الوطنية كيفما كان، فحتى الصلح العشائري تحكمه أعراف صارمة. ولكنه تنقيب مرتجى في ما يمكن أن يمثّل أسساً عقلانية لاتفاق سياسي بين فتح وحماس، ومعهما سائر القوى الفلسطينية، وهو ليس مستحيلاً. فليست فتح وحماس أعداءً نهائيين، وإلا فعليهما إعلان ذلك وفق حيثيات سياسية، وتحمّل مستلزماته، والكف عن خطاب مغاير يصبح مصدر ضرر عظيم. بل هما ليسا على قدر من التفارق يجعلهما غير قادرين مطلقاً على مقاربة التوافق. وإنما يجد كل منهما «مصلحة» له في تأبيد الخلاف. وهنا يقع خطأ الحساب. فتلك المصلحة صغيرة، ولكنها تتعدى على كل ما عداها، وتسهم من جهتها، وذاتياً، في إغلاق الأفق أمام فعل فلسطيني، هو تعريفاً ولأسباب موضوعية، في غاية المشقة. وتتسرب اليوم أنباء عن تقدم جدي في مسار التفاوض على هذا التوافق السياسي، فيا حبذا! ولو أن السيد دحلان سارع إلى نفي هذه الأنباء، وكان في ذلك كالمريب يقول خذوني. بات من الضروري على العقلاء في الجهتين، وعلى سائر المخلصين في فلسطين وحولها، أن يعبّروا بقوة وبلا محاباة عن خيبتهم من مستوى الإدقاع السياسي الذي تكشَّف عنه حتى الآن الفصيلان الكبيران. وليس في هذا القول نفي لوجود خلافات سياسية جوهرية بين الاثنين، بل تقدير بأنها رغم ذلك تتيح حداً من التوافق مع حد مشابه من الاستقلالية. وهو نصيب كل التجارب السابقة، بدءاً من التجربة الصهيونية نفسها!
وأما العراق، ذلك الجرح الغائر الآخر، فبقي يدور في الجحيم. ورغم بعض علامات يقظة وعي وطني جامع، قد تعبّر عن نفسها في أحداث وفي مناسبات متفرقة، إلا أن إيقاع الكارثة ما زال أسرع وأقوى، ولا تجد الأصوات الساعية إلى تلمّس مخارج للخلاص صدى كافياً ولا احتضاناً تحتاج إليه. ولعل العراق، رغم كل ما تراكم عليه وما ينتظره، خير مجسّد لحالة التشاؤل، النسبية بالضرورة.
ولكن اليمن هو البؤرة الأخرى التي انفجرت خلال العام المنصرم وتهدّد بالتحول إلى سعير يأكل البلد وما حوله. وهي قد تكون مفتاح تورّط الرئيس أوباما في الانزلاق نحو نقيض ما دعا إليه وما كان من عوامل ترجيح انتخابه: الانتهاء من إرث سلفه الحربي. ها نعيق ديك تشيني ورفاقه من لصوص «الحرب الشاملة والدائمة» يرتفع، يدعو الرئيس إلى العودة إلى سياستهم. وهم لا يعتدّون فحسب بذلك النيجيري التعس الذي جُهِّز في اليمن وحاول تفجير الطائرة المتجهة إلى ديترويت، بل بقرار أوباما إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان، وكانت تلك سقطة تسهِّل سواها، وتعيد إرواء منطق دعاة الحروب. ثم، في الطبقة الأدنى من هذا، يلوح في لهيب اليمن تورّط عملاني سعودي لن يكون بلا نتائج على مجمل المنطقة. وهناك تفكك البلاد، وهي تعاني أصلاً الأمرَّين من الفقر المريع ومن استبداد حكامها، واحتمال أن تجد «القاعدة» المتشظية ملجأ لها في أكثر من بقعة منها، وأن تستعيد بذا بعض فاعلية خطابها المدمّر وأعمالها العبثية، فتبرّر خطط العدوان كلها.
ثم يعني العالم كله، ومنطقتنا خصوصاً، ما يجري في إيران. فخطر إمعان حكم خامنئي/ نجاد في منهج القمع سيزيد من عزلة البلد على كل الأصعدة، ويسهل بالضرورة مخططات الاعتداء عليها. وأما منطق الأولويات المتضاربة، وهو رائج ويظن نفسه ثورياً، فكارثة أخرى! فالتجارب الثورية الناجحة، على قلّتها، تقول بأن الأولويات متداخلة، وأنه لا يمكن مقارعة واشنطن بينما تُسفك دماء المخالفين بالرأي، وأن الديموقراطية والحقوق الأساسية ليست ترفاً يُستحصل عليه بعد إنجاز سائر المهمات، بل هي شرط تحقيق تلك المهمات، وللأدق، غاياتها. فهل؟...