سعد الله مزرعاني *لا شكّ بأنّ الرئيس نبيه بري قد دفع النقاش بشأن مسألة تطبيق المادة الدستورية المتعلقة بتأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، خطوات إلى الأمام. إنّه في الواقع، يفعل أمراً تخلّف عن فعله (باعتباره استمرّ رئيساً لكلّ المجالس النيابية المنتخبة منذ عام 1992 حتى اليوم) طيلة ثمانية عشر عاماً. لقد قدّم قبل يومين، في مؤتمره الصحافي، تبريراً لذلك. بعض هذا التبرير منطقي وبعضه الآخر ليس كذلك. من ذلك أنّ موضوع تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، قد استخدم كفزاعة أو كعنصر مقايضة للسكوت على سياسات مرحلة الإدارة السورية للبلاد وممارساتها وتحالفاتها، وكذلك على الإدارة نفسها.
اليوم يعتقد البعض، أنّ في الأمر أيضاً، شيئاً من المقايضة والمناورة والتهويل. لا يمكن نفي وجود بعض من ذلك. ورغم هذا الاحتمال، فإنّ تحرّك رئيس المجلس النيابي، يتخطى هذا العامل إلى ما يدفع نحو البحث عن أسباب أخرى. ليس مستبعداً في هذا السياق أن نقع على أثر معاناة وأزمات، أو تحوّل في التوازنات، أو على دوافع ومستلزمات بورجوازية تسعى نحو شروط أفضل للعمل وللمنافسة عبر شيء من التحديث والتوحّد بعدما برزت أضرار الانقسام والاستقطابات الحادّة...
بكلام آخر، إنّ الطائفية التي استخدمت أداة أساسية لتثبيت سيطرة طبقية وسياسية وتعزيزها، لن تبقى بالضرورة كذلك في كلّ الظروف والأحوال. يعزّز احتمال هذا الانعطاف ما برز من خراب وتدمير ولّدته أو تنذر به الانقسامات الطائفية والمذهبية في أكثر من بلد عربي. إنّها، بشكل من الأشكال، سُنّة رأس المال في التفتيش عن أشكال جديدة للكسب والربح والتوسّع والحمايات...
يجب ملاحظة أنّ عوامل عدّة، قد اجتمعت تاريخياً، على بلورة صيغة النظام السياسي اللبناني في حلّته الطائفية الراهنة. لن يصمد هذا النظام إلى الأبد في مواجهة المتغيّرات. ولكن يجب أيضاً ملاحظة أنّ ثمة تباينات أساسية أو جزئية تميّز أطراف النظام الطائفي في سياق تفاعل المحلي مع الإقليمي لجهة المصالح والانتماءات والعصبيات. ولذلك، واستناداً إلى واقع التمايز والتباين هذا، فإنّ انعكاسات المتغيّرات لن تحصل بتماثل أو بتزامن بالنسبة لأطراف «الصيغة» السياسية الطائفية اللبنانية.
الطائفية التي استخدمت أداة أساسية لتثبيت سيطرة طبقية وسياسية وتعزيزها، لن تبقى بالضرورة كذلك
في رصد ردود الفعل والمواقف حيال مبادرة الرئيس بري، يمكن ملاحظة أنّ حذر القوى السياسية الممثلة للحصة المسيحية في النظام الراهن، هو الأكبر والأوضح. العماد ميشال عون روّج لمعادلة مفادها أنّ البحث في تطبيق المادة 95 من الدستور المتعلقة بتأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، يبدأ عندما يحصل التوازن السياسي والإداري والأمني على مستوى السلطة. لذلك رفع شعارات وطرح مطالب من شأنها تأمين هذا التوازن، أي تأمين المناصفة الفعلية بين ممثلي المسلمين والمسيحيين في إشغال مواقع القرار في السلطة في البلاد. هذه معادلة سيصبح تحقيقها أصعب بل مستحيلاً، إذا استمرّ النظام الطوائفي الراهن. كلّ العوامل المحلية والإقليمية، كلّ العصبيات المنفلتة، كلّ التحوّلات الديموغرافية التي تحصل على نحو طبيعي أو بالإكراه، تدفع نحو ترجيح وتكريس الغلبة لا التوازن. الضمانة هنا تصبح في المساواة بين المواطنين، لا في طلب مساواة مستحيلة بين الطوائف. بكلام آخر، لم تعد الطائفية تمثّل ضمانة في مناخ من التحوّل والاختلال والصراع وتأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية والإثنية وسواها. يتصالح العماد ميشال عون وتياره أكثر، مع منطلقاتهما المدنية إذا أدرجا الضمانات في سياق الإجراءات المطلوبة لإلغاء الطائفية السياسية. وهي إجراءات في النص، كما في الواقع، ذات طبيعة متدرّجة. أما أولئك الذين يتوهّمون أنّ الضمانات يوفّرها النظام الطوائفي نفسه فضلاً عن تحالفات أميركية وغربية وحتى إسرائيلية، فهم يختارون أقرب السبل نحو الدمار الوطني والانتحار الذاتي. لقد ولّى عهد الامتيازات، وبديله عهد المساواة. إنّه صيغة حياة لبنان الجديدة، أما صيغته السابقة فهي في لبنان، وفي كلّ مكان صدِّرت إليه، كما في العراق المنكوب، مثلاً، فهي صيغة انقسام وتقاتل وتشرذم وضياع.
إنّ لبنان، أي شعب لبنان، الذي اشتقّ تمايزه من بطولات أبنائه في الصمود وفي المقاومة وفي التضحية والانتصار، مطالب بأن يشتق الآن فرادته من مواصلة الانفتاح والتسامح. لا سبيل إلى ذلك بغير نظام مساواة وحريات يوفّر لكلّ أبنائه الحماية والأمن والاستقرار ويقدّم أنموذجاً جديداً يستحث أيضاً ما يشابهه في محيط عربي متعطّش للتخلّص من أنظمة وممارسات القهر والتسلّط والاستبداد والاضطهاد.
لقد استقرّت معادلة صحيحة مؤدّاها أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وأنّ المستفيد من الطائفية لن يكون شريكاً في إلغائها. هذه معادلة صحيحة إلا عندما تتحدّاها المتغيّرات كما ذكرنا، فيتجه أصحاب المصالح نحو صيغ جديدة. لكنّ ذلك لن يحصل تلقائياً وسريعاً، بل لن يحصل دون ارتدادات وتعرّجات وممانعة. ولذلك تتجه الأنظار إلى دور القوى اللاطائفية، قوى الديموقراطية والتغيير، ونكرّر هنا أنّ هذه القوى قد قدّمت مساهمات كبيرة في فضح خطر استمرار اعتماد النظام الطائفي وفي كشف مسؤوليته عما يعانيه لبنان واللبنانيون من الانقسام والضعف والتشرذم والتبعية...
هذه القوى مطالبة بأن تأخذ دورها وموقعها في عملية التحوّل القائم والمنشود. وهي تستطيع الكثير إن هي نجحت في بناء عناصر نجاح قوّتها ودورها. إنّ قيادة مشروع إنقاذ وطني هي مسألة تتجاوز بكثير عملية موضوعية يحفّزها الربح وتوجهها نزعات التسلّط والهيمنة والمنافسة والمحاصصة.
من هنا، في الواقع، يبدأ المشروع الوطني، مُستكملاً أيضاً، بكلّ المرتكزات الأخرى في حقول الدفاع عن لبنان واستعادة ما بقي من أرضه، وفي مجال إعادة بناء اقتصاده. هذه عناصر أساسية في تجاوز أزمات لبنان القديمة والجديدة، وفي الحفاظ على إنجازات شعبه، وأساساً في الحفاظ على وجود لبنان نفسه، في مواجهة مخاطر متفاقمة قائمة ومتوقّعة.
ثمّة خشية طبعاً، رغم الإيجابيات، من أن ينتصر المنطق التقليدي، وأن يتحوّل طرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية، إلى «دعسة ناقصة» عوضاً عن أن يكون، كما أسلفنا، خطوة إلى الأمام.
ضمانة ذلك، تكراراً، هي في نضال دؤوب وهادف ومبرمج تضطلع به القوى الديموقراطية والوطنية وتستطيع من خلاله بناء نسبة قوى راجحة باطّراد لمصلحة بناء لبنان السيّد الحر المزدهر العربي الديموقراطي، والمتحرّر من كلّ أشكال الطائفية!
يبقى أن نذكّر الرئيس ميشال سليمان، بأنّه كان السبّاق في الوعد بالإصلاح. وقد آن الأوان لأن يقدّم مساهمته وهي بالتأكيد ستكون مهمّة ومؤثّرة.
* كاتب وسياسي لبناني