جسد اعتماد حرية التبادل وسياسة «اليد المرفوعة» (laissez-faire) وتطبيق قاعدة توازن الموازنة العامة مكوّنات النظام الاقتصادي الليبرالي اللبناني. وهي مكوّنات لم يشهد الأخذ بها أي انقطاع منذ حقبة المتصرفية. ثمة من يقول إن هذه التجربة التي قامت على التعويل على السوق بديلاً من الدولة في التنمية، كانت خياراً بائساً، إن على صعيد التنمية أو على صعيد البناء الوطني
ألبير داغر *
1. حرية التبادل المفروضة قسراً في العهد العثماني
مثّل الانفتاح الإضافي لمناطق السلطنة العثمانية على التبادل التجاري مع أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تغيراً مهماً مقارنة بالواقع السائد حتى ذلك الحين. جاء ذلك بالتلازم مع تطور الثورة الصناعية في الغرب، ورغبة البلدان الصناعية في إحلال تخصص دولي للعمل تحتكر فيه إنتاج السلع الصناعية وتعوّل على البلدان المتخلفة والمستعمرات لتوفير ما تحتاجه من مواد أولية وسلع زراعية. وحتى ذلك التاريخ، كانت السلطنة تطبق نظام حرية ــــ تبادل مع الغرب، قوامه رسوم على الاستيراد لا تتجاوز الـ3 في المئة، ورسوم على الصادرات تساوي 12 في المئة، لمنع التصدير من أن يسبب أزمات ندرة للعرض وثورات في الأقاليم. وقد أرست هذه المعدلات المعاهدة الأنكلو ــــ عثمانية لعام 1838، التي كانت من بين الأثمان التي دفعتها السلطنة لضمان دعم القوى العظمى الأوروبية لها. وقد عدّلت هذه المعاهدة اتفاقية «الامتيازات» (capitulations) المعتمدة منذ عام 1675، والتي كانت الواردات والصادرات تؤدي بموجبها رسماً جمركياً لا يتجاوز الـ3 في المئة. ومع تزايد حاجة البلدان الأوروبية إلى المواد الأولية التي تنتجها المنطقة، خفضت السلطنة، بموجب معاهدة موقعة مع هذه البلدان في عام 1861، الرسوم على الصادرات من 12 في المئة إلى 8 في المئة، ومن ثم إلى 1 في المئة.
ومثّل اقتصادا مصر وجبل لبنان نموذجين تخصّصا في إنتاج المواد الأولية الزراعية التي تحتاجها الصناعة الأوروبية، أي جسّدا حالتَيْ زراعة تصديرية وتبعية للسوق الدولية. وبعد إنهاء تجربة محمد علي في التصنيع وبناء الدولة، فرض على مصر أن تتخلى عن نشاطات تحويل القطن المحلي، وأن تتخصص في إنتاج سلعة وحيدة للتصدير هي القطن الخام. وفي العقد الأول من القرن العشرين، كانت هذه السلعة تمثل 90 في المئة من الصادرات المصرية.
ورُبط جبل لبنان بمصانع الحرير في فرنسا منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتضاعفت صادرات الحرير 11 مرة بين عامي 1841 و1959، وكانت المناطق اللبنانية تؤمن وحدها 75 في المئة من إنتاج الحرير لسوريا الكبرى. ولعبت الجيوش المرسلة من نابوليون الثالث في أعقاب مذابح عام 1860 دوراً أساسياً في إعادة تنظيم إنتاج الحرير الطبيعي وتصديره إلى فرنسا.
ثمة نخب تجارية ومصرفية استقرت آنذاك في بيروت، كانت توفر القروض لفئة الأعيان وملتزمي الجباية قبل التنظيمات. وقد نما دورها مع ارتفاع مستوى التبادل مع أسواق الغرب. هذه النخب نفسها أخذت على عاتقها شراء السلاح قبل مذابح عام 1860 وكانت لها مصلحة في زوال سيطرة المقاطعجية وحلول نظام جديد يحرّرها من الحاجة لهؤلاء لتنفيذ العقود التي كانت تبرمها مع المنتجين، ويجنّبها الخسائر التي كان يرتبها عليها تمنع المقاطعجية أنفسهم عن سداد القروض التي كانت توفرها لهم.
وقد أعطى نظام حرية التبادل وعدم تنطّح الدولة العثمانية لصوغ مشروع «تصنيع متأخر» (late industrializing) على شاكلة ما فعلت البلدان الأوروبية «التي أتت متأخرة إلى التصنيع»، النخب التجارية موقعها آنذاك وعلى مدى الحقبة الباقية من العهد العثماني.

2. الليبرالية الاقتصادية والديموغرافيا أوائل القرن العشرين
جسد اقتصاد الحرير حالة نموذجية لزراعة تصديرية طُوّرت بمبادرة غربية ولخدمة السوق الدولية، ضمن إطار من حرية التبادل وانكفاء الدولة عن لعب أي دور تدخلي فيها. وقد حُشد شعب بكامله للانخراط في ذلك النشاط الإنتاجي طيلة ثلاثة أرباع القرن (1841ــــ1915). وخلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، كان نصف سكان جبل لبنان يعملون في اقتصاد الحرير، وكانت نسبة90 في المئة من الصادرات تذهب إلى فرنسا.
وبعد ارتفاع استثنائي لأسعار الحرير في العقد السابع من القرن التاسع عشر، بسبب الحرب الأهلية الأميركية التي سببت ندرة في عرض الحرير والقطن في السوق الدولية، هبطت الأسعار بقوة واستمرت على هذا النحو طيلة العقود الفاصلة عن الحرب الأولى. وجسدت تقلبات الأسعار هذه حالة نموذجية لتدهور حدود التبادل التي عانتها كل الاقتصادات التي تخصصت بتصدير مواد أولية زراعية إلى السوق الدولية. وكان الدليل على هذا التدهور في الحالة اللبنانية إصرار المنتجين على زيادة العرض رغم تراجع الأسعار الدولية. وهو تراجع برر «التشاؤم بشأن قدرة الصادرات على تحقيق التنمية» الذي عبر عنه اقتصاديو التنمية لاحقاً، وأولهم راوول بريبيش.
ولعب عدم تدخل الدولة بأي شكل من الأشكال لدعم اقتصاد الحرير دور العنصر الثاني في أزمته. وقد عجزت صادرات الحرير الخام اللبناني عن المنافسة في السوق الدولية، وخصوصاً في مواجهة الحرير الياباني الذي وقفت وراءه دولة تدخلية شديدة الفعالية، دعمت منتجيها وطورت مهاراتهم بطرق شتى. أما في لبنان، فقد عارض مستوردو بيوض الحرير في بيروت مجرد إنشاء وحدة أبحاث زراعية محلية لتطوير بديل من البيوض المستوردة.
وبالتلازم مع أزمة اقتصاد الحرير وإهمال الدولة لمنتجي الريف، وتركهم ينتزعون شوكهم بأيديهم، نشأ تقليد في الهجرة منذ ما بعد أحداث عام 1860. واستمرت معدلات الهجرة بالارتفاع إلى أن بلغت مستويات كارثية خلال العقد الأول من القرن العشرين.
وقد ارتفعت معدلات الهجرة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، بسبب الانحسار الاقتصادي وعدم قدرة الاقتصاد المحلي على توفير عمل لمتخرّجي المعاهد التي أنشأتها البعثات الأجنبية. وفي ما بعد، بلغ الرصيد الصافي السنوي للمهاجرين من لبنان 15 ألفاً على مدى حقبة 1904ــــ1914 التي شهدت هجرة لعموم سكان الهلال الخصيب. وقد بلغ عدد المهاجرين من المنطقة ككل، نحو 120 ألفاً بين عامي 1860 و1900، و210 آلاف بين عامي 1900 و1914. وفي قراءة سمير خلف للهجرة اللبنانية أن الذين قصدوا الولايات المتحدة وحدها بلغ خلال السنتين اللتين سبقتا الحرب العالمية الأولى تسعة آلاف كل عام، وأن جبل لبنان كان قد فقد على هذا النحو في عام 1913 ما يعادل ربع سكانه البالغين آنذاك 422 ألف شخص.

3. الحرب الأولى والليبرالية والمجاعة
وكاد أولئك اللبنانيون أنفسهم يختفون بالكامل من الوجود خلال الحرب العالمية الأولى بفعل المجاعة التي دامت أكثر من ثلاث سنوات. وضربت المجاعة خلال حقبة 1915ــــ1918عموم الهلال الخصيب، وقتلت نحو 500 ألف من أهله. وقتلت وفقاً لأحد المصادر نصف الباقين من سكان لبنان، ممن لم يهاجروا خلال الفترة السابقة.
كان التزام جباية الضرائب على مدى ثلاثة قرون ونصف قرن قبل التنظيمات، المدخل الأساس لتشكّل النخبة السياسية والاقتصادية
تتحمّل القوى العظمى الأوروبية مسؤولية المجاعة لأنها حاصرت الشاطئ خلال الحرب ومنعت الإمدادات. بل إنها عملت على طمس الدور الذي لعبته آنذاك، من خلال تعمد عدم أرشفة وقائع تلك الحقبة. والقراءات الأكثر حداثة، ومنها أعمال توثيقية عن تلك الفترة، تظهر إنكلترا بوصفها القوة العظمى الأوروبية الأكثر ضلوعاً في افتعال المجاعة، لدفع الأقليات، وخصوصاً الأرمنية بينها، للانتفاض ضد السلطنة والمشاركة في المواجهة ضدها (الأخبار في 7/4/2009). وأعطت تجربة المجاعة لبعض التجار والمضاربين الذين تحكموا بالأسعار وبالكميات المعروضة من السلع والمحاصيل، المجال للحصول على أرباح فاحشة. وقد تواطأت السلطة الانتدابية في ما بعد مع مضاربي الداخل لكي لا تحصل مساءلة عن المسؤولية في المجاعة.

4. الحقبة الانتدابية واقتصاد الاتفاقيات والريف
مع نشوء الجمهورية الخامسة في فرنسا كان قد اكتمل تحوّل الدولة الفرنسية إلى دولة تنموية على شاكلة الدولة في بلدان أوروبية أخرى وبلدان شمال ــــ شرق آسيا، أي دولة تدخلية تحفز القطاع الخاص لإنتاج سلع يمكن الذهاب بها إلى الأسواق الدولية. لكن الدولة الفرنسية كانت قبل ذلك التاريخ، وعلى مدى حقبتي الجمهوريتين الثالثة والرابعة دولة ليبرالية، بمعنى الالتزام بتوازن الموازنة العامة. وأنشأت خلال الانتداب دولة لبنانية ليبرالية هي الأخرى. وأورثت لبنان لحقبة الاستقلال النمط ذاته من الدولة.
وعند روجيه أوين أن الحفاظ على توازن الموازنة أملته القاعدة التي عملت بموجبها السلطات الانتدابية. وهي تمثلت برفض تمويل أية عجوزات في موازنات الدول الواقعة تحت الانتداب. وقد أملى التزام هذه القاعدة على السلطات التحالف مع ملاك الأرض وتوليتهم الإشراف على الأرياف التي كان يسكنها أغلب السكان، وتمليكهم الأرض مقابل ذلك. أي إن الإصلاح الزراعي على طريقة الانتداب عبر عنه تحكيم هؤلاء الملاك في رقاب الناس.
وقد حصر الانتداب الإنفاق على البنى التحتية في مدينة بيروت بما يخدم دورها كمستودع بضائع ومركز تجاري إقليمي. وجسدت السياسة الاقتصادية التي اتبعتها الدولة المنتدبة ما يسمى «اقتصاد الاتفاقيات»، بجعلها التبادل التجاري والخدمات المرافقة له حكراً على المصالح الفرنسية. وكانت سلطات الانتداب تكتفي بإنفاق ما تحصله من رسوم جمركية وضرائب غير مباشرة، كانت تمثل 80 في المئة من مداخيلها. ولم تكن معدلات هذه الرسوم توفر أية حماية للصناعات الناشئة، ولم يكن ممكناً رفع هذه المعدلات لأن النخب التجارية كانت تمانع في ذلك.
وفيما كان يمكن اعتبار جبل لبنان الأكثر تقدماً خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر على صعيد البنى التحتية للمواصلات مقارنة بغيره من أقاليم المنطقة، فإن شبكة المواصلات خارج محيط بيروت، بقيت تقريباً على حالها على مدى المئة سنة اللاحقة. وحين قرر فؤاد شهاب إنفاق ما راكمته الموازنات العامة بين عامي 1943 و1962 من فوائض، كان ثمة 800 قرية من أصل 1800 قرية هي مجموع قرى لبنان في ذلك التاريخ، لا تزال بدون طرق تصلها بالساحل.
ولم يعد اقتصاد الحرير إلى سابق عهده بعد كارثة المجاعة. وشهد عقد العشرينيات سلوك اللبنانيين مجدداً طريق الهجرة وفق معدلات ماثلت تلك التي عرفتها حقبة ما قبل الحرب الأولى. وخلال الثلاثينيات تعاون انخفاض الأسعار بسبب الانهيار الاقتصادي في الغرب مع منافسة الحرير الاصطناعي للقضاء على اقتصاد الحرير بالكامل. وقد تخلى المزارعون ببساطة عن الأراضي التي كانوا قد استصلحوها لزراعة شجر التوت. وحاول البعض من هؤلاء الانتقال إلى زراعات تصديرية أخرى، وتحول البعض الآخر إلى اقتصاد الكفاف، وخصوصاً خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
ورغم استثمار أموال اغترابية في قطاعي الصناعات الخفيفة والسياحة، والتحوّل إلى التصدير إلى الأسواق الإقليمية، وتطور نشاطات التجارة المثلثة الموجهة إلى هذه الأسواق، فإن مستوى الدخل الفردي بقي هو نفسه على مدى العقدين اللذين سبقا الحرب العالمية الثانية.

5. الليبرالية واقتصاد السوق والأرياف بعد الاستقلال

السياسة بمنطق الأعيان

تحت عنوان «السياسة بمنطق الأعيان» (politics of notables)، قرأ ألبرت حوراني علاقة الدولة العثمانية بالنخب السياسية والاقتصادية قبل حقبة الإصلاحات أو التنظيمات في القرن التاسع عشر وبعدها. عنى بذلك مقدرة النخب الاجتماعية على فرض رأيها على الحاكم، وجعل إجراءاته معنية بتحقيق مصالحها. وفي قراءة روجيه أوين للتجربة العثمانية، كان التزام جباية الضرائب على مدى ثلاثة قرون ونصف قرن قبل التنظيمات، المدخل الأساس لتشكّل النخبة السياسية والاقتصادية. كان المهتمون بالتزام الجباية يكوّنون مقومات سلطة محلية لهم، عمادها شبكة محاسيب وقدرة على فرض النفس بالقوة على الآخرين، ويتبارون للفوز بهذه الالتزامات من الحاكم العثماني. وكانوا يكرسون جلّ ما يحصلونه للإنفاق الاستعراضي الذي يبقيهم في ساحة المنافسة مع أقرانهم. أي إنهم مثلوا نخبة عقيمة لجهة قدرتها على الدخول في مشاريع ترفع القدرة الإنتاجية للاقتصاد المحلي.
وإذا كان فرض النفس على الحاكم، أي اعتماد التعبئة والتحشيد للضغط على الحاكم بغية الاستفادة من الموارد العامة، هو القاعدة العامة لحقبة ما قبل التنظيمات، فإن الأمر لم يتغير كثيراً بعدها، ولو أنه أُلغي تلزيم الجباية إلى الأعيان المحليين. ويظهر حوراني القدرة الكبيرة لأعيان المدن على وجه الخصوص، من مصر إلى الأقاليم العربية الأخرى من السلطنة، لجهة الضغط على حكام الأقاليم وجعلهم ينفذون إراداتهم. ولم يكن استثنائياً أن تعزل السلطنة ولاة أقاليم وحكامها نزولاً عند إرادة النخب المحلية. ولقد انفردت مصر في ظل حكم محمد علي بغياب سلطة الأعيان فيها، بعد تصفية المماليك والاعتماد في الحكم على إدارة حكومية وجيش جديدين. وعادت ابتداءً من عهد الخديوي إسماعيل سلطة الأعيان مع تزايد حاجة هذا الأخير لهم. ولعب هؤلاء دور الوسطاء بين الجمهور وسلطة الاحتلال الإنكليزي ابتداءً من عام 1882.
وتواطأ الأعيان المحليون في الأقاليم الشرقية من السلطنة مع أطراف في العاصمة الإمبراطورية اسطنبول للممانعة في السير في الإصلاحات. وزادت قوتهم مع تزايد ضعف الولاة المحليين، وخصوصاً بعد عام 1840. وهي الحقبة التي شهدت تراجع سيادة الدولة العثمانية على أقاليمها الشرقية، واضطرارها لتقاسم هذه السيادة مع القوى العظمى الأوروبية آنذاك. وقد اتخذت سلطة الأعيان أكثر مظاهرها قوة من خلال تولي هؤلاء تحصيل الضريبة التي باتت عينية في القرن التاسع عشر، ونجاحهم في تخزين الحبوب والتسبب بأزمات ندرة مفتعلة لعرض الحبوب في المدن. الأمر الذي كان يتيح لهم رفع الأسعار وزيادة ثرواتهم، وفرض أنفسهم على الحاكم، لأنهم كانوا قادرين في أي وقت على التسبب باختلال النظام العام. وبرزت قوتهم أيضاً من خلال استخدامهم عضويتهم في مجالس الولاة لتملّك القرى الزراعية والأرياف التي كانوا يجمعون المحاصيل منها.

تكوين النخبة السياسية والاقتصادية

يمكن توصيف حقبة ما بعد الاستقلال في لبنان بأنها استمرار لـ«السياسة بمنطق الأعيان» التي عرفتها الحقبة العثمانية. تشبه الدولة اللبنانية التي قامت بعد الاستقلال إلى حد بعيد الدولة العثمانية في الأقاليم، أي الضعيفة والمسلوبة الإرادة تجاه النخب المحلية. وقد ورثت النخب السياسية والاقتصادية في لبنان من تلك الحقبة أن «العمل السياسي» هو استقواء على الدولة. وقد بقي تكوين هذه النخب مطابقاً تقريباً لما كان عليه آنذاك. وقد مثلت السياسة الاقتصادية استمرارية مع حقبة المتصرفية لجهة إعطاء الدور الأساس للنخب التجارية التي يقوم نشاطها على الاستيراد والتصدير، والنخب المصرفية التي امتهنت منذ القرن التاسع عشر توفير القروض للنخب المحلية. وضمنت السياسة المتبعة من الحكومة تطور هذين القطاعين وازدهارهما. وكانت التشريعات الخاصة بالوكالات الحصرية مثلاً أحد عناصر السياسة الحكومية الممالئة للتجار في ميداني التجارة الداخلية والتجارة المثلثة الموجهة لأسواق الداخل العربي. وضمنت التشريعات المصرفية منذ قانون السرية المصرفية لعام 1956، مضافاً إليها اعتماد سعر صرف ثابت وتغطية ذهبية قوية للعملة، مقدرة القطاع المصرفي المحلي على اجتذاب التوظيفات المالية الخارجية.
وضمنت السياسة الحكومية أيضاً مصالح المكوّن الآخر للنخبة السياسية والاقتصادية، أي ما يسمى بالإقطاع السياسي، والأصح القول «رؤساء شبكات المحاسيب» (patrons de clientèle). وذلك من خلال التنفيعات المعطاة لهم، من حيث توظيف محاسيبهم في الإدارات والمؤسسات العامة، وجعلهم قادرين على تجيير الموارد العامة لتأمين منافع خاصة.
وقد أطلق كمال الصليبي على تقاسم السلطة والمنافع هذا، اسم حكم «الكونسورتيوم» (consortium rule). وفي قراءة نديم شحادة لليبرالية السائدة حتى نهاية عقد الخمسينيات، أن سياسة «اليد المرفوعة» التي اعتمدت في عهدي الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون كانت سياسة متعمدة.

النقاش حول التنمية

وحفلت حقبة الخمسينيات والستينيات بنقاش واسع حول التنمية وشروطها في البلدان النامية. ولم يحتكر النيو ــــ ماركسيون النقاش الذي يبرر تدخل الدولة في الاقتصاد وفي التنمية. بل جاءت أكثر الكتابات من اقتصاديي التنمية الذين رأوا أن لا حاجة لأن تكون هناك قطيعة مع النظام الرأسمالي لكي تتحقق التنمية، شرط أن تتدخل الدولة في هذا المشروع. وقد رأى الكاتب الأميركي شالمرز جونسون التجربة اليابانية المذهلة في نجاحها خلال حقبة ما بعد الحرب الثانية، كما لو كانت تطبيقاً ذكياً لأفكار اقتصاديين غربيين من مثل هيرشمان وغرشنكرون وغيرهما، ممن أثبتوا أن تدخل الدولة هو شرط نجاح مشروع التنمية. وبقي لبنان بمنأى عن هذا النقاش حول التنمية. بل وقفت نخبه عند ما قاله ميشال شيحا الذي استمد إلهامه من الأكثر تطرفاً بين الاقتصاديين الليبراليين في رفضهم تدخل الدولة في الاقتصاد، ألا وهو فريدريش فون حايك (Hayek)، الذي نال كتابه «الحرية والاستعباد» شهرة عقب صدوره في عام 1944.

أولوية مصالح أصحاب الريوع المالية

وعلى مدى الحقبة الممتدة من الخمسينيات إلى عام 1975، هدفت السياسة الاقتصادية إلى الإبقاء على سعر صرف للعملة اللبنانية شبه ثابت، لتشجيع التوظيفات المالية الآتية من الخارج. وكانت الآراء تجمع على الدوام أن ثمة معجزة، لأن ثمة على الدوام فائضاً في ميزان المدفوعات تسبّبه الرساميل الآتية إلى لبنان. لكن وفرة العملات الصعبة كانت ناجمة عن عدم وجود طلب قوي عليها، لأن ليس ثمة سياسة تنموية محلية تتطلب تعبئة الموارد وتقنين استخدامها لتنفيذ استراتيجية التنمية المعتمدة.
وفي قراءة سليم نصر للتجربة، أن المصارف كانت توظف 40 إلى 50 في المئة من مواردها في الخارج خلال حقبة 1970ــــ1974، وأن القروض التي كانت توفرها للقطاع التجاري كانت تعادل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه قطاعا الصناعة والزراعة مجتمعين، وأن المصارف اللبنانية مثلها مثل المصارف الأجنبية، كانت تحصر تمويلها بقطاعي العقارات والتجارة.
وتظهر المقارنة أن مشاكل ميزان المدفوعات في البلدان النامية والبلدان العربية خلال تلك الحقبة، نجمت عن استيراد السلع الترسملية أو التجهيزات لتحقيق الاستثمار وخلق فرص عمل وإنتاج سلع محلية بديلة من الواردات. أي إن عجز ميزان المدفوعات كان الثمن الذي ينبغي دفعه لتشجيع الاستثمار وتحقيق النمو.
أما في لبنان، فلم تحدد الدولة لنفسها أهدافاً لجهة تشجيع الاستثمار وحفز النمو، وكانت مرتاحة إلى القناعة بأن القطاع الخاص هو المعني بهذا الأمر، وأن ليس لمسؤوليها أن يجزعوا لأي أمر، وخصوصاً أن الخطاب الشيحوي كان يزيح عن كاهلهم أية مسؤولية على هذا الصعيد. وقد بات بإمكان هؤلاء المسؤولين مع الوقت أن يفاخروا بفائض ميزان المدفوعات الدائم.

الزراعات التصديرية وتخلّي الدولة

وفي عام 1959، كانت حصة القطاع الزراعي من القوى العاملة في لبنان لا تزال تساوي 50 في المئة منها. وتراجعت هذه الحصة إلى 20 في المئة منها في عام 1970. أي إنها انخفضت بنسبة 30 في المئة خلال عقد واحد. أما حصة هذا القطاع في الناتج، فكانت تساوي 20 في المئة منه في عام 1948 و12 في المئة منه في عام 1964، وأصبحت تساوي 9 في المئة منه في عام 1974. ولم تتجاوز حصة القطاع الزراعي الـ3.4 في المئة من مجموع القروض المصرفية لعام 1973. وقد عكس تراجع حصة هذا القطاع في القوى العاملة وفي الدخل الوطني، المآل المؤسف للزراعة والريف اللبنانيين خلال حقبة الاستقلال.
أي إن الثقة المطلقة بآليات السوق لتحقيق التنمية التي عبرت عنها التجربة اللبنانية المعاصرة، انسحبت على دور السوق في القطاع الزراعي. وباسم الاقتصاد الحر، ترك المزارعون اللبنانيون سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد، ينتزعون شوكهم بأيديهم. وفيما كان المثقفون لا ينفكون يتغنون بالنموذج، ولا يرون له غير إيجابيات، ويمتدحون قوة العملة وفائض ميزان المدفوعات، كانت الأرياف تفرغ من سكانها، ويهاجر أهلها إلى غير رجعة.
بقي لبنان بمنأى عن النقاش حول التنمية. بل وقفت نخبه عند ميشال شيحا الذي استمد إلهامه من الأكثر تطرفاً بين الاقتصاديين الليبراليين
وفي عرض ألبر داغر للأدبيات عن التجربة اللبنانية، الذي تناول إسهامات غالبية من صدرت لهم نصوص عن التجربة حتى عام 1975، لا يتميز سوى اثنين بنقد لدور الدولة فيها، هما روجيه أوين (Owen) وسليم نصر (Nasr)، ويجاريهما في ذلك يوسف صايغ (Sayigh). ويتشارك الثلاثة في نقد وقوف الدولة موقف المتفرج أمام التحولات الكبرى التي كانت تشهدها البلاد. ويطغى في ما بقي من الإسهامات، عدم القدرة على اتخاذ موقف من التجربة، والتأرجح المستمر في النص ذاته بين مواقف إيجابية منها وأخرى مناقضة لها. أي إن الأدبيات الاقتصادية التي صدرت لم تغنِ النقاش العام حول التجربة، وبقي ميشال شيحا طاغياً في التقريظ الذي قدمه للنظام الاقتصادي الذي زاد رسوخاً بعد الاستقلال.
وتبدو كتابات شيحا كما لو أنها تنطلق من مسلّمة، هي عدم وجود مزارعين وعدم وجود عالم ريفي ينبغي أخذه في الاعتبار. وبالنسبة له، فلبنان هو بيروت وبضعة شوارع وأحياء منها يقطنها مصرفيون وتجار. وتنم مقاربته للأمور عن أنه كان غريباً غربة تامة عن لبنان التاريخي الذي نما كاقتصاد زراعي على مدى مئات السنين. ويعكس شيحا منبته من خلال تركيزه على النجاح كنجاح فردي. وليس في هذا ما يمثّل إدانة له، بل الإدانة هي للذين اعتقدوا أن شخصاً بمواصفاته مخوّل أن يعيّن الخيارات الوطنية، وأن لديه كعضو في الجماعة الوطنية ما يسمح له بتبوُّء الموقع الذي ما زال يحتله.
وقد ورث معارف شيحا والمحيطون به تجاهل أهل الريف هؤلاء بل استغراب وجودهم ذاته. وكنا أطفالاً تسللنا إلى واحدة من مجموعة حافلات أقلّت أهل منطقتنا أواخر الستينيات للقاء الرئيس شارل حلو بصفته رئيساً، ليطرحوا عليه ظلامتهم وأوضاعهم الصعبة كمزارعين ومنتجي تفاح، تتحالف الطبيعة مع التجار ليفقداهم أي أمل بتحسن أوضاعهم ويفقداهم الرغبة بالاستمرار كمنتجين. رفض الرجل مقابلتهم. وعادوا أدراجهم مطأطئي الرؤوس مهانين. وفيما استمر هو غاشياً طوال سنوات حكمه، امتلأت الطرق التي شقّت بأموال القوانين ــــ البرامج الشهابية، بهؤلاء وعائلاتهم، وأتاحت انتقالهم جماعات وأفراداً من الريف إلى المدينة، وقسم منهم إلى المهجر.
وفي عام 1975، كان 40 في المئة من مجموع سكان الريف اللبناني قد تركوا أرضهم. وبلغت هذه النسبة 65 في المئة من السكان في الجنوب، لأن الدولة عجزت عن زيادة المساحات المروية من سد الليطاني وتعمّدت عدم زيادة المساحات المرخصة لإنتاج التبغ، كما بلغت النسبة ذاتها 50 في المئة في البقاع. وقد طاولت الهجرة النهائية من لبنان ثلث النازحين من الريف. وقد جعلت المقاربة الحكومية للعلاقة مع الأرياف الأرض التي حضنت اللبنانيين على مدى مئات السنين غير مهيّأة لاستبقائهم فيها. وأغفل كل ذلك المديح الذي حظي به النموذج اللبناني حجم المأساة التي كانت تحصل على هذا الصعيد. وإذا كانت القرى قد تحوّلت إلى أماكن مقفرة، فهل نجح الذين تركوها ليعملوا «في الخارج وللخارج»، وفق ما اقترح شيحا؟ وأين نبحث عنهم؟ وكيف نجدهم تحت أسمائهم الجديدة؟
لم يكن أي شيء مما حصل محتماً. وكانت صورة لبنان ستبدو مختلفة عما هي اليوم لو توافرت له دولة تدخلية تستثمر بكثافة في البنى التحتية لتوسيع قدرة استيعاب المناطق، وتدعم بقوة وثبات نشوء نشاطات صناعية فيها. وكان المجتمع قادراً من جهته على أن يوفر رأسمالاً بشرياً من أفضل المستويات لتحقيق «التصنيع المتأخر».
وتظهر المقارنة من جهة أخرى، أن تدخل الدولة في الزراعة، وخصوصاً في المراحل الأولى من تجارب البلدان العربية الأخرى، وبلدان العالم الثالث بوجه عام، والتي يمكن تصنيفها تحت عنوان استراتيجية «استبدال الواردات» (import substitution)، من خلال إنشاء البنى التحتية التي تتيح نمو الزراعة، وفرض أسعار إدارية مخفضة للإنتاج الزراعي، واعتماد الزراعات الإجبارية في بعض التجارب، مثّل نوعاً من دعم للاستهلاك بواسطة الأسعار الإدارية، وكان من شأنه حفز نمو ديموغرافي قوي في البلدان التي اعتمدته. وهذا ما جعل من الدولة الوطنية واقعاً قائماً وأعطاها عمقاً بشرياً جعل ممكناً تحويل الكيانات الناشئة إلى كيانات قابلة للحياة.

الدولة الليبرالية بأي ثمن

يقول أوين إن النخب التجارية والمصرفية عارضت مجتمعة أية سياسات حكومية كان يمكن أن تترتب عليها زيادة في الضرائب، أو تؤدي إلى نشوء مجموعات ضغط صناعية تمثّل تهديداً للتوجه الاقتصادي المعتمد (34). وتعود بدايات الصناعة اللبنانية إلى عقد الثلاثينيات الذي شهد تدهور التبادل الدولي. ووفرت ظروف الحرب العالمية الثانية شروط توسّع القطاع الصناعي المحلي بسبب توقف الاستيراد. لكن نمو هذا القطاع بقي ضعيفاً. وفي أواخر الستينيات صدرت تشريعات دعمت إنتاج السلع النسيجية وتصديرها. والأرجح أنها استجابت لمنطق إرضاء الصناعيين الذي تركوا سوريا والبلدان العربية الأخرى بعد التأميمات. وقد نما عدد من الصناعات التقليدية القائمة بفضل الحماية الجمركية التي وفرت لها. وكان معدل الحماية الفعلية في ثلاثة قطاعات هي النسيج والمفروشات والصناعات الغذائية يساوي ضعف الحماية الاسمية، ويبلغ نحو 90 في المئة في قطاع المفروشات (35) في عام 1970. وعززت الحماية موقع هذه القطاعات وجعلتها قادرة على التصدير. وشهد القطاع الصناعي فورة نمو خلال النصف الأول من السبعينيات تمثلت بإضافة صناعات تجميعية جديدة لتلبية حاجات أسواق الخليج القريبة. واستفاد الصناعيون من إجراءات حكومية لم يكونوا هم المقصودين بها، حين اهتمت الدولة بصون قيمة الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف، من خلال منع تحسّن سعر صرف الليرة، وعبر توفير عرض كثيف لليرة اللبنانية.
وبعد تأليف حكومة الرئيس صائب سلام الأولى في أول عهد الرئيس فرنجية، أصدرت الحكومة المرسوم 1943 الشهير الذي قضى برفع الرسوم الجمركية على الواردات، كإجراء حمائي ولتعزيز موارد الدولة. وقد بدت السياسة الحمائية تلك منقطعة عن الجو العام السائد ومفاجئة. وتعارضت مع النفوذ الكبير للنخب التجارية والمصرفية آنذاك. وبرزت جمعية تجار بيروت كنقابة مهنية شديدة النفوذ. وأجبر التجار الحكومة على إلغاء المرسوم المذكور بعد إضراب شامل دام عشرة أيام. وقال أمير الكويت الذي كان يصطاف في لبنان للمعنيين، لماذا تريدون تغيير الأمور وهي بألف خير (36). كانت الأمور تبدو جيدة مع عودة الرساميل التي كانت قد تركت عقب الأزمة المصرفية لعام 1966. ولم يؤد التخلي عن المقاربة الحمائية التي مثلها المرسوم 1943 إلى أية ردات فعل من القوى المعارضة آنذاك، ولم يكن ثمة رأي عام رأى فيها مشروعاً اقتصادياً وتنموياً يستحق النضال من أجله.
ولم تعد النخب السياسية الممثلة بأعضاء البرلمان إلى مناقشة السياسة الضريبية بعد تلك التجربة وعلى مدى السنوات التي سبقت الحرب الأهلية. وطغى في اهتمامات المسؤولين هاجس مواجهة غلاء المعيشة المترتب على الفورة الاقتصادية القائمة، إن بإجراءات ضبط للأسعار لم تكن تنفذ أو تثمر أية نتيجة، أو من خلال تحمّل الدولة أعباء تثبيت أسعار بعض السلع. وفي مطلق الأحوال، بقيت الدولة اللبنانية دولة ليبرالية، بمعنى الالتزام بتوازن الموازنة العامة حتى عام 1975. وشهدت على ذلك الموازنات السنوية للحقبة التي أظهرت ثلاث منها من أصل خمس فائضاً في الموازنة. وسيعود موضوع السياسة الضريبية، بمعنى الخيار بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة، كأحد عناصر السجال بين ممثلي الكتائب والجنبلاطيين في حكومة الرئيس رشيد الصلح مقدمة لانفراطها.
* أستاذ جامعيّ