strong>ناهض حتر* يمكننا تلخيص ملتقى المقاومين في الأونسكو ببيروت، بأنه، من حيث الجوهر، تظاهرة كبرى للقوى الإسلامية حفلتْ بخطاب انتصاريّ، بدا كأنه رد عصابي على الأفول. لم يبق في الميدان سوى الإسلاميين. ومن دون التقليل من أهمية قيادتهم للمقاومات الجزئية في لبنان وفلسطين والعراق، فإن الدلالة الأهم لهيمنة القوى الدينية وخطابها على بقايا حركة التحرر العربي المهزومة، هو انتكاسة مشروع الحرية والوحدة والنهضة والتقدم الاجتماعي في بلادنا.
حققت المقاومات العربية، بقياداتها الإسلامية، إنجازات في مواجهات عسكرية وأمنية مع المحتلين. لكنها فشلت، وهذا حتمي بسبب تركيبتها وأيديولوجيتها، في إحداث تغيير في الاتجاه العام لانحدار العالم العربي نحو المستنقع. الدول العربية الرئيسية تتفسّخ، بوصفها دولاً، تحت سيطرة أنظمة موالية للاستعمار، كمبرادورية واستبدادية وفاشلة أو شبه فاشلة حتى في إدارة التخلّف (والمثال المصري شاهد موجع). وبالنسبة للبلدان المعنية مباشرة بالمقاومة، نرى لبنان الطائفي يترسخ ويتجه نحو الالتحام بـ«كينونة سياحية» تؤبّد التأخر التنموي واللاعدالة والضعف البنيوي، ونرى العراق لا يزال عاجزاً عن الخروج من دوّامة المحاصصة المذهبية والخراب، متجهاً إلى خسارة إنجازاته المجتمعية التاريخية ليتحوّل إلى بئر نفط ومجتمع نفطي، أما فلسطين، فهي تضيع، وطناً وقضية: نجحت حماس في الحفاظ على حكومتها في غزة بثمن باهظ جداً. وإذا كان ذلك بحد ذاته هدفاً، فمرحى للانتصار. ولكن حماس الآن في وضع مشلول: لا تستطيع ممارسة المقاومة المسلحة، ولا تستطيع التأثير، سياسياً، على مجرى الأحداث في المسار الفلسطيني.
ليس الإسلاميون مسؤولين عن الانحطاط العربي بالطبع، ولكنهم ليسوا الذين يمكنهم النهوض بالعرب أيضاً. وإذا كنا نسجّل لهم مواجهاتهم مع المحتلين، فلا بد لنا أن نضع تلك المواجهات في سياقها التاريخي الملموس: إنها نقاط دفاع جزئي في جبهة مهزومة، ما يجعل الخطاب الانتصاري، على وجاهته الميدانية هنا أو هناك، مضلِّلاً وديموغوجياً.
نحن لا ننكر البطولات والتضحيات، ولكننا نتساءل عما إذا كان هناك مشروع للمقاومات الإسلامية، سواء على المستويات المحلية أو على المستوى العربي العام. ولعل الإجابة عن هذا السؤال هي التي تبيّن أصالة الدور السياسي للمقاومات. فإذا كانت صاحبة مشروع، فإن تلقيها المساعدة والدعم من قوى إقليمية لا يضيرها، لكن إذا لم تكن تملك مشروعاً، فإنها ربما تنزلق إلى موقع التبعية والأداة.
المقاومة، بحد ذاتها، ليست مشروعاً. إنها ضرورة تحرير هي، بطبيعتها، مؤقتة. لكن، في عصر الإمبريالية المعولمة، لم ينجح تحرير بلا تحرّر، أي بلا مشروع اجتماعي سياسي تقدمي، يؤمّن سبل القفزة الحداثية والتنموية، والدخول في العصر وحلبة المنافسة الدولية. ليس لدى الحركات الإسلامية، بكل تلاوينها، مشروعاً كذاك. إنها، إذ تنفصل جزئياً، وهنا أو هناك، عن النظام العربي في نهجه السياسي فإنها تمثّل في الوقت نفسه الجناح الأيديولوجي لذلك النظام. إنها ملتحقة، في واقعها المحلي والعربي، بالمشروع الكمبرادوري. وهذه المساحة المشتركة المتداخلة بين النظام العربي والإسلاميين تظل قائمة وشغّالة على رغم الخلافات السياسية وانشقاقات المحاور الإقليمية.
منذ توحّد الغرب حول القطب الأميركي، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، لم تعد الأنظمة التابعة تحتاج فعلياً إلى الأيديولوجية الدينية. فالنيوليبرالية المعولمة منحت وكلاء المصالح الأجنبية، السياسية والاقتصادية، الكمبرادوريين، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، فرصة الحصول على أدوات أيديولوجية هجومية صريحة، وعلى شرعية ثقافية ناجمة عن هيمنة ما يسميه سمير أمين، الفيروس الليبرالي، على المستوى المجتمعي والجماهيري. ومع ذلك، فإن التداخل الأيديولوجي ظل، حتى بعد 11 أيلول 2001 و«الحرب الأميركية على الإرهاب»، قائماً بين الكمبرادورية والأصولية في وسائل الهيمنة السلطوية على المجتمعات العربية، بما فيها تلك الملبرلة ثقافياً. ففي الأردن، لا تزال السلطات تعتمد على الدين كمكوّن أيديولوجي رئيسي في الشرعية والتربية والتعليم والأحوال الشخصية والإعلام وإدارة المجتمعات المحلية الخ! وفي مصر، تتعزز الهيمنة الدينية على الفضاء العام مقترنة بتعزز سيطرة الكمبرادور والتحالف مع إسرائيل وفشل قوى التغيير. ويمكننا أن نعتبر الصفقة التي عقدها «الإخوان» المصريون مع النظام على أساس تساكن يلتزمون، لنيل مكاسبه، بخط «الدعوة»، بدلاً من الكفاح الوطني الديموقراطي، مثالاً على اتجاه عربي عام.
لكن المثال السعودي يظل الأفدح. فبالريع النفطي ونُظْمة الملكية القبلية، تساكنت التناقضات بين هيمنة الأيديولوجية السنية المتطرفة المتمثلة بالوهابية، وربيبتها السلفية الجهادية، من جهة، والقبائلية والجهوية من جهة ثانية، والكمبرادورية المنفلتة والتبعية الاستراتيجية والأمنية لواشنطن من جهة ثالثة.
ولا يحتاج الأمر إلى الكثير من الانتباه لملاحظة أن التداخل بين السلفية الجهادية والأنظمة الخليجية لم ينقطع، ولكنه أصبح غامضاً ويدور في كواليس أمنية وسياسية ومشتركات أيديولوجية وإعلامية، على نحو ما نرى من آثار الحبل السُرّي المشدود بين «القاعدة» والسعودية، في مقابل الحلف نصف العلني بين قطر والإخوان المسلمين الذين يسيطرون، من بين أمور أخرى، على أجندة أهمّ قناة فضائية عربية، «الجزيرة».
ترجع صحوة الإسلام السياسي، بكل تنويعاته السنية وتفرعاته المحلية، إلى اللقاء على جثة الرئيس جمال عبد الناصر بين الحركة الإخوانية المصرية والوهابية السعودية. ومن هذا اللقاء ازدهر التياران الإخوانيان المتعارضان المتداخلان: براغماتية حسن البنا وإرهابية سيد قطب. عبّر سيد قطب عن رؤية فلاحية بدائية للزمان والعالم، رؤية ملاّك صغير متأخر ومحافظ ومذعور. وهي رؤية ظلت نائمة حتى تحققت في سياق رؤية بدوية بدائية أنتجتها تناقضات النظام الوهابي المتأمرك. سيد قطب تحقق كاملاً في أسامة بن لادن. لكن الأخير، بفضل التحالف السعودي ــــ الأميركي في الحرب على الشيوعية، نقل الشحنة القُطْبيّة إلى السياسة الدولية. والمحرك الأساسي لذلك الانتقال يظل، في الأخير، هو التحشيد الداخلي لإعادة بناء الأمة وفق مثال مشكلته الرئيسية أنه مستحيل. فهناك استحالة لإعادة بناء الأمم القديمة خارج شرطين، هما أولاً اتباع الحداثة، وثانياً وبالنسبة للبلدان المتخلّفة، تجاوز الليبرالية الكمبرادورية نحو التنمية الوطنية. والأخيرة مشروطة بالتحرر الوطني والسيطرة القومية على المجال الاقتصادي. وهي، في النهاية، عملية تاريخية معقدة من الصراعات الاجتماعية والسياسية والثقافية، المخاضة من الأغلبيات الشعبية بقيادة نخب عصرية تقدمية، ولا تحسمها مجموعات مقاتلة في تورا بورا ولا يؤثر فيها نشاط الانتحاريين الدولي.
يمكننا القول اليوم إن «ممكنات» الصحوة الإسلامية قد تبددت. فالإسلام الجهادي تحوّل ثقله إلى مجموعات مقاتلة معزولة لا تحظى بالتأييد المجتمعي أو الجماهيري من المسلمين، بل تحتضنها عصبيات محلية في معارك تتمفصل على صراعات محلية (لاحظ الحالة اليمنية) وينشط الإسلام الجهادي كخلايا في سياقات أمنية غامضة الارتباطات، ولم يعد يعبّر، برغم نجاحات محدودة هنا وهناك، عن تيار عام كما كانت الحال في مطلع الألفية.
أما الإسلام السياسي التقليدي، المتعصّب والبراغماتي في آن، فقد خسر قضيته وشخصيته تحت وطأة الاستحقاقات الواقعية للتعايش الإصلاحي مع الأنظمة الكمبرادورية المستبدة الفاشلة، كما هي الحال في مصر والأردن والكويت والمغرب، بل مع الاحتلال والفساد والخراب والقتل على الهوية، كما هي الحال في العراق. لكن التحوّل المثير للانتباه هو ذاك الذي لحق بالإسلام الثقافي. فالحجاب، علامة الصحوة الإسلامية للثمانينيات، طُوّع في الوطن، وعلى نطاق واسع، في موضة منسجمة كلياً مع طرائق اللباس والسلوكيات والحياة الغربية، بينما أصبح، في المغتربات الغربية، راية جهادية للأقليات المسلمة. وهكذا، فإننا نشهد اتجاهاً لانتقال الإسلام السياسي كله، الدعوي والجهادي، في حساسيته الكبرى الفاعلة، إلى الغرب ليلعب وظيفة سياسية أقلوية، بينما ينخفض حضوره الفعلي في البلدان العربية نفسها، حيث تموضع التدين وأداء الفرائض والاستعراض الديني بعامة، جنباً إلى جنب مع ممارسة كل أنماط العبودية السياسية والتعصبات الجهوية والعشائرية والممارسات اللاأخلاقية للبزنس والأنظمة النيوليبرالية.

ليس الإسلاميون مسؤولين عن الانحطاط العربي بالطبع، ولكنهم ليسوا الذين يمكنهم النهوض بالعرب أيضاً
غير أن الإسلام السياسي الشيعي، إلى ذلك كله، وقع في ما هو أسوأ. لقد فقد صدقيته، جوهرياً، بسبب ذلك التساكن السياسي بين نهج مقاوم وحدوي في لبنان ونهج متأمرك تقسيمي في العراق. وهو تساكن لا يمكن تبريره إلا بالارتباط بالمشروع القومي الإيراني الذي يقتضي، من جهة، مواجهة دفاعية مع إسرائيل مكانها لبنان، وتترتب عليها سياسات ومواقف ممانعة ومقاومة، ومن جهة أخرى، يقتضي إضعاف العراق وتقسيمه ونهبه واغتصاب أراضيه وإلحاقه، مما يرتّب سياسات ومواقف أخرى مضادة.
من الواجب على حزب الله أن يتقدم بالشكر الجزيل لطهران على دعمها له ولمقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلي. ولكن، أهو تحالف يسمح بالاختلاف، ورفض ممارسات الحليف الاحتلالية في بلد شقيق، أم هي تبعية لا تسمح إلا بالتأييد، أو، في أحسن الأحوال، بالصمت؟ وهل كان السيد حسن نصر الله، مضطراً لمنح رجل الاحتلال والتقسيم والفساد في العراق، عمار الحكيم، مقابلة متلفزة لأغراض انتخابية؟ وكيف يمكن لمَن ترنّ في مسمعيه كلمات نصر الله الجهادية اللاهبة في الأونسكو، أن يبصر مشهد ذلك اللقاء الأخوي؟
لا يستطيع المرء سوى أن يزدري النظام اليمني الذي قاد البلد إلى التفكك والانهيار. لكن ماذا يمثّل الحوثيون بحق السماء، لكي يتابع تلفزيون المقاومة اللبنانية انتصاراتهم بفخر؟ هل الحوثيون تيار مقاوم؟ أهم دعاة وحدة ونهضة؟ ليسوا سوى تجمع قبلي متخلّف، لكنه يستحق التأييد، بالطبع، بسبب التعاطف المذهبي، والأهم بسبب العلاقة مع إيران!
* كاتب أردني