Strong>ناهض حتر *حالما أعلن الملك عبد الله الثاني قرار حل البرلمان الخامس عشر والدعوة إلى انتخابات مبكرة، بدا أن الاحتقان السياسي يتراجع، وسط تبادل التهاني وإطلاق النار ابتهاجاً. رأى الشعب الأردني القرار نصراً لإرادتهم على التزوير الكثيف وشراء الذمم اللذين وصما انتخابات 2007.
شهدت تلك الانتخابات تدخلات أمنية واسعة لإنجاح مرشحين على القياس، بينما سُمح بشراء الأصوات ونقلها بين الدوائر على نطاق غير مسبوق، ما أدى إلى غزو رجال الأعمال الندوة البرلمانية. وبالمحصلة، تشكل برلمان ضعيف الأداء، بلا سياسيين سوى عدد محدود من المخضرمين الذين سعوا إلى بناء كتل لإنقاذ الموقف من دون جدوى. وأمضى البرلمانيون الهواة الكثير من الوقت في الاشتباك مع هجمات الصحافة التي عكست عدم اعتراف المجتمع بشرعية مجلس مكتظ بأصحاب الملفات المالية لدى المحاكم، بل بالاتجار بالممنوعات.
حل البرلمان المزوّر بدا وكأنه اعتراف، ولو متأخراً، بالخطأ. وهو خطأ دفع المجتمع والنظام معاً ثمنه، حين اكتشف الجميع أن غياب التمثيل السياسي والاجتماعي عن البرلمان ألغى دوره كوسيط، سواء في ترتيب التسويات الداخلية في ما يتصل بالتشريعات، أو في بلورة الحياة السياسية وأجندتها، أو في استيعاب الاصطدامات والتمردات العنفية التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الأخيرة.
يلعب البرلمان دوراً حيوياً في النظام السياسي الأردني، لا من حيث حجم مساهمته في اتخاذ القرار، ولكن بالأساس من حيث القدرة على القيام بدور الوساطة السياسية مع المجتمع وقواه. وهو ما يتطلب حشداً من القيادات البرلمانية الموزونة القادرة على حفظ الصلات والتوصل إلى تفاهمات في صيغة نصف ديموقراطية معقدة. ومنذ انتخابات 1993، وبسبب النظام الانتخابي القائم على الصوت الواحد المجزوء المصنّع خصيصاً للحالة الأردنية (صوت واحد لمرشح واحد في دوائر محلية صغيرة متعددة المقاعد)، أخذ عدد الوجهاء المحليين يتزايد في البرلمان على حساب السياسيين والمثقفين. وأسوأ النتائج الاجتماعية ــــ السياسية لذلك القانون أنه حطم الاندراج العشائري في الدولة المدنية، وحوّل العشيرة إلى كيان سياسي / كتلة تصويتية استعادت مزاج ما قبل الدولة وتحالفاته وخصوماته. وبلغت أزمة هذا النظام الانتخابي ذروتها في انتخابات 2007، حيث انضم رجال الأعمال المغمورون من محدثي النعمة إلى المنافسة الانتخابية عن طريق الاستخدام الكثيف للأموال، وخصوصاً في نظام لا يحتاج فيه المرشح للكثير من الأصوات للنجاح، ما يجعل التفكير بشرائها ممكناً على المستوى الفردي. أما على المستوى العشائري، فإن إعادة تركيب العشائر في عصبيات سياسية أدت إلى حالة من الفوضى والانفلات الأمني والتطاول على القانون في المحافظات.
لذلك، لم تكن الإرادة الملكية بحل البرلمان بحاجة إلى مسوّغ كما يقتضي الدستور، فالمسوّغ واضح ومتفق عليه بين الأطراف. وقد جاءت الدعوة لانتخابات مبكرة على أساس قانون انتخاب عام جديد (لم تتضح بعد معالمه، لكن من المرجح أن يكون وفق القائمة النسبية في دائرة على مستوى المحافظة) لتقر بإفلاس نظام الصوت الواحد المجزوء.
تشكّل برلمان 2007 في سياق صراعي انتهى إلى المحاصصة بين ثلاثة مراكز قوى داخل النظام: مدير الاستخبارات محمد الذهبي، ورئيس الديوان الملكي باسم عوض الله، ورئيس مجلس النواب عبد الهادي المجالي. وقد أُطيح المركزان الأول والثاني، وجاء الآن دور المركز الثالث. فالمجالي القوي المتربع على قيادة برلمان ضعيف، تحصّل على حجم سياسي تخطى الممكن، وصار لا بد من إزاحته. هل يكون حل البرلمان من أجل إقصاء رئيسه؟ أم أن غياب مرجعيتَي المجلس في الاستخبارات والديوان وضعتاه في قبضة بضعة نواب مخضرمين قادرين على توجيهه حيثما يريدون؟ ففي الدورة البرلمانية السابقة، تمكن النائب المخضرم عبد الكريم الدغمي، وحده، من حشد أصوات نيابية كافية لرد مشروع قانون الضريبة على الدخل. هل يكون حل البرلمان رداً على الرد؟
المشكّكون في الخطوة يعتقدون أن الهدف من حل البرلمان هو إتاحة الفرصة للحكومة لإصدار تشريعات غير شعبية بقوانين مؤقتة، وعلى رأسها مشروع قانون ضريبة الدخل النيوليبرالي (الذي، خلافاً للدستور، يتجاوز قاعدة التصاعدية ويحابي البنوك والشركات والأغنياء على حساب الطبقة الوسطى). وإقراره ضروري لأجل موازنة 2010 التي تتضمن أعلى عجز في تاريخ الموازنات الأردنية. ومن الواضح أن الحكومة تفضل عدم مناقشة تلك الموازنة مع أي كان، بمن في ذلك برلمانيّوها الخلّص.
يعاني الأردن ركوداً اقتصادياً هيكلياً. فالحكومة، العاجزة عن تسديد التزاماتها نحو المتعهدين، تواصل الاقتراض من السوق الداخلي، وتسحب بالتالي السيولة من الجهاز المصرفي، وتدفع بالبنوك، التي تنعم بمدين شره ومضمون (الحكومة)، إلى التشدد في منح القروض الفردية والاستثمارية. معظم المشاريع الاستثمارية التي بدأ تنفيذها في فترة الازدهار قبل 2008، توقفت أو تكاد. وتعاني صعوبات جدية سواء في الحصول على تمويل أم في تسويق منتجاتها. وهي في الغالب منتجات عقارية وخدمية موجهة لفئات كانت قادرة على الاقتراض، ولم تعد كذلك. وبينما تتراجع الحوالات الواردة من المغتربين وتنخفض المساعدات الأجنبية وتتقلص الصادرات، تفتقر المشاريع الصغيرة والمتوسطة إلى التمويل، وتتضخّم المديونية العامة على نحو غير مسبوق.
هل يكون الهدف من حل البرلمان إتاحة الفرصة للحكومة لإصدار تشريعات غير شعبية بقوانين مؤقتة؟
لقد خسرت النيوليبرالية الأردنية جميع رهاناتها، لكنها مصممة على المضي قدماً في النهج الاقتصادي نفسه. وهي تضغط على البنك المركزي للتحلل من القيود الصارمة التي يفرضها على الإقراض، وذلك لإنقاذ «مستثمرين» كان قد جرى تشجيعهم بامتيازات وتسهيلات هائلة، تحت شعار تجاوز بيروقراطية القانون والقطاع العام. والآن، حالما تعثروا، فإنهم يلجأون إلى القطاع العام المكروه نفسه للتدخل السياسي في السوق، وضمان منحهم المزيد من القروض والإعفاءات الضريبية في آن. لكن هذه الضغوط الاقتصادية ربما تفسّر توقيت حل البرلمان، لا حله. ولا شك بأن غياب الهيئة التشريعية سيمنح الإدارة الاقتصادية القدرة على التصرف بملفاتها الصعبة من دون حسيب ولا رقيب. لكن الدعوة إلى انتخابات وفق قانون جديد لا يمكن تفسيره إلا سياسياً.
يرى المتفائلون أن الفشل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للتجربة النيوليبرالية، يطرح حتماً الإصلاح السياسي كضرورة لتجديد النظام نفسه. وعلى خلفية الجمود الحاصل في ما يسمى العملية السلمية، فإن الإصلاحيين يؤكدون أن الخطوة الملكية تأتي في سياق داخلي بهدف إعادة ترتيب البيت، وإطلاق زخم سياسي في البلاد يستوعب حالة الاختناق القائمة. وهؤلاء يرفضون بالتالي التحليل الذي يرى اقتراب استحقاق التزامات مشروع الوطن البديل، ومدخله نظام انتخابي يسمح بتمثيل فلسطينيي الأردن على أساس المحاصصة. وزير معني بالملف أكد لي، في حوار خاص، أن المحاصصة غير مطروحة، لكن من الممكن زيادة مقاعد الأردنيين من أصل فلسطيني إلى ثلاثين مقعداً بدلاً من عشرين.
الاحتمالات مفتوحة. لكن ما هو متفق عليه حتى الآن أن الانتخابات المقبلة ستعقد ليس فقط على أساس قانون جديد، بل أيضاً وفق إجراءات جديدة، ربما تضمن قدراً معقولاً من النزاهة والشفافية. بل من المنتظر أن تقبل السلطات برقابة منظمات أردنية وعربية ودولية. وعلى هذه الخلفية، فإنه من المتوقع حدوث صحوة سياسية في البلاد تجتذب المثقفين والنشطاء إلى المعركة الانتخابية.
النسبية هي عنوان إصلاح الانتخابات والبرلمان. والنظام النسبي يتيح للأحزاب الراديكالية والقوى والشخصيات العامة بناء ائتلافات وخوض المعركة الانتخابية على أساس سياسي، بينما ستعود العشائر إلى الاندراج في الحياة المدنية، وسيصعب على الوجهاء المحليين تشكيل قوائم قادرة على المنافسة، بالإضافة إلى إضعاف دور المال. لذلك ليس مؤكداً بعد أن نادي الحكم سيوافق على اعتماد النسبية بصورة كاملة، بل ربما مال إلى نظام مختلط. ذلك أنه، على افتراض درجة معقولة من النزاهة، فإن النسبية ستحدث تغييراً عميقاً في تركيب النخبة السياسية الأردنية. وهو تغيير سيطلق حتماً صيرورة ساخنة نحو الدمقرطة أو المواجهة.
رفضت الأوساط البيرقراطية والأمنية، وترفض، النظام النسبي، بحجة أنه سوف يمنح الأردنيين من أصل فلسطيني قدرة تصويتية ترجيحية على مستوى المملكة (إذا كانت دائرة انتخابية واحدة) أو على مستوى محافظتين رئيسيتين على الأقل، هما عمان والزرقاء (إذا اعتُمدت المحافظة دائرة انتخابية). ولكن، وبالنظر إلى أن نسبة المشاركين في الاقتراع ذوي الأصول الفلسطينية لم تزد سابقاً عن الثلاثين في المئة (مقابل نسبة لدى الشرق أردنيين تصل إلى 89 في المئة)، فإن تلك الحجة لا مسوّغ لها.
ينبغي الاعتراف هنا، بأن الأردنيين من أصل فلسطيني يستنكفون عادة عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية، إلا في الحالات الآتية: الاقتراع لمرشح إسلامي، والاقتراع لقريب، والاقتراع لوجيه محلي. أعني أن الأردن لم يشهد كتلة أصوات فلسطينية ــــ أردنية مسيّسة إلا في الانتخابات النقابية. وهكذا، فإن انتخابات برلمانية على أساس النسبية سوف تحشد الأصوات الفلسطينية ــــ الأردنية لمصلحة الإسلاميين. وهو ما سيجدد قوتهم الآفلة، ويعيد دورهم وسيطاً مع الجمهور الفلسطيني من جهة، ومع حماس من جهة أخرى. وأظنها أفضل صيغة سياسية في الوضع الأردني الراهن.
غير أن الإسلاميين لن يحصلوا، في انتخابات تجري وفق القائمة النسبية على مستوى المحافظة، على أكثر من 20 ــــ 25 في المئة من المقاعد النيابية، بينما يمكن ائتلافاً قومياً ــــ يسارياً أن يحصد نسبة المقاعد نفسها. والفريقان لن يتمكنا، مجتمعين، من تحقيق أغلبية برلمانية، ولكنهما سيحوّلان البرلمان إلى مركز سياسي جدي وفاعل. فهل يتحمل النظام الأردني صيغة كهذه؟ وهل يمكن أن تتعايش النيوليبرالية والأمركة وعضوية نادي الاعتدال العربي مع معارضة برلمانية لها حجم تمثيلي يوازي قوتها في الشارع؟
لعل المشكلة الأردنية الراهنة تكمن في: 1) التناقض غير القابل للحل الذي تعيشه السياسة الأردنية بين الضرورة الوطنية للاندراج في خط ممانع وبين الضرورتين الأمنية والاقتصادية اللتين تقودانها إلى نهج يهدد الكيان الأردني، 2) استحالة التوفيق بين النيوليبرالية والديموقراطية، إذ إن نشاط النيوليبرالية الاقتصادي يقوم في جوهره على تقديم خدمات كمبرادورية للرساميل الأجنبية. فبسبب غياب البنى التحتية الإنتاجية وضيق السوق المحلي وضحالة الرساميل المشغّلة، لا تتوافر لدى الكمبرادور المحلي، من أجل الشراكة مع المستثمرين، سوى موجودات الدولة العقارية وتسهيلاتها القانونية والإجرائية وقدرتها السيادية على منح الامتيازات. وعلى المرء أن يكون ساذجاً لكي يعتقد أن الطبقة الجديدة ستتنازل عن نفوذها الهائل الحر لتخضع للقيود البرلمانية.
ومع ذلك كله، رأى الأردنيون سراباً جديداً يلوح في الأفق. وها هم يركضون نحوه...
* كاتب أردني