حسان الزينليس جديداً أن تقف «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة» صامتة إزاء قضية أو شعب أو بلد... عربي. هذا تراث مفتوح على الوقوف على الأطلال والخيانات وتعميق شخصية العجز وثقافة التطنيش والبحث عن مخارج ذاتية في الجحيم الجماعية.
اليوم، تقف «الأمة» صامتة إزاء ما يحدث مع دبي، وكأن هناك ليس بلداً، ولا ناس في تلك البقعة التي كان برّها، على مدى عقدين، عنوان أحلام آلاف الشباب العرب. ليس عابراً، ولا تقليداً فحسب هذا الصمت العربي المجبول بالحسد المتأصّل، الذي يبحث دائماً عن فريسة.
وعلى الرغم من ذلك، دبي ليست بريئة ممّا أصابها. لقد توهّمت أن في إمكانها إيجاد دور لنفسها خلفيته هي الاستقالة غير المعلنة من السياسة والاجتماع وعناوينهما العربية، والاستقلال الاقتصادي القائم على تجريد المكان وفتحه.
توهّمت دبي ذلك وهي تتّحد مع الإمارات الست الأخرى، وفي مقدمها أبو ظبي، في دولة الإمارات العربية (1972)، عشية حرب 1973 بين إسرائيل ومصر وسوريا... وعلى إيقاع انتقال «الثورة الفلسطينية» من الأردن إلى لبنان، واندلاع الحرب هنا وضياع بيروت (1975)... وجددت ذلك في ظل بحث الأنظمة العربية، كل على حدة، عن تثبيت نفسها، تارة بالقوّة وأخرى بجيوش الفساد، ودائماً بتعميق التخلّف، ونشر الأميّة، والسعي إلى اتفاقيات «منفردة» مع إسرائيل تخرجها من الصراع.
وإذا كانت دبي، حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، قد بدأت تجد فرصتها، فإن ثقتها بالنجاح ازدادت بعد الحرب الباردة، وخروج حبّ الأنظمة العربية للسلام إلى العلن... في زمن العولمة. فعلت ذلك من دون أن تفكر في الخروج من الدولة الاتحادية، ولا سيما أنها العاصمة الاقتصادية للإمارات، فيما أبو ظبي العاصمة السياسية.
لا تدفع دبي اليوم، عربياً، ثمن استقالتها من القضايا العربية. فهذا نهج يُشجّع. هي، إذا صحّ أنها تدفع ثمناً، تدفع ثمن كونها قد قدّمت نفسها كشركة تملك إمارة. لم تفعل دبي أكثر من ذلك، وشركة أصغر منها تسعى إلى مصالحها، وإيجاد أسواقها وإغناء قاموسها، متحرّرة من «الواقع» والتزاماته. لعلها في ذلك تشبه قطر، التي تبدو كأنها قناة تلفزيونية تملك دولة.
العرب اليوم ليسوا في مظهر من يخسر شركة. يبدون كمن يرتاح من عبء، بالرغم من أن المئات بل الآلاف من شبابهم وأسرهم في دبي ممن تأثروا سلباً بأزمتها. وتركها أو التخلي عنها ليس كترك بيروت تغرق، فدبي التي لم تكن يوماً جامعاً للعرب أو قبلة لهم، لم تحاكِ بيروت قبل الحرب، فهي لم تدّعِ أنها بنك العرب ولا مستشفاهم ولا مسرحهم ومعرض كتابهم. هي، ببساطة، معبر من مكان ما إلى أمر ما أو العكس. هي بروفة لسقوط ارتفع برجاً ولم يكتمل، وهي شارع سُدَّ قبل أن تمتلئ حصّالته بأجره.
ثمة تشفٍّ عربي بالشقيق التاجر الذي حاول أن يسبقهم ويضع لنفسه أولويات غير أولوياتهم، مستفيداً من «صغر» حجمه ومحدودية الأعباء الداخلية تجاه «مواطنيه»، وغياب استحقاقات الديموقراطية والتنمية (السيادة ما زالت للقبلية العائلية والرعاية).
السؤال الأخلاقي، عربياً، هو هل تستحق دبي هذا الصمت وذاك التنصّل والتنكّر؟ يذكّر هذا السؤال بأن دبي لا يعاقبها «الأشقاء العرب» لاستقالتها سياسياً من القضايا القومية، ولا لسياستها الاقتصادية والمالية ومشاريعها وخططها ومغامراتها. هي تُترك، والترك تخلٍّ وعقاب، لأن الحساسيات العربية القبلية ما زالت تتحكّم في السلوكيّات والشخصيات، ولأن العرب بلا إحساس وبلا أولويات ورؤى سياسية واقتصادية، يمكن من خلالها مساءلة دبي (أو غيرها) وتحديد موقعها وما فعلته في سلّم الأولويات، وتالياً، البحث في «أهمية» الوقوف إلى جانبها وترشيدها أو لا. فالنجاح، حتى الخاطئ وغير المؤسَّس على أرضٍ صلبة، الذي لا يأخذ الإنسان ـــــ المواطن في الحسبان، ليس من أولويات العرب وأهدافهم.
ثمة قُطَبٌ مخفية كثيرة في كنف الصمت العربي تجاه دبي وأزمتها. قُطبٌ مخفية تجعل الصمت مريباً. فدبي في العقل العربي هي البار الذي يلجأ إليه ذكور الأمة للمتعة الجنسية المقرونة بالسهولة، سهولة الحصول على الجميلات، شقراوات وسمراوات، وسهولة الحصول على المال أو صرفه على حد سواء. وهي، في العقل العربي والعالمي أيضاً، مصرف ثري يبحث عمن يريد أن يسرقه، ويستغلّه في تبييض الأموال وتهريبها، وعقد الصفقات المشبوهة والمفخّخة. فهذا يحسدها لكونها، في اعتقاده، قد سرقت دور عاصمة بلده ونجاحها ورغدها، ولا يثق بديمومتها. وذاك يسخر منها سراً بينما يغتنمها فرصة عابرة. وآخر يمرّن قلبه على القسوة والعنصرية تجاهها (الإمارات عموماً) وتجاه شعبها الذي ينعم بالخيرات والبداوة. أما المأسوية في النظرات العربية الشعبوية المختلفة تجاه دبي، فهي الصمت الرسمي في الإمارات نفسها، الذي يغلّف ترفعاً عليها وتعنيفاً لها يراوح بين الشماتة وانتظار المزيد من السقوط... في أحضان القادر على التكرّم وشراء ممتلكات المفلس. لعلَّ في هذا تحصيلاً لدور زعمته دبي ولم يكتمل، مع تعديلات أشبه بتنقيحات الطبعة الثانية.
لم تفعل دبي شيئاً أكثر من القول أن لا قضايا عند العرب، ولا أولويات تنموية واجتماعية. وها هي تصارع على الرمال، وتكتشف أن رياح الصمت تنتقم من الهواء، وتأخذ معها الخيمة والماء والرؤية والأحلام والهاربين من أوطانهم إلى الشركة والمكان المجرّد. لكأن صوت ابن خلدون يصدح من دبي مذكّراً بمشقّة بناء حضارة فوق الرمال، فكيف إذا كانت الصحراء عقلاً وتراثاً وتاريخاً عريقاً بالسقوط تلو السقوط، والصمت تلو الصمت.