حسان الزينأكثر ما يزعج، بل يؤلم، في الحديث السياسي اللبناني عن التوطين والحقوق المدنيّة للاجئين، هو أنه يُحكى كأن الفلسطينيّين غير موجودين؛ كأنهم كتلة أو شيء يجري البحث، بين حين وآخر، في التصرّف به، مع قلق مزدوج، منه وعليه.
لقد انتصرت النزعة اللبنانية في النظر إلى الفلسطينيين. حصل هذا الانقلاب إبّان الحرب، ولا سيما مع اجتياح 1982 وخروج قادة منظمة التحرير ومقاتليها من بيروت عبر البحر، ثم في انضمام فصائل وحركات لبنانية في «المنطقة الغربية» المُسيطَر عليها سوريّاً إلى محاربي الفلسطينيين ومحاصري مخيماتهم، وتكرّس الوضع الحصاري للفلسطينيّين في زمن السلم، إذ أُمعن في الإقصاء والعقاب اجتماعياً واقتصادياً، وصولاً إلى الاتهام الأمني واعتبارهم، بالجملة، قنبلة موقوتة تتسلّل بين حين وآخر لتقتل أو تفجّر هنا وهناك، في المجتمع اللبناني.
تتحمّل القوى السياسية الفلسطينية مسؤولية في ذلك، والمسيرة طويلة، قبل الحرب وإبّانها وبعدها. لكنّ اللبنانيّين، السياسيين والمدنيين، المشغولين في شؤون بلدهم المنهك عليهم جزء كبير من المسؤولية في سيادة النزعة الإقصائية العقابية، بل النبذيّة تجاه الفلسطينيين. ثم تأتي مسؤولية الفلسطينيين العاديين، ولا سيما أنهم استسلموا للفُرقة وتنامي تلك النزعة. لقد انسحبوا إلى صدفتهم تاركين الأمر والمسرح للسياسة وخطاباتها وبياناتها. وهؤلاء لا يمكن أبداً معاقبتهم على ذلك، تكفيهم ظروفهم الصعبة، الاجتماعية والسياسية. لا صوت لهم. وها هو رئيس سلطتهم ومنظمة تحريرهم وحركتهم الوطنيّة يتخلّى عنهم، يهملهم ويزيد مأساتهم. لقد زار لبنان مكتفياً بتسليم أمرهم إلى الدولة اللبنانية التي التقى رؤساءها الثلاثة. إنهم متروكون للبؤس وضياع حياتهم وحقوقهم، ويعيشون المأساة بأبعادها كلها. واليوم يتكرّس إهمالهم رسمياً فلسطينياً، ليصبحوا أكثر فأكثر عُرضةً لعنصرية لبنانية تتمنّى لهم أن يختفوا، ولسياسة رسميّة لبنانيّة عنوانها الإهمال الإنساني الاجتماعي، والاستنفار الأمني والبحث عن مخرج سياسي.
زار رئيسهم البلد حيث لجأوا ويقيمون في مخيمات لا سماء إنسانية وحقوقية فوقها، ولم يلمح واحداً منهم، ولم يعرف واحدٌ منهم ماذا دار بينه وبين المسؤولين اللبنانيين، الذين اجتمع إليهم. إنه الإمعان المازوشيّ في الإهانة والنكران. حتى منكوبو نهر البارد المدمّر، اللاجئون مرّات ومرّات إلى العراء وفيه، لم يكلّف نفسه عناء لقائهم، أو الانضمام إلى تحركاتهم الباحثة عن حاضنة وبصيص أمل.
بمعزل عن السبب السياسي الذي دفع بأبي مازن إلى هذا السلوك القاسي، ثمّة أمر خطير أخلاقياً، ألا وهو تهميش الفلسطينيين وإهمالهم ونبذهم وسلبهم صوتهم بعد سلبهم حقوقهم الإنسانية. وبالرغم من ذلك، حان وقت رفع الفلسطينيين، المواطنين العاديين، صوتهم، وأن يبلوروا ما يريدونه مدنياً وحقوقياً. فهم أصحاب حقوق، هنا وهناك. عليهم أن يدفعوا نحو مشاركة اللبنانيين همومهم وشعاراتهم، الاجتماعية المدنيّة والوطنيّة أيضاً. وإلّا فسيبقى الحديث اللبناني عن الفلسطينيين في لبنان على ما هو، يراوح بين العنصرية والشفقة والإهمال، وسيبقى وضعهم مفتوحاً على الحروب والاستنزاف. ليس للفلسطينيين في لبنان غير أنفسهم، وقد حصدوا رهانهم على السلطة الفلسطينيّة المقسّمة، والدولة اللبنانية والأونروا. القادة في رام الله وغزة لديهم أجندات تفاوضية وسلطوية، تندرج ضمنها زيارة عباس والغايات منها، وسلوكه فيها؛ وليس بعيداً منها النشاط الخدماتي المؤطّر لحركة حماس في مخيمات لبنان، لشغل المساحات التي تخرج منها السلطة وفتح، وبالتالي للحلول بدلاً منها. والدولة اللبنانية غارقة في الفساد والارتباط بقوى المنطقة وممارساتها ومصالحها... والأونروا تقلّص خدماتها وبالكاد تمنح الضروري بحده الأدنى.
ليس غريباً ألّا يدفع أبو مازن، الذي جاء ليرمي العباءة الأمنية والاجتماعية عن ظهر سلطته ومنظمته وحركته، في اتجاه الحقوق المدنية والحياة الإنسانية لشعبه. وبدلاً من أن يفعل ذلك ويشجع الفلسطينيين في لبنان على الحضور في الميدان الاجتماعي، تراه يحرقه ويحطّم مسرحه وينال من إنسانه ومجتمعه. لا غرابة في ذلك لكون أبو مازن مثقلاً بمواقفه التفاوضية التي يسعى إلى تقديمها كمواقف سياسية مبدئية وأخلاقية؛ ولكونه لا يعرف هؤلاء الفلسطينيين... ولم يقرب واقعهم يوماً، لا من رام الله ولا غيرها من العواصم والقصور التي يزورها أو يقيم فيها.