عصام العريان*كان قرار الرئيس مبارك بعدم تعيين نائب له طوال 5 فترات رئاسية تنتهي عام 2011 مبعثاً للقلق على منصب الرئيس الذي توارثه نواب الرئيس في عهد الجمهورية.
ثم كان الدفع بنجل الرئيس إلى حلبة العمل السياسي وتحلق نخبة من رجال المال والأعمال والاقتصاد الجدد حوله، مبعثاً لمزيد من القلق على مستقبل الرئاسة نفسها، بل البلاد كلها، في ظل التوجه الذي يتبناه هؤلاء من سياسات ليبرالية متوحشة، وعنصرية وطنية مغرقة في الشوفينية، وابتعاد عن الدور العربي والإسلامي، واقتراب من التغريب الأميركي والأوروبي، ورفض العدالة الاجتماعية وتهميش القوى السياسية المعارضة، وعداء للحركة الإسلامية السلمية.
القلق ليس داخل نفوس النخبة المعارضة أو القوى السياسية الفاعلة، ولا حتى الشعب نفسه فقط، بل كان القلق أكبر داخل الحلقات الضيقة التي يتصور العقل أنها تشارك فى صنع القرار بإبداء الرأي، أو تقديم التقارير المختلفة في كل المجالات، أو المشاركة في بعض السلطة في جزئيات مع تقدم الرئيس في السن وعدم إمكانية متابعته كل الملفات، وخاصة في المواقع السيادية والعسكرية والإدارية العليا، بل حتى داخل الحزب الوطني نفسه، الذي بات مستقراً انقسام قياداته العليا إلى حرس قديم ورجال جُدد وافدين على الحزب خلال السنوات القليلة الأخيرة. كما أن القلق يساور الدوائر الخارجية، وخاصة تلك المتهمة والمهمومة بالتدخل في الشأن المصري منذ قيام الثورة.
أثمرت الضغوط الخارجية الأميركية لإحداث إصلاح سياسي دستوري، فتم العدول عن طريقة اختيار الرئيس بالاستفتاء الشعبي على اسم واحد يرشحه ثلث أعضاء مجلس الشعب ويوافق عليه الثلثان، إلى الانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح بتصويت سري عام. عُدّلت المادة (76) من الدستور لتصبح أطول مادة في دساتير العالم أجمع، ووضع المشرعون فيها من العوائق والشروط التعجيزية ما يمنع كل راغب في الترشيح، ولا يبقى إلا من يرضى عنه الرئيس الحالي والحزب الحاكم. وبذلك فقد الانتخاب معناهً.
وفي خطوة تالية، عُدّلت 34 مادة في الدستور لمنع قيام أي أحزاب جادة ولها شعبية قوية، كالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات لتفقد ضمانات نزاهتها، وإضفاء سمة دستورية على إبقاء حالة الطوارئ والمحاكم الخاصة والاستثنائية والعسكرية، مما جعل المناخ السياسي المصاحب للانتخابات الرئاسية والتشريعية مسموماً لا يسمح بالمنافسة.
وبذلك تأكدت الشكوك التي ظلت حبيسة الصدور بأن المسرح يجري إعداده ليتبوّأ نجل الرئيس سدّة الرئاسة.
في عام 2005، أفسد الشاب الطامح أيمن نور المشهد كله عندما حلّ وصيفاً للرئيس مبارك وحصد قرابة 8% من أصوات الناخبين، فعوقب بقسوة في قضية جنائية ليقضي أكثر من 4 سنوات رهين الحبس، وكانت التهمة المعلقة فوق رأسه هي «التزوير»، بينما كانت التهمة الحقيقية هي شكوك قوية لدى النخبة المسيطرة في علاقات قوية بأميركا التي تريد تغيير المشهد السياسي في مصر بينما تحتفظ بأقوى العلاقات مع النظام الحاكم الذي تتماهى مواقفه مع السياسة الأميركية.
ومع اقتراب الموعد المقبل للانتخابات الرئاسية عام 2011، اتضح للجميع أن المسرحية الهزلية التي يريد أركان حملة التوريث إخراجها لا تليق بمصر. هنا ظهرت أسماء جديدة يرشحها الشباب والنخب المثقفة، وظهرت حلول غير تقليدية يطرحها كبار المهمومين بشأن الوطن. أهم هذه الحلول كان ما طرحه محمد حسنين هيكل عن فترة انتقالية يتولى فيها الرئيس مبارك رئاسة مجلس يعد البلاد للمستقبل خلالها، ويضم أهم الأسماء المطروحة على الساحة، ووزارة ائتلافية أيضاً، ويجري إعداد دستور جديد لمصر. رفض ذلك الطرح بقسوة من جانب أركان النظام جميعاً.
بعد تصريحات البرادعي، لم تعد المطالب التي أجمعت عليها المعارضة المصرية الجادة مجرد أمنيات
خرجت معظم الأسماء المطروحة للسباق الرئاسي من حلبة النقاش، ولم يصمد إلا الدكتور محمد البرادعي. التف حول الاسم شباب كثير على شبكة الإنترنت، وطُرح بقوة للانضمام إلى حزب «الوفد» بسبب جذور عائلتة الوفدية قبل الثورة.
تكلم الرجل 3 مرات، الأولى في حوار مع قناة CNN الأميركية، ليقول إنه يفكر في الأمر، والثانية التي أحدثت دويّاً في أوساط نخبة الحكم، عندما أصدر بياناً يوم الثالث من الشهر الجاري يحدد فيه شروط استجابته للدعوة التي يطالبه فيها عديد من المصريين بخوض انتخابات الرئاسة. وكانت الثالثة الكاشفة في تصريحات خاصة لصحيفة المصري اليوم، أعلن فيها عزمه على الاستمرار في نشاطه السياسي، قائلاً «لن أدخل انتخابات الرئاسة تحت مظلة أي حزب، ومستعد للتحرك السلمي مع الناس لتغيير الدستور»، مضيفاً «الدستور الحالي يفتقد الشرعية بسبب حرمان 95% من الشعب من المنافسة على مقعد الرئاسة».
لم تخرج شروط البرادعي عما يطالب به كل المصريين لضمان انتخابات رئاسية وتشريعية حقيقية ذات نزاهة ومصداقية، كتنقية الجداول الانتخابية، ووجود إشراف قضائي كامل على كل مراحل العملية الانتخابية، والسماح بوجود مراقبة دولية، والاستقلالية التامة للجنة الانتخابات العامة، وكذلك رفع القيود التعجيزية. وطرح البرادعي جزءاً من برنامجه، حيث اشترط إجماعاً وطنياً على القيم الأساسية لدولة مدنية تحقق الحداثة والاعتدال والحكم الرشيد، وطالب بإعداد دستور جديد لمصر يحقق هذه المطالب.
ماذا وراء طرح البرادعي؟ هل هو شعور وطني بخطورة المرحلة، أم استجابة تلقائية للدعوة على الشبكة الإلكترونية، ومن بعض الأحزاب؟ أم هو دفع من قوى في النظام تخشى على مستقبل البلاد؟ أم أنه كما بدأ البعض بالتصريح والتلميح مدفوع من قوى دولية هي أميركا في الغالب؟
هناك غالباً من شجّع البرادعي على طرح تلك المطالب ليحقق هدفاً رئيسياً هو إعاقة حملة التوريث، وإطاحة أوهام المحيطين بنجل الرئيس، لأن مجرد طرح اسم بقوة البرادعي يطيح فكرة أن مصر ليس لديها أسماء قادرة على خوض الرئاسة، ويبدد أوهام إعادة مسرحية هزلية كتلك التي جرت عام 2005، ويجعل الرئيس مبارك هو المرشح الأقرب للحزب الوطني الحاكم، وحينئذٍ ستكون هناك فرصة سنوات جديدة للحرس القديم والنخبة الحاكمة لإعادة إحكام قبضتهم وإطاحة أعضاء لجنة السياسات الذين يظهر فشلهم في كثير من الملفات وآخرها «معركة مباراة التأهل للمونديال مع الجزائر».
لن تستجيب النخبة الحاكمة بجناحيها لمطالب البرادعي، وقد شنّت عليه الصحف الرسمية حملة شعواء، تقدمتها الأهرام. ثم هدأت الأمور، وبدأ الرجل يطل من منابر مصرية، وجاءت تصريحات لرموز في الحزب الوطني ومقربين من لجنة السياسات تعارض حملة الهجوم العنيفة، وترحب بالرجل وكلامه. فهل حدث تغيير؟ وهل يثبت ذلك أحد الاحتمالات السابقة، من أن وراء الأكمة ما وراءها.
لكن هل حقق بيان البرادعي وتصريحاته شيئاً في الواقع؟ نعم، إذ لم تعد تلك المطالب التي أجمعت عليها المعارضة المصرية الجادة مجرد أمنيات، بل اكتسبت مصداقية لدى الرأي العام.
ما يهم الشعب المصري الذي غُيّب تماماً عن الحياة السياسية خلال العقود السابقة، هو فتح باب الأمل في تغيير ما يحقق للشعب المشاركة، وتكوين أحزاب بحرية، والتنافس السلمي على مقاعد البرلمان وموقع الرئاسة، والمفاضلة بين أكثر من مرشح على أساس برامج جادة تتيح لمصر الخروج من النفق المظلم، نفق الظلم والفساد والاستبداد واحتكار السلطة والثروة الذي قتل الأمل في نفوس الشباب.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين بمصر