ديما شريفيريد الكاتب أن يعرف كيف استطاعت كلمة تعني مكاناً جغرافياً (الغرب) أن تصبح عبارة ذات معاني هامة ومرادفاً للحداثة التي أكدت مضمون الكلمة الأسطوري.
يرى قرم عبر قراءاته أنّ فريدريك هيغيل وماكس فيبر استطاعا المساهمة في خلق ضمير ذات توجّه غربي مشترك بين الأوروبيين. إذ أصبح مفهوم الغرب في الخيال الأوروبي كائناً حياً من لحم ودم، سيكون ذات مستقبل عظيم وسيستطيع تغيير العالم. هذا الكائن الحي سيواجه كلّ الأخطار والعوائق التي تواجه التطور الحضاري وسعادة العالم كلّه. يتوصل قرم إلى استنتاج هام: أصبح لدى الأوروبيين فكرة راسخة بأنّ على المرء الغربي أن يكون أسطورياً، حتى يتمكّن من الوجود.
يؤمن البعض بأنّ هذه العبقرية الأوروبية لا تدين بشيء لأيّ تماس وتواصل مع الحضارات الأخرى. فينكر البعض أي فضل للترجمات العربية في إيصال الفكر اليوناني إلى أوروبا في القرون الوسطى لعدم وجود رغبة في أن يكون أي فضل للإسلام على الفكر الأوروبي.
الحضارة إذاً هي آرية (إرنست رينان) مع تهميش الآخر، ما دام أنّه ينتمي إلى عرق آخر. يصل الأمر مع الأوروبيين إلى احتكار الدين المسيحي لهم وحدهم باعتباره من «عملهم»، ويصبح الإسلام نقيض أوروبا، والنبي محمد هو المسيح الدجال. يحلّ بالتالي الدين الإسلامي مكان اليهودية كعدو يساعد على تعزيز الهوية الغربية. وبالتالي يسمح الشرق للغرب بأن يوجد كمفهوم أسطوري.
تشكل وحدة المدينة المسيحية عامل نوستالجيا لدى المفكرين الذين يتحدثون عن المنطق اليوناني، والإرث الروماني المتعلق بمفهوم الدولة والقانون، والديانة التوحيدية منذ ظهورها مع القبائل اليهودية، وإرث القبائل الجرمانية التي اجتاحت أوروبا و«منحتها حب الحرية». هكذا يمجّد هؤلاء اللحظات التاريخية المؤسسة ويجمّلون النص التاريخي ليصبح أشبه بالأسطورة.

التعاطف الذي لقيه هتلر خارج ألمانيا يضع على المحكّ صدقيّة الخطاب الغربي وتماسكه
إلى جانب ذلك يقومون بالتأريخ عبر خلق علاقات معقدة بين أحداث متناقضة. تصبح القبائل البربرية خارج التاريخ، ومع هيغل فقط المجتمعات المتحضّرة تدخل في التاريخ، إذ تفتقد المجتمعات غير المتحضرة شيئاً لا يمكن تعويضه. يسرد الكاتب اللحظات الهامة في تاريخ أوروبا، ويصل إلى أنّ الشرذمة والتفكك كانا طيلة الوقت من سمات القارة التي لم تتوحد سوى في الموسيقى.
يرى قرم أنّ كلمات الديموقراطية، الدين والرأسمالية، ارتبطت لفترة طويلة في تاريخ أوروبا بالنهب الاستعماري والاستغلال والاجتياحات العسكرية. وتوصل إلى أنّه كلما زادت ضخامة أسطورة الغرب زاد عبئها المعنوي.
ويرى الوزير السابق أنّه رغم الفترة الموسيقية المشرقة في تاريخ أوروبا، سرعان ما أتى فاوست (غوته) الذي يمثل الرجل العصري الأوروبي المتحالف مع الشيطان، ونيتشه الذي قضى على ميراث عصر النهضة والأنوار والفكر الكلاسيكي. ويضيف إنّ الثقافة التي شكلتها الموسيقى انتهت في نهاية القرن التاسع عشر مع صراع القوميات وبروز شهية السلطة التي تمثلت، برأيه، في أعمال ريتشارد فاغنر، ومهدت لها كتابات نيتشه.
النازيّة وحروب القرن العشرين تمثّل انحطاط الأسطورة الغربية، كما يرى قرم. ويرى أنّ التعاطف الذي لقيه هتلر خارج ألمانيا يضع على المحك صدقية الخطاب الغربي وتماسكه. فهتلر لم يكن مجنوناً، كما حاول البعض تصويره.
وبعد الفشل في تحويل الشعوب غير الأوروبية إلى المسيحية، بدأت عملية «أوربة» هؤلاء. إذ كان يجب تمدينهم ووضعهم على الطريق الصحيح للتقدم والتطور ووصولهم بالتالي إلى السعادة. كانت ألمانيا التي أتعبتها الحروب الدينية، غائبة عن هذا الغزو الحضاري للعالم. لكنّها عوّضت بفضل إنتاجها الفلسفي الكبير مع نيتشه، هيغل، ماركس، توماس مان، أوسفالد سبينغلر، وغيرهم من الذين ناقشوا وانتقدوا الفكر الفردي البورجوازي الأوروبي. أفكار نيشته كانت دليلاً على سقوط القيم التي بنيت عليها مختلف الثقافات الأوروبية منذ عصر النهضة. أشعل نيتشه النار في المثالية والمعجزة الكانطية. هكذا يلقي الكاتب باللائمة على نيتشه متناسياً ربما أنّه ثار على الدين والكنيسة التي تستعبد الإنسان. كما انتفض ضد الحتميات الأخلاقية، الدينية والعلمية، ورغب في تحرير الجسد والعقل من الموروثات. وهو الذي انتقد مراراً الفلاسفة الذين سبقوه لتقبلهم الأعمى للمسيحية كدين، ودفنهم لأي حسّ نقدي لديهم تجاه السلطة القائمة، وخصوصاً المعنوية منها. كما شجب نيتشه في كتاباته (وتحديداً في «إنساني، إنساني جداً») الحروب والنزعات القومية الضيقة.
لا ينسى قرم في كتابه التطرق إلى المسألة اليهودية. يذكرنا كيف كانت صورة اليهودي في كل المجتمعات الأوروبية سلبية، وكيف كان يتم تحميله المسؤولية عن كل شرور المجتمع ومساوئه. تعززت هذه الرؤية مع الهجرة السوفياتية لكل المعارضين للشيوعية الذين حملوا معهم إلى ألمانيا كرههم الشديد لـ«البولشفية اليهودية».
وبعد الحرب العالمية الثانية، ازدادت شهرة الولايات المتحدة، وخصوصاً بعدما استخدمت كلّ قوتها إلى درجة أصبحت معها أوروبا بعد سقوط حائط برلين مقاطعة ملحقة بها. لكن أوروبا بقيت تحاول تحويل تاريخها إلى أسطورة لتحافظ على مكانتها في الفلك الأميركي.
وكما كانت ألمانيا في القرن التاسع عشر المصدر الفكري للفلسفة الأوروبية، حلت الولايات المتحدة مكانها في القرن العشرين، وخصوصاً بعد التعاون الوثيق بينها وبين أوروبا على الصعيدين الثقافي والجامعي. لكنّ الغرب، وأوروبا ضمناً، لم يتغيّرا في القرن العشرين. وحاولت أوروبا فرض التجارة الحرة والليبرالية والواجهة المؤسساتية الديموقراطية على باقي دول العالم، ما دفعها إلى استخدام قوتها العسكرية من وقت لآخر.
يعتقد قرم أنّه يجب إيجاد الطريق للوصول إلى نقاش فكري عميق وإعادة قراءة المفكرين الذين أسّسوا للضمير الغربي تأسيساً نقدياً. كما يجب إعادة قراءة التاريخ العالمي بشكل صحيح لإعادة الاعتبار للحضارات غير الغربية، وإلى ما حملته للحضارة الإنسانية. كما يجب نزع صفة الغربية عن العلوم الإنسانية، أي تحريرها من وهم فكرة أوروبا الموحّدة والمتجانسة منذ ألفي عام. هذا بدون شك سيفتح الباب على آفاق جديدة سياسية وفكرية.