بشير صفيربمعنى آخر، من أين «وُلِد» هتلر؟ ولماذا حدَثَ هذا الهبوط من السماوات (موزار) إلى جهنّم (هتلر)؟ لا شك في أن الموضوع مشوّق وإشكاليّ، وكذلك مقاربة قرم له. هذه المقاربة التي تعكس أموراً استثنائية في شخصية الكاتب، أوّلها ولعه بالموسيقى (والفنون عموماً)، ومعرفته العميقة بالموسيقى الكلاسيكية.
لكنّ الواضح أن إلمام قرم الكبير بفنّ الأوبرا، أتى على حساب الأشكال الموسيقية الأخرى. فمجد أوروبا الموسيقي لا دخل له بنص الأوبرا أو بموضوعها، بل بما تتضمنه من موسيقى (غناء بدون موسيقى، غناء مع موسيقى، وموسيقى بدون غناء). وفي أوروبا القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، لا تتخطى القيمة الموسيقية للأعمال الأوبرالية (أي غناء و/أو موسيقى) العديد من الروائع التي يمرّ عليها قرم مرور الكرام. كذلك يتضّح لاحقاً ميل الكاتب إلى الكلمة/ الغناء عموماً في الأعمال الكلاسيكية. الدليل هو الإشارة إلى باخ كصاحب أعمال ليتورجية دون سواها (بما أن الأخير لم يكتب أي عمل أوبرالي)، علماً بأن روائعه الآلاتية لا تقل شأناً عن تلك الغنائية. والدليل الآخر هو ذكر بيتهوفن على الهامش. فالمؤلف الألماني الكبير لم يترك إلا أوبرا واحدة، وثلاثة أعمال دينية فقط، أبرزها الـ«Missa Solemnis». أما احتلال موزار الموقع المحوَريّ في موضوع قرم، فبات مبرراً. فالرجل كتب أهم الروائع في فن الأوبرا تاريخياً، و«الناي السحري» أروعها نصاً وموسيقى، بدون شك.
من ناحية أخرى، يرى الكاتب أن الموسيقى الأوروبية «انتهت» منذ فاغنر (ضمناً!). واجتماع موسيقى فاغنر وفلسفة نيتشه أنتج النازية. ولم ينجُ من الغرق مع بزوغ القرن العشرين سوى بعض الفرنسيين والروس والإسبان وأسماء متفرقة. وهنا، لا يتعدى هذا الكلام كونه مسألة ذائقة شخصية، تنسف، وهذا من حقِّها، كل التيارات الموسيقية في القرن العشرين (وحتى يومنا هذا)، بدءاً ممّا يُعرَف بـ«مدرسة فيينا الثانية» (الموسيقى التسلسلية أو الدوديكافونية أو اللامقامية)، ونقصد الثلاثي شونبرغ/ برغ/ فيبرن (Schoenberg/Berg/Webern).
قد يكون الكاتب حرّاً في مقاربة مجد أوروبا الموسيقي من الباب الذي يملك مفاتيحه ويعرف خبايا عالمه (الأوبرا أو الأشكال الغنائية الأخرى). وقد يكون تصنيفه فن الموسيقى منذ فاغنر في خانة جمالية ما، أمراً قابلاً للنقاش بشكل أو بآخر. لكن، بعيداً عن هذين المحورَين، يورد الكاتب (ص 140): بعض المعلومات المنقوصة (كعدم ذكر برغوليزي في الكلام عن روائع الشكل الموسيقي الديني المُسمّى Stabat Mater)، وبعض الصفات الغريبة (كالقول إن الـRequiem الذي كتبه غبريال فوريه هو عملٌ مغمور!). كما يقع في بعض الأخطاء الثانوية. فعند الكلام عن الموسيقى الدينية الأوروبية، يشير إلى الشحّ الروسي في هذا المجال. هذا صحيح، لو لم يلِه استثناء رخمانينوف (ص 140). فاستثناء مؤلفٍ واحدٍ فقط، يعني أمرَين: إما أنه الروسي الوحيد الذي كتب أعمالاً دينية، وإما أنه الأغزر في هذا المجال. وفي الواقع، كلاهما غير صحيح. فغريتشانينوف مثلاً، وهو معاصر لرخمانينوف، ترك أعمالاً بأشكال مختلفة، لكنه اشتهر تحديداً من خلال أعماله الليتورجية الكثيرة. هذا يكفي لدحض الاحتمالين معاً، إذ إن رخمانينوف لم يعُد وحيداً في هذا الخانة، وهو ليس الأغزر، بما أنه كتب أعمالاً غير دينية، والدينية منها قليلة جداً أصلاً (عمل أساسي، «Les Vêpres» وآخر ثانوي، «Liturgie de Saint Jean Chrysostome»، ومحاولات هامشية لا قيمة تذكر لها). وإذا كان اسم غريتشانينوف لا يدخل في نادي «المشاهير»، فمن لا يعرف تشايكوفسكي؟ وللمفارقة، فقد كتب الأخير عملين دينيَّين مشابهَين (من حيث الشكل والاستخدام الليتورجي) لعملَيْ رخمانينوف الأساسيَّين. وكذلك هي الحال بالنسبة إلى ريمسكي ـــــ كورساكوف (عمل واحد، وهو أيضاً مشابه للعمل الثاني المذكور أعلاه)... وغيرهم. وفي سياق الحديث عن الأعمال الدينية، إشارة إلى الـMagnificat، كإحدى روائع الألماني هَندِل (ص 141). والسؤال: هل هذا العمل موجود فعلاً؟!
كذلك يذكر الكاتب مندلسون أنه من الديانة اليهودية، وقد كتب أعمالاً دينية مسيحية (ص 151)، دون أن يشير إلى أن المؤلف الألماني الكبير اعتنق البروتستانتية منذ صغره، بعدما تخلّت عائلته عن اليهودية، وهذا مصدر إعجابه المعروف بأعمال باخ (البروتستانتي) الدينية.
لكن، رغم هذه الملاحظات والتوضيحات، يبقى ما ورد في كتاب جورج قرم في موضوع الموسيقى مميّزاً لجهة الربط بين الأعمال الموسيقية والسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي.