Strong>ياسين تملالي *لم تحظَ العلاقات الاقتصادية بين مصر والجزائر بالكثير من الاهتمام في التحاليل التي خُصّصت للأزمة المحتدمة بينهما، ولم تُشر إليها صحافة البلدين في أغلب الأحيان إلا لتثبت أن قطعها لن يضر بغير البلد «الخصم». ما مميزات هذه العلاقات وهل صحيح أن إعادة النظر فيها غير ذي أثر على الاقتصادين المصري والجزائري؟
أول ما يميز هذه العلاقات هو اللاتكافؤ بين استثمارات مصر ونشاطها الاقتصادي في الجزائر واستثمارات الجزائر ونشاطها الاقتصادي في مصر. تجاوزت الاستثمارات المصرية في الجزائر 2 مليار دولار بين 2002 و2007، حسب الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار. وتتضارب المعلومات بشأن 2008، وإن أمكننا أن نذكر أن «أسيك سيمنت» أنفقت 645 مليون دولار، وكذلك بلغت الاستثمارات السنوية لأوراسكوم تيليكوم حوالى 500 مليون دولار (حسب تصريحات مسؤولي هذه الشركة).
الاستثمارات الجزائرية في مصر أقل من هذه المبالغ الضخمة بكثير (لا تنشط في مصر أيّ من كبرى الشركات الجزائرية باستثناء الشركة البترولية «سوناطراك»)، لكنها تفوق بالتأكيد الـ 29 مليون جنيهاً مصرياً (حوالى 5،5 ملايين دولار) التي تداولتها بعض الجرائد المصرية في معرض التهوين من آثار تدهور العلاقات مع الجزائر. ويُلاحَظ أن هذا المبلغ لا يشمل مثلاً مساهمة «سوناطراك» بنسبة 20 بالمئة في مشروع الشركة النرويجية «ستات أويل» للتنقيب عن الغاز في عرض الساحل الشمالي المصري، الذي وُقع عقده في تموز/ يوليو 2007 «بالتزام إنفاق إجمالي قدره ‏275 ‏مليون دولار»، حسب الهيئة المصرية العامة للاستعلامات.
وتتميّز الاستثمارات المصرية في الجزائر بتنوعها النسبي، فهي تشمل الاتصالات وصناعة الإسمنت والصناعة الكيماوية. وقد وقّعت «أسيك سيمنت» في 2008 عقد إنشاء مصنع لها في الجلفة (300 كلم جنوب العاصمة) تمتلك 51 بالمئة من أسهمه، وتبلغ القيمة الإجمالية للاستثمار فيه 600 مليون دولار، كما أنها اشترت 35 بالمئة من أسهم مصنع آخر في وهران (غرب الجزائر) بقيمة 32،6 مليون يورو. ووقّعت «سورفيرت» («أوراسكوم» /«سوناطراك») في 2008 عقد إنجاز مصنع في أرزيو (غرب الجزائر) ستتولى هي ذاتها استغلاله بعد إتمام أشغاله. وتبلغ قيمة المشروع الإجمالية 1،6 مليار دولار (وجب التنويه بأن البنوك العمومية الجزائرية تموّل ما لا يقل عن 70 بالمئة من هذا المبلغ). أما «أوراسكوم تيليكوم ألجيري»، فتستغل منذ 2002 رخصةً للهاتف النقال تدر عليها أرباحا طائلة (حوالى 580 مليون دولار في 2008).
وهناك مشاريع استثمارية مصرية في الجزائر لم تتجسد بعدُ، أهمها مصنع «عز للحديد» في ميناء بلارة (الشرق الجزائري)، الذي كان من المفترض، في مرحلة أولى، أن تُستثمر فيه 750 مليون دولار. ومن المحتمل أن سبب تعطّل إنجازه هو تعديلُ قواعد الاستثمار الجزائرية في 2008، بما يجبر المتعاملين الأجانب على التنازل عن أغلبية أسهم مشاريعهم لأطراف جزائريّين.
وعدا هذه الاستثمارات المباشرة، حقّقت بعض الشركات المصرية صفقات مهمة في الجزائر، منها «أوراسكوم للإنشاء والصناعة» التي وقّعت في نوفمبر 2007 صفقة إنجاز محطة للكهرباء في عين تموشنت (غرب الجزائر)، تقوم بأشغالها بالاشتراك مع «ألستوم» الفرنسية، وتبلغ حصتها فيها 826 مليون دولار. ووقّعت نفس الشركة في منتصف 2009 عقدين آخرين بقيمة إجمالية تقدّر بـ 280 مليون دولار، الأول لبناء وحدة لمعالجة المحروقات (مناصفة مع الإيطالية «بنتيني») والثاني لتموين أحد المشاريع البترولية بهياكل معدنية ومنتجات أخرى (شراكةً مع البريطانية «بتروفاك»).
تفريط الجزائر ومصر عن قصد بعلاقاتهما الاقتصادية مستبعد، والتصريحات المهوّنة من أهميتها لا تندرج إلا في خانة الحرب الكلامية
وتنشط في الجزائر شركتان مصريتان عموميتان هما «بتروجيت» و«المقاولون العرب». تسهم «بتروجيت» حالياً في إنجاز مشروع أنبوب الغاز المسمّى «جي كا 3» الرابط بين حقول حاسي الرمل (وسط الصحراء الجزائرية) وميناء القالة (أقصى الشرق) الذي تبلغ تكلفته الإجمالية 1،5 مليار دولار وطاقته 9 مليارات متر مكعّب سنوياً. أما «المقاولون العرب» فتشارك في إنجاز ميناء رأس جينات (شرق الجزائر العاصمة)، ومن أهم الصفقات التي فازت بها في السنوات الأخيرة، صفقتا مشروعين سكنيّين تبلغ قيمة كل منهما حوالى 47 مليون دولار (حسب الأرقام المنشورة على موقعها). وفي إطار تطوير تعاونهما الاقتصادي منذ مطلع هذا العقد، أنشأ البلدان مؤسسةَ استثمار مشتركة في أواخر سنة 2007. كما أعلنا (في عز الأزمة الدبلوماسية الحالية) ميلاد شركة «سيليني بيتروليوم» التي تقتسم أسهمها مناصفةً «سوناطراك» من الجانب الجزائري، وكل من «الشركة القابضة للغاز الطبيعي» و«الهيئة العامة للبترول» من الجانب المصري. ومن مشاريع التعاون الطاقوي التي يجري الحديث عن إنجازها في مصر، منشآتٌ لتخزين غاز البترول المميع الذي تصدّره الجزائر إلى السوق المصرية (الهدف على المدى المتوسط هو جعلها قاعدةً إقليمية للصادرات الجزائرية من هذه المادة)، ومصفاةٌ للبترول الثقيل، وأنبوب نفط يربط الساحل الشمالي المصري بساحل البحر الأحمر، بغرض خفض تكاليف نقل المحروقات الجزائرية إلى دول آسيا.
هذا عن النشاط الإنتاجي. ماذا عن العلاقات التجارية؟ ما يميزها هو ميلُ كفّتها للجزائر التي بلغ فائض ميزان مبادلاتها مع مصر 295 مليون دولار في 2004، 253 مليون دولار في 2006، و415 مليون دولار في 2008. وقد احتل هذا البلد في 2008 مرتبة ثاني مموّنيها وأول زبائنها العرب. وتشير أرقام وزارة التجارة ومديرية الجمارك الجزائريتين إلى تطور واضح للمبادلات التجارية الجزائرية المصرية خلال النصف الأول من سنة 2009، إذ قدّرت بـ 442 مليون دولار (+53 بالمئة مقارنةً بـ 2008). وقد بلغت صادرات الجزائر إلى مصر خلال الفترة المذكورة 254،5 مليون دولار، فيما بلغت الصادرات المصرية إلى الجزائر 187،9 مليون دولار، أي بزيادة 122،6 مليون دولار مقارنةً بالنصف الأول من السنة الماضية.
وإذا كانت كفة الميزان التجاري راجحة للطرف الجزائري، فإن كفة تنوّع الصادرات تميل ميلاً شبه كامل إلى الطرف المصري. في 2008 مثلاً، تكوّنت 99 بالمئة من صادرات الجزائر إلى مصر من المحروقات، فيما شملت وارداتها منها البنى المعدنية ووسائل النقل والمستخلصات المستخدمة في الصناعات الغذائية وأجهزة الطبخ والتبريد والكتب والكوابل الكهربائية والورق...
نستخلص من كل ذلك أن تفريط الجزائر ومصر عن قصد بعلاقاتهما الاقتصادية مستبعد، وأن التصريحات المهوِّنة من أهميتها لا يمكن أن تدرج في غير خانة الحرب الكلامية التي تلت أحداث المواجهات الكروية بين البلدين.
منذ أن بدأت الجزائر تطبيق «مخططات دعم النمو» (حوالى 200 مليار دولار بين 2001 و2009)، تحولت بالنسبة إلى الشركات المصرية إلى وجهة تمكّنها من تحقيق أرباح كبيرة، وإثبات أن الرأسمالية المصرية دخلت مرحلة الإشعاع الدولي أو الإقليمي على الأقل. لذا، فإن الانسحاب من هذا البلد سيفقدها صفقات أخرى من برامج التنمية الحكومية (كلفة المخطط الخماسي 2009 ـــــ 2014 لا تقل عن 150 مليار دولار حسب الأرقام الرسمية)، كما أن هيئات التحكيم الدولية ستجبرها لا محالة على دفع تعويضات باهظة لشركائها الجزائريين وغير الجزائريين. أضف إلى كل هذا أن مصر، وهي تطمح للتحوّل إلى قطب صناعي إقليمي، لا يمكنها أن تستغني بجرّة قلم عن سوق تعدادها 35 مليون نسمة، هي بعد السوق المصرية، أكبر سوق عربية.
هذا عن حاجة الرأسمالية المصرية إلى الجزائر حالياً. ماذا عن حاجة السلطات الجزائرية إلى الرأسمالية المصرية؟ لا يسعنا سوى أن نتساءل عن مدى جدية وزير الاستثمار الجزائري وهو يردّد أن انسحاب الاستثمارات المصرية «لن يكون له أي تأثير في اقتصادنا». هذا التصريح أذهل الملاحظين، اليمينيّين منهم واليساريين. أذهل اليمينيّين لأن مصر أكبر مستثمر أجنبي في الجزائر خارج قطاع المحروقات، وأذهل اليساريين لما عرف عن هذا الرجل من إيمان راسخ بأن لا خلاص للبلاد دون تطوع الرأسمال الأجنبي لإنقاذها.
ليس من السهل أن تعوض الجزائر بسرعة «أسيك سيمنت» مثلا أو غيرها من شركات الإسمنت الأجنبية، فتعويضها سيتطلّب الكثير من الوقت، فيما تزداد بسرعة احتياجات البلاد من هذه المادة لتلبية متطلبات مشاريع عملاقة كـ«المليون سكن» و«الطريق السريع شرق ـــــ غرب» (1200 كلم). وعلى سبيل التذكير، فإن تنامي هذه الاحتياجات هو ما دفع الحكومة إلى أن تقبل على مضض بيع «أوراسكوم إسمنت» مصنعيها الجزائريين لـ«لافارج» الفرنسية في 2007 دون استشارتها، بل إنها حثّت هذه الشركة على الإسراع بإنشاء مصنع إسمنت جديد، وتنازلت لها في 2008 عن 35 بالمئة من أسهم مصنع إسمنت عمومي في مفتاح (جنوب العاصمة).
من الصعب أيضا أن تُستبدل «أوراسكوم للإنشاء والصناعة» أو «بيتروجيت» بغيرهما دون تأخير تسليم مشاريع هي شبه مصيرية بالنسبة إلى الاقتصاد الجزائري. وكمثال على ذلك، فإن أنبوب الغاز حاسي الرمل ـــــ القالة سيموِّن محطتين لإنتاج الكهرباء ومصنعاً للغاز المميع، بل حتى أنبوب الغاز المسمّى «جالسي» الذي سيربط الجزائر بشبه الجزيرة الإيطالية.
وخلاصة القول إنه من المستحيل تقريباً أن تتخلى الشركات المصرية عن صيد ثمين هو جزائر الألفين، الغنيّة القادرة على الدفع بسخاء، الراغبة في توسيع منشآتها القاعدية، العاجزة عن توسيعها وحدها. ولو حدث أن تخلت عنه فلن يكون ذلك «غير ذي أثر عليها» بسبب ما ستدفعه من تعويضات، وما ستفقده من صفقات مربحة مستقبلاً. كذلك، لن يكون انسحابها «غير ذي أثر على الاقتصاد الجزائري»، بالنظر إلى الطابع «الاستعجالي» لما تنجزه من مشاريع، ولأن الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ عقدين قضت على مؤسسات عمومية كان يمكن أن تحل محلها، وتُجنّب البلاد التبعية للرأسمال الكبير، المصري منه وغير المصري.
* صحافي جزائري