منى عباس فضل*هل ثمة ما يشير إلى أن مجلس التعاون الخليجي يمثل تكتلاً إقليمياً بمستوى تحديات العصر ومتغيراته، تماماً كما الاتحاد الأوروبي؟ لعلّ الإطلالة على مجريات قمة المجلس الثلاثين التي عقدت بالكويت (14-15 كانون الأول/ ديسمبر 2009) كفيلة بالإجابة عن السؤال.
في البداية، تأسس المجلس عام 1981 تلبية لحاجات فرضها الواقع الإقليمي. فالمنطقة كانت (وما زالت)، مسرحاً لنشاط النظام السياسي العالمي بحكم موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي، إلى جانب أنها لم تعد بمعزل عما فرضته عليها العولمة من تبدلات في بناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في هذا الصدد، يرى البعض أن استمرار عقد المجلس لقممه لثلاثة عقود هو بحد ذاته إنجاز، والمجلس برأيهم أفضل حالاً من التكتلات العربية الأخرى، بل حقق مكاسب مع القوى التفاوضية العالمية، وأصبحت اقتصادياته أكثر ترابطاً وتكاملاً، كما عبّر عن تكامله بتلاحم أبنائه رياضياً وفنياً، وتدفقهم عبر الجسور والمطارات، وتيسر تنقلهم ببطاقة الهوية الوطنية حيث يجدون التسهيلات.
مقابل الرأي السابق، يجد آخرون أن هذه التبدلات تفتقد الجدية والشفافية، بل لم ترقَ بعد بدول المجلس إلى صياغة علاقة تعاقدية مع مواطنيها بعيداً عن عقلية القبيلة التي تحكمها وتطغى بعوارضها التقليدية على اتخاذ القرارات وتحقيق الإنجازات. كذلك فإن ممارساتها لم تفصح عن رغبتها في التخلي الطوعي عن بعض سلطاتها لصالح تشريع سياسات أو نقل صلاحيات إلى أجهزة تعمل في إطار المنظومة الخليجية كتكتل إقليمي تثبت أوتاده بما يحقق الأداء التكاملي لأعضائه، ناهيك بالخلافات المزمنة المتعلقة بالحدود والمغانم. وقد قال أحد الكتّاب عن سبب عجز المجلس الخليجي عن الظهور على الساحة الدولية كهيئة تكتل إقليمي مقنع، إن سياسات دوله ما زال تُعلَن وتمارَس على نحو منفرد، علاوة على الإخفاق في تحويل الوعود إلى سياسات وسلوكيات واقعية، برغم أن ظروف دوله مواتية لتحقيق التكامل وصناعة التكتل الإقليمي.
واستناداً إلى ما جرى في «القمة»، وما رشح عنها من قرارات وتصريحات، تتكشف الكيفية التي تصاغ بها السياسات ويجري التعامل مع الخلافات بالعصبوية القبلية فضلاً عن تغييب المواطن عن صناعة القرار. فهذه الأنظمة، برغم تعريفها لحقوق المواطنة في دساتيرها، إلا أن علاقة المواطن بالدولة تبقى علاقة هامشية يحكمها منطق الراعي والرعية، فهي وإن كيفت نفسها مع الأوضاع المستجدة واضطر بعضها إلى الإصلاحات وتقديم تنازلات، فإنما تحاول من طرف آخر السيطرة على العملية السياسية والاستفراد بالقرار واستعادة سلطتها التي تنازلات عنها، إلى جانب أن الديموقراطية فيها ما زالت غائبة جزئياً أو كلياً. فالسعودية وقطر ليس فيهما هيئة تمثيلية تشريعية منتخبة، بينما ينتخب نصف أعضاء «المجلس الوطني الاتحادي الإماراتي» في اقتراع يشارك فيه ناخبون معيّنون، وفي البحرين ينتخب المقترعون «مجلساً للنواب» يقابله «مجلس شورى» معيّن يتمتع بالصلاحيات التشريعية نفسها وعدد الأعضاء ذاته، أما في عُمان فهناك انتخابات لـ«مجلس شورى» صلاحياته محدودة ومقيدة. لهذا وذاك، لا عجب إن غاب صوت المواطن عن هذه القمة.
إلى ذلك، صدر عن القمّة بيان دعا إيران إلى التعامل مع متطلبات الشرعية الدولية حول ملفها النووي، وأكد المسؤولون أنّ دولهم «لا تريد أبداً أي عمل عسكري ضد إيران»، وخيراً فعلوا، وعليهم الالتزام. كما دعوا إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية وتطبيق هذه المعايير على الجميع بما فيها إسرائيل، مؤكدين تضامنهم مع السعودية في حربها ضد الحوثيين، واتفاقهم على إنشاء قوة مشتركة للتدخل السريع للتصدي للمخاطر الأمنية في المنطقة، ما يعني هدر المزيد من مليارات الدولارات لصفقات شراء السلاح على حساب التنمية. همَّش بيان قمة الكويت قضايا جوهرية. فهو تجاهل تردي التعليم الذي تحول في دول المجلس إلى سلعة بسبب انتشار المؤسسات التعليمية الخاصة التي تحقق أرباحاً طائلة تستهلك المداخيل، وكذلك تجاهل افتقاد دول المجلس لنظام الرعاية المتطورة. وكما قال الكاتب عبيدلي عبيدلي، لا يمكن مواجهة القضايا الاستراتيجية إذا ما غاب المواطن عن أذهان من يتصدون لها ومخططاتهم.
من ناحية الاقتصاد، تطرقت القمة إلى ثقتها بمتانة اقتصاديات دول المجلس لتجاوز تبعات الأزمة المالية العالمية التي تأثرت بها دوله بقوة، ولا سيما أنّها تعتمد على تصدير الطاقة وتملك (45%) من احتياط النفط العالمي وربع الغاز، ومع ذلك، فأزمة دبي المالية لم تتصدر الأجندة، ما خلا تصريح الوزير الكويتي عن اتصاله بوزير خارجية الإمارات وعرض المساعدة عليه، قائلاً إن «الكويت معهم في السراء والضراء». وتمخضت القمة عن إنشاء «المجلس النقدي» الذي أوكل إليه وضع برنامج زمني لإنشاء «المصرف المركزي» تمهيداً لإصدار العملة الموحدة المفترض صدورها في 2010. في الحقيقة لم يتفق على جدول زمني، والمرجح في أفضل الأحوال صدور العملة في 2014 بحسب الخبراء. الجدير بالذكر أن «الاتحاد النقدي» يشمل السعودية والكويت وقطر والبحرين، ويستثني عُمان والإمارات اللتين انسحبتا بسبب خلافهما مع السعودية حول مقر «المصرف المركزي الخليجي». إلى جانب ذلك، شهدت القمة تدشين «مشروع الربط الكهربائي» بين دول المجلس، الذي تجاوزت كلفته مليار دولار، ويضم السعودية والكويت والبحرين وقطر، فيما يُفترض انضمام الإمارات وعمان لاحقاً في 2012. وقيل إن الربط سيضمن إمدادات الكهرباء في أوقات الطوارئ لدول المجلس فضلاً عن خفض تكاليف الإنتاج والاستفادة من الطاقات الفائضة.

همَّش بيان قمّة الكويت قضايا جوهريّة، فتجاهل تردّي التعليم الذي تحوّل في دول المجلس إلى سلعة

أما جلسة افتتاح القمة فقد تأخرت بسبب محاولات تضييق الخلاف الواقع على خلفية تعيين «مرشح البحرين» لمنصب الأمين العام. وحسب التقارير، احتجت قطر على تسمية المرشح برغم قناعتها بأحقية البحرين بهذا المنصب. البحرين، من ناحيتها، أصرت على مرشحها الذي وافقت عليه السعودية والإمارات والكويت، وتحفظت قطر وعمان. وصرح وزير خارجية قطر بأن «سبب التحفظ على محمد المطوع، هو أنه أساء لقطر إبان فترة تسلمه سدة وزارة الإعلام والتي تزامنت مع الخلاف البحريني القطري على جزر حوار»، ما جعل المراقبين يخشون من أن يشكل هذا التحفظ بداية لحساسية في التعامل مع الأمين العام، وخصوصاً أنه سيمثل المجلس الخليجي لا البحرين.
خلاصة الأمر، رغم تفاوت الآراء والمواقف إزاء أداء «مجلس التعاون الخليجي»، فضلاً عن الخلافات أو الاتفاقات التي رشحت عن هذه القمة، فإنّ الواقع يشي بوجود إنجازات بطيئة لا تتلاءم وإيقاع المتغيرات، ما انعكس على عجز هذا التكتل عن بلورة نفسه كقوة إقليمية ضاغطة مقابل القوى الأخرى في المنطقة. والأرجح أن التباينات بين أنظمته السياسية، وإن جرت محاولات للتكتم عليها، وغياب المواطن عن المشهد السياسي، أصبحت عائقاً جوهرياً في تطوير مسار التجربة الاتحادية.
* باحثة بحرينية