منى عباس فضل *في سياق فعاليات الضغط الشعبي الذي تتزعمه «لجنة مناهضة التجنيس السياسي»، تكوّنت أخيراً سلسلة بشرية ضخمة قدرت بالآلاف في العاصمة المنامة رافعة شعار «لا للتجنيس السياسي». كما سبقها بفترة وجيزة تقديم عريضة نخبوية موقعة من 192 شخصية إلى الملك تطالب بوقف التجنيس ووضع آليات لمنح الجنسية. وكرد فعل عليها امتنع الديوان الملكي عن تسلمها بحجة تعارضها مع المادة «29» من الدستور التي تنص رسمياً على أن «لكل فرد أن يخاطب السلطات العامة كتابة وبتوقيعه، ولا تكون مخاطبة السلطات باسم الجماعات إلا للهيئات النظامية والأشخاص المعنويين». أعقبها بأيام دخول نواب كتلة الوفاق قاعة البرلمان وعلى صدورهم شارة كتب عليها باللون الأحمر الفاقع «لا للتجنيس».
في هذا الشأن، ثمة مخاطر سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية استراتيجية بالغة الخطورة تشي بأن النظام دخل منعطفاً جديداً في تعامله مع قضية التجنيس، ما حدا بـ«لجنة مناهضة التجنيس» التعقيب على رفض الديوان الملكي تسلم العريضة ببيان لم تتجرأ الصحافة المحلية على نشره برغم ما يشاع عن وجود أجواء لممارسة حرية الرأي والتعبير. البيان خَطّأ التفسير الرسمي للمادة (29)، وذكر بأنها تبين بوضوح حق الأفراد والهيئات النظامية والأشخاص المعنويين في مخاطبة السلطات، وأن ما ورد في التصريح الرسمي بربط العريضة بالجمعيات الست التي تألّفت منها «لجنة المناهضة» هو قول مغلوط، إذ وقّعت عليها شخصيات وطنية واجتماعية معروفة بصفتها الشخصية. وبخلاف النظر عن الجوانب القانونية، فاللجنة تجد أن قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية خطيرة كقضية التجنيس يجب عدم حصر الحوار بشأنها بين السلطة ومجلس النواب، لما في ذلك من تجاهل لدور القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية ومواقفها، ما يحدِث ضرراً بمبدأ الحوار الوطني بين السلطة والشعب.
من جهة متصلة، صحيح أن وزير الداخلية أدلى بتصريحات سابقة عن نية وزارته مراجعة سياسة التجنيس، (بالمناسبة وردت على خلفية إعلان جهات رسمية كويتية عن تحقيقها مع ستة أعضاء من شبكة إرهابية كانت تخطط لتفجير معسكر «عريفجان» ومبنى أمن الدولة في الكويت، وقيل إن الشبكة لها صلة بأردني «متجنس بحريني» معتقل في البحرين، إذ قام بزيارة صديق له في الكويت قبل اعتقاله، والصديق يمثل المتهم الأول في شبكة التفجير بالكويت)، بيد أن الصحيح أيضاً أن موقف الديوان الملكي الأخير دلالة على قفل أبواب الحوار والاستمرار في نهج التأزيم والتطنيش الذي ينبئ بأسوأ الاحتمالات، وخصوصاً أن الحكومة تعاني من إشكالية إقناع المقربين منها بالتجنيس. كيف؟
التجنيس يتم لخدمة المؤسسات العسكرية، والذين يُجنسون يعتدون على المواطنين لأنهم مدللون من النظام
أحد كتاب الأعمدة ممن لا يعارض النظام السياسي على ما يبدو، ضج من «التجنيس» وطفح به الكيل، فعبّر عن غضبه وكتب: «إن التجنيس يتم لخدمة المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية المعلومة الثلاث، وإن من يُجنّسون يسيئون الأدب ولم يرْعَوا الضيافة ويعيثون في الأرض فساداً ويعتدون على المواطنين، كما أنهم مدللون من النظام، وفي الوقت الذي يبلغ فيه البحرينيون السبعين وفوق السبعين من السن وهم قابعون في شقق رثة في بيوت بائسة مهدّمة، من المهد إلى اللحد، تذهب البيوت الجديدة إلى المجنسين العاملين في تلك المؤسسات وكأنهم فوق المواطنين بسبب انتسابهم إليها».
لهذا، وبرغم احتلال القضية الدستورية الأولوية في أجندة المعارضة، إلا أن التجنيس تصدّر واجهة نشاطها في الآونة الأخيرة، فعقدت ندوة جماهيرية في 28 تشرين الأول/ أكتوبر رشح عنها تصريحات ومواقف تضمنت ما ذكره قيادي من جمعية العمل الوطني الديموقراطي («وعد»): «المعارضة أعلنت مجموعة من الأرقام، والنظام السياسي إلى الآن لم يرد عليها، الإحصاءات تشير إلى قفزة في معدل النمو السكاني بما نسبته 4.2%، إذ بلغ عدد المجنسين من 2002 إلى 2007 خمسين ألفاً». كما طالب أمينها العام بضرورة التراجع عن ملف التجنيس، وعوضاً عنه التفاوض على سياسة سكانية مقبولة من البحرينيين تحفظ لهم مصالحهم، وبيّن أن للتجنيس كلفة اجتماعية تتمثل في خلق الفرقة بين المواطنين وتسبب التأزم والمشكلات الأمنية، كما قدر كلفته الاقتصادية بما بين 150ــــ200 مليون دينار. من جانبه، قال الأمين العام لجمعية العمل الإسلامي: «انتشر الشعور بالخطر والسخط. التجنيس ليس أكبر القضايا لكنه أخطرها لتأثيراته الاجتماعية، وقوى المعارضة بحاجة إلى الجلوس دون حواجز أو انشغال بالقضايا الهامشية، فالمشكلة تكمن في تحويل المملكة إلى مملكة أمنية»، فيما أشار نائب كتلة الوفاق إلى أن التجنيس سياسي وغير قانوني، فهناك عدم التزام باشتراطات منح الجنسية. ويبدو أن التجنيس أصبح مشروع تكسّب غير مشروع. نائب برلماني سابق من المنبر التقدمي أشار إلى زيادة الاختناقات وتسارع المشكلات وتضخم موازنة الإسكان المتوقع وصولها إلى 55 مليون دينار في السنوات المقبلة، وتحويلات الأجانب تفوق ملياراً و400 مليون، وهذا يعد استنزافاً لموارد البلد، وخصوصاً بعد تزايد الحديث عن لجوء الحكومة إلى اقتراض 260 مليون دينار، مما يثير التساؤل عن الدافع وراء الحجم الهائل من الاقتراض؟ ولمصلحة من تذهب فوائد الدَّين العام التي يدفعها المواطن من قوت يومه.
في الخلاصة، تطالب المعارضة إجمالاً النظام بالشفافية، وفتح قنوات الحوار، وطرح أسباب مقنعة للتجنيس، لا سيما أن الحكومة تؤكد أن معدلات التجنيس طبيعية، بينما شواهد الحال والإحصاءات تشهد بمعدلات نمو غير طبيعية في عدد السكان، وبشجارات يومية تحدث بين أهالي الأحياء الأصليين والمجنسين. إلى هنا، وإذا ما استمر الموقف الرسمي على حاله، فلا أحد بمقدوره التكهن بموعد انفجار قنبلة التجنيس السياسي. فهل يعيد التاريخ نفسه وتُحكم البلاد أمنياً؟ وهل السلطة في مأمن من تداعيات هذا الوضع المتأزم؟
تستمر المعارضة في الكشف عمن يستفيد من وراء «التجنيس السياسي»، وتوسع محيط تحالفاتها حول قضية يجمع عليها كل المواطنين، آخذة في الاعتبار أن الوضع السياسي مريب وشبه مبهم. لقد نجح من خطط ونفذ «للمشروع الكارثة» في تشطير المجتمع وخلق حالة من عدم الاستقرار فيه، والأسوأ منه توليد حالة هجينة مطواعة ومدجّنة، لطائفة ثالثة من المواطنين، في ظل تآكل حقوق المواطن وقضمها ونهشها، وهو الذي سيعاني من الآن فصاعداً أنواعاً من الإذلال في مواطنيته. لذا لا عجب في القول إن «مشروع التجنيس» تمخض بسبب تعثّر مصداقية الحكم في إدارة مشروعه السياسي الذي ابتعد عن الحالة التعاقدية بأميال كبيرة.
* باحثة بحرينيّة