مصطفى بسيوني *جاء انعقاد المؤتمر القومي للسكان في مصر في مطلع حزيران/ يونيو على خلفية تصاعد أزمة الخبز وارتفاع الأسعار وتجاوز معدلات التضخم نسبة 21 في المئة، للمرة الأولى منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتحول تداعيات الأزمة الاقتصادية إلى ردود أفعال يومية أصبح التعايش معها صعباً.
وكان المؤتمر القومي للسكان هو المناسبة التي وجدها النظام لإعادة إنتاج خطابه عن الأزمة وأسبابها. وفي الخطاب المعتاد هذا، كانت أسباب الأزمة بعيدة دائماً عن السياسات التي يطبّقها، وكان التبرير الأشهر لديه للأزمة هو الزيادة السكانية، التي «تلتهم كل زيادة في الموارد والتنمية». وقد اعتاد النظام الاسترسال في توضيح المخاطر الناجمة عن معدلات الزيادة في السكان، والآثار المترتبة عليها، محملاً المسؤولية لهؤلاء الذين ينقصهم الوعي والثقافة، ومطالباً «بوقفة مصرية» للتصدي للزيادة السكانية.
إن مناقشة القضايا السكانية المختلفة، بما فيها معدلات الزيادة السكانية وآثارها هو أمر طبيعي ومطلوب في أي مجتمع. ولكن تحول المناقشة إلى محاولة دائمة لإدانة الشعب واتهامه بأنه سبب الأزمة، وتبرئة النظام وسياساته منها، هو ما يجعل هذه المؤتمرات مجرد مسرحيات هزلية لا يصدقها أحد. إنّ الخطاب الرسمي يزعم أنه بفضل سياساته منذ الثمانينيات، أمكن تثبيت الاقتصاد المصري في المرحلة الأولى، ثم إعادة هيكلته وفقاً لوصفة صندوق النقد الدولي. وانطلقت بعد ذلك معدلات النمو لتتجاوز 7 في المئة أخيراً، في إنجاز لا يكف النظام عن التباهي به. ولكن هذا النجاح الكبير لسياساته الاقتصادية أفسدته الزيادة السكانية المطردة التي التهمت النمو وحرمت المجتمع من الإحساس بالإنجاز الكبير.
حسناً! إلى أي مدى تتطابق الأرقام والبيانات التي يعلنها النظام نفسه مع هذا الخطاب؟ نحتاج هنا إلى مقارنة الزيادة السكانية بالزيادة في الإنتاج والموارد، لمعرفة مدى صدقية هذا الخطاب.
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، زاد عدد السكان في مصر من حوالى 41 مليون نسمة في مطلع الثمانينيات، إلى ما يقرب من 77 مليون نسمة في 2008، أي إن الزيادة الكلية في هذه الفترة كانت بنسبة تقل عن 90 في المئة. وتشير أيضاً بيانات الجهاز إلى أن معدل النمو السنوي للسكان انخفض تدريجاً في مصر من 2,8 في المئة في منتصف الثمانينيات إلى 1,87 في المئة في 2006، وهذه هي الإشارة الأولى ضد ذلك الخطاب، فالزيادة السكانية في تراجع بالفعل منذ عقدين.
التقرير الذي تقدمه وزارة التنمية الاقتصادية عن مؤشرات التنمية في ربع قرن يقدم لنا بيانات لا تحمل أي أزمة مقرونة بالزيادة السكانية. فحسب هذا التقرير، ارتفعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي من 22,5 إلى 731,2 مليار جنيه بزيادة نسبتها 3150 في المئة في الفترة من 1981 إلى 2007. وزاد عدد المشتغلين من 11,1 إلى 20,1 مليون مشتغل عن الفترة نفسها بنسبة زيادة 91.4 في المئة، كما زاد متوسط إنتاجية المشتغل من 2142.9 إلى 3592 جنيه بنسبة زيادة 67.6 في المئة.
لا تبدو الزيادة السكانية كارثية كما يصورها النظام. مؤشرات التجارة التي يقدمها التقرير أيضاً تحمل الدلالة نفسها، فقد ارتفعت الصادرات السلعية بنسبة 436.6 في المئة والصادرات غير البترولية ارتفعت بنسبة 990,9 في المئة في الفترة نفسها. وبعض البيانات في التقرير تحمل دلالة خاصة في علاقتها بالأزمات التي يعيشها المجتمع المصري، منها مثلاً إنتاج القمح الذي يرتبط بأزمة الخبز. فقد ارتفعت نسبة الاكتفاء الذاتي منه من 24 في المئة إلى 68 في المئة، أي بنسبة تغيير 178,8 في المئة. وارتفع إنتاج الإسمنت من 3,6 ملايين طن إلى 36,9 مليون طن، بنسبة زيادة 925 في المئة. أما الحديد فقد ارتفع إنتاجه من 300 ألف طن إلى 3,1 ملايين طن بزيادة نسبتها 933,3 في المئة. والبيانات الأخرى التي تخص باقي فروع الإنتاج تتراوح كلها بين نسب الزيادة نفسها، والتي كانت جميعها أضعاف الزيادة السكانية.
ليس هذا دفاعاً عن الزيادة السكانية أو كثرة الإنجاب، ولكن إذا كانت معدلات الزيادة في الموارد والإنتاج أضعاف الزيادة السكانية، وإذا كانت المعدلات السنوية للزيادة السكانية آخذة في التراجع بالفعل منذ سنوات، ولا تتجاوز الآن المتوسط العالمي، فإن الخطاب الحكومي يقع في تناقض مضحك عندما يحاول التفاخر بإنجازات النظام في التقارير الرسمية، مقدماً بيانات تبشر المصريين بالمن والسلوى ثم يتراجع سريعاً لأن «الزيادة السكانية التهمت كل شيء».
هناك أسباب أكثر وضوحاً تحرم المصريين من الإحساس بناتج عملهم. لقد جاء في بيانات الحكومة أن إنتاج حديد التسليح زاد بنسبة تزيد عشرة أضعاف على نسبة الزيادة في السكان، في الفترة نفسها، والتفسير الحقيقي لأزمة ارتفاع سعر الحديد أبعد ما يكون عن نظرية الندرة الناجمة عن زيادة السكان وثبات الموارد.
السبب الذي يدركه الجميع هو أن الذي استفاد من زيادة الطاقة الإنتاجية من الحديد هو أحمد عز، رجل لجنة السياسات بالحزب الوطني، والنائب بالبرلمان، والمقرب جداً من السلطة، والمحتكر لأكثر من 45 في المئة من إنتاج الحديد في مصر. الإسمنت أيضاً الذي عانى من التناقض نفسه في تضاعف الإنتاج وارتفاع السعر كان بسبب احتكار المجموعة الإيطالية للإسمنت لما يزيد على 40 في المئة من الإنتاج.
اللافت أن هذه الاحتكارات وغيرها جاءت عبر عملية الخصخصة التي استطاع خلالها المستثمرون الاستحواذ على الوحدات الإنتاجية للقطاع العام بأسعار زهيدة للغاية عندما بيعت بعض الشركات بأسعار لا تساوي حتى نصف قيمة الأرض المقامة عليها، والتي يعرض لبعضها تقرير الاتجاهات الاقتصادية الصادر عن مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية عام 2000. هناك أمر آخر يوضح من الذي استفاد من النمو وزيادة الإنتاج، ومن لم يستفد: كانت الدخول الناتجة من العمل في مصر تمثل 48 في المئة من إجمالي الدخل الوطني، بينما الدخول الناتجة من التملك تمثل 52 في المئة حتى مطلع الثمانينيات.
هذه النسبة تغيرت تدريجياً حتى وصلت الدخول الناتجة من العمل إلى أقل من 25 في المئة بالمقارنة بـ75 في المئة هي دخول ناتجة من التملك. هكذا إذاً توزع عوائد التنمية، في حين أن القيمة المضافة عن العامل في الصناعة التحويلية قد ارتفعت في الفترة من 1995 إلى 1999 من 1481 إلى 4113 دولار سنوياً، بينما انخفضت التكلفة الإجمالية للعامل في الصناعة التحويلية في الفترة نفسها من 2210 إلى 1481 دولار سنوياً، حسب تقرير البنك الدولي عام 2000.
إن عوائد النمو والطفرات الإنتاجية التي يتباهى بها النظام قد عرفت طريقها إلى المحتكرين والمتنفذين في السلطة، بعيداً عن الطبقات الفقيرة. تفيد دراسة عن الأجور للخبير بالمجلس القومي للأجور عبد الفتاح الجبالي بأن 48,5 في المئة من الأجراء في مصر يقعون ضمن شرائح الفقر المختلفة، وهو المؤشر الأكثر قسوة على مدى ضعف الأجور في مصر، ولكنها أيضاً الدلالة الأكثر وضوحاً على أن الذين يجنون ثمار النمو ليسوا هم من يزرعونها. ليس هذا فحسب، بل يتهمون بأنهم سبب الأزمة، بسبب حجة جاهزة ــ ولم تعد صحيحة إحصائياً ــ هي تكاثرهم السريع!
* صحافي مصري