رائد شرف لم نعرف في لبنان، منذ انقلاب عام ١٩٩٢، معركة انتخابية، اهتمّ فيها أهل بيروت (بيروت التي صُودرَت عام ٢٠٠٥) بنتائج معركة بعبدا وعاليه وكسروان والشمال.
اهتمّ أهل كل المناطق بمصير كل منطقة أوجد فيها «التيار الوطني الحر» مرشّحاً من مناضليه.

السخرية من «العونيّة»

وكان الجنرال يمتاز في تلك الأيام بماضٍ «نظيف». وكان، وهو العائد من المنفى يبدو، مشبعاً بالنظرة «الموضوعيّة» للأمور (أولها أمور زيف اللعبة الإعلامية المحلية). نظرة من جلس بعيداً عن صغائر الحياة السياسية اليومية في بلاد سياسة الصغار، وترفّع عن خوض السياسة ضمن السياق المعتاد للمزايدة الطائفية الذي تتبعه باقي الطبقة السياسية. وكان ذاك الشعار.
لم يعطِ الجنرال في حينه لأعدائه من المنتقدين سوى «المسخرة» السيكولوجية. فهم لا يمكنهم، بحكم موقعهم السياسي، انتقاده، في ظلّ الوجود السوري، على تبسيطيّة المعركة «العونية». معركة تمحورت لسنين حول نقد التدخّل الأجنبي السوري في شؤون البلاد، غير آبهة بتثقيف الناس عن أضرار الاأيديولوجيا الليبرالية (النيو ــ لبنانوية يسميها جورج قرم) التي كانت مسؤولة بجزء كبير عن مشاكلهم اليومية وقتذاك، وما زالت.
والسخرية «الحريرية» من شخص العماد عون تأخذ طبعاً سيكولوجياً (سيكولوجيا «بازارية»)، تركز على تحليل شخصيته وتحريف تفسير كامل أشكال سياسات تياره بحجة خدمة «طموح» الجنرال «الطامع» بالرئاسة الأولى. وهو منهج انتقاد يخدم «الحريريّين» أولاً، لأنه يُدخل النقاش السياسي في تفاهات تبعد الأضواء عن أخطائهم المتراكمة أبداً، وثانياً لأنّ طبيعة العلاقة التي كانت تُحاك بين العماد عون وجمهوره، هي علاقة كاريزما، لا غير.
فبعد الخروج السوري، انتهى أوّل نضالات «العونية». من كان من «جمهوره» ليتصوّر أنه سوف يتحالف يوماً ما مع حزب الله؟ تبعوه «لشخصه» قبل أن يتبعوا سياسته.
لكن هذه هي السياسة في لبنان، منذ اندلاع الحرب الأهلية. لقد تمّ القضاء منهجياً على كل ما يمكن أن يعطي مضموناً للحياة السياسية. أصبحت السياسة إمّا إثارة للنعرات الطائفيّة لتغطّي «أعمال» الطبقة السياسية القذرة، وإما كاريزما.

«طبقة وسطى»

إذاً، عاد الجنرال وعلاقة كريزما تربطه ببعض الناس. في بعض تفاصيل سياسته الانتخابية وخطاباته في حينها، أمكن لمجموعة من «المثقّفين» (ومنهم من يكتب في جريدة «الأخبار») أن يقرأوا عند الجنرال ما يبشّر بقيامه بخطوات على عكس التيار الطائفي السائد. سمّوا ظاهرته «الحالة العونية»، عن حذرٍ مرفق بشيءٍ من الاحترام، حيث تمّ تمييز «العونية» عن باقي الحركات الطائفية، «العصبية» التفسير عند مثقفينا. ويسار هؤلاء المثقفين أعطى «العونية» صفات «الطبقة الوسطى»، مغالاةً منهم في الأمل بحركة اجتماعية "جوهرها» غير طائفي يمكن أن تحرك الأمور نحو منحى غير طائفي.
وهنا يجب التنبيه إلى أنّ المثقفين المشار اليهم يُعدّون من ناس بيروت «الغربية» سابقاً، لذا وجب ذكرهم.
كانت النكسة الأولى لهؤلاء، ما سُمّي برنامج التيار الوطني الحر الاقتصادي. عوض عنها، تحالفه مع حزب الله، ثمّ مضى التيار بالالتزام في حرب صيف ٢٠٠٦.
هنا كان الأمل كبيراً، على الأقل بـ«التغيير»:. ولكنّ سرعان ما تطوّرت الأحداث سريعاً نحو الأسوأ، بما في ذلك خطاب وسياسة التيار الوطني الحر العامة.

في الخطاب

استخدم النظام الحريري القائم جميع أشكال التحريض، لجرّ حليف التيار الوطني الحر الإسلامي، إلى اشتباك ذي طابع طائفي.
بين أحداث يوم عصيان المعارضة، وأحداث الجامعة العربيّة، تمّ تنظيم "ردّ فعلٍ" طائفي على المسيرات «الوطنية» بقصد عزل فرقائها كلّ على حدة في إطارات تنافس طائفية يمكن «الأغلبية» الصغيرة أن يكون لها الغلبة فيها على من خرج مع أعوانه منتصراً من حرب تموز. فكانت بداية النزاع مع التيار العوني مع حرب نهر البارد. ويجب التنبّه هنا الى أنه لولا مسألة نهر البارد، لما دام وقتاً طويلاً الصراع الطائفي الذي كانت تبنيه الأغلبية.
جاءت الاستفادة من كلام السيد حسن نصر لله عن أنّ «المخيّم خط أحمر» لحشر العماد عون والتيار الوطني الحر في مأزق المزايدة العنصرية ضدّ الفلسطينيين، الشائعة في المنطقة «الشرقية» بحكم ماضي الحرب التي عاشتها تحت سطوة و«غسيل دماغ» الميليشيات.
والعماد عون ابن المنطقة الشرقية (وابن الجيش وتبن حارة حريك ولا تناقض في ذلك)، عاش عالم الشرقية طيلة أيام المحنة وتغذّى به. فوقع منذ اليوم الأول في فخّ التحريض على «المخيّم»، من دون أن يكون له «الرقّة» في التمييز بين السكان الفلسطينيين والمجموعة المسلحة التي احتمت في منازلهم.
هذه «الرقة» لا تكون سوى «بمعاشرة» الناس، الفلسطينيين هنا، المعنيين. كما هي حال السيد نصر الله في هذا الموضوع. هذه «الرقة» ضرورة لمن أراد أن يكون حاضراً على مستوى الوطن في كلّ شرحئه. وهذا ما كان يجب على العماد عون إدراكه.
كان يجب على العماد عون أن يقول، وبفخر، إنّ ما قاله نصر الله، هو حماية لأرزاق الناس، الناس التي لطالما لم يحمل أحداً قضية صعابها في هذا البلد.
وكان الناس الضحية دائماً في كل شيء تقرّر على مستوى «القيادات». وقد سبق للسيد نصر الله لمن يعرف ماضيه أن قال هذا الكلام، «دم الناس خط أحمر»، يوم أطلق الجيش النار على شباب حيّ السلم المتظاهرين للرغيف. هي رقة «المسؤول» في وقت كل القوى تجرّه فيه نحو التصريح الأسهل، الشبيه بتصاريح الآخرين، لإنقاذ نفسه قبل إنقاذ الناس.
كان هذا أول خطأ يرتكبه العماد عون، مقدماً إلى خصومه من السياسيين ما يستندون إليه من «منطق خطابي» يمكّنهم من مخاصمته بأرجحية فوز لمصلحتهم.

بعد «البارد» معركة المتن

ومعركة المتن الفرعية التي لحقت خير دليل وراء انجرار الجنرال إلى الخطاب الطائفي (وإليكم الجواب لماذا نظّمت المعركة بعد أشهر من اغتيال بيار الجميل).
تمحور كل خطاب المعركة حول من قتل «الفلسطيني» أكثر في اواخر السبعينيات.
كلام أحرج يومها حلفاء الطرفين من المنطقة «الغربية». وكانت الأرجحية في «التاريخ النضالي» الطائفي «للشيخ أمين» الذي تمكّن من جذب بعض ناخبي الجنرال، رغم فوز مرشّح الأخير. كان هذا أول استدراج نحو منطق الصغار لمن أزعج الحريرية عندما جمع سليمان فرنجية بعمر كرامي عشية انتخابات الشمال (يومها كانت الحريرية وحدها تعمل على وتر الطائفية)، وعندما اجتمع بسليم الحص في منزل آل الداعوق في قريطم، ومثّل غطاءً لمشروع وطني محتمَل.
والخطأ الثاني يومها، كان بالتخلّي عن مرشّح «حركة الشعب» وعن بيروت. فكان التكريس للمرة «الألف» لفكرة انتماء عاصمة الوطن إلى مالك «سعودي أوجي».
خطأ يتحمّل مسؤليته كل من التيار الوطني الحر وحزب الله، ونتحمل تبعاته نحن حتى هذه اللحظة (وكاتب هذه السطور مثلاً، رغم صغر سنه، عاش حياته سنين في بيروت أكثر من سعد وبهاء وأبو بهاء).
تحدّث القيّمون على الدعاية الحريرية وما زالوا، عن «طبيعة» الجنرال، و«خروجه عن طبيعته» في تحالفه مع حزب الله، لجرّه نحو المنطق «المسيحي السليم» الذي يقول بنبذ من ليس مؤيّد بشكلٍ آني لنظام الخدمات والدعارة ولشعار «قوة لبنان بضعفه».
هؤلاء الدعائيّون أنفسهم يتّهمون الآن عون بالتعصّب المسيحي في مطالبته بإصلاح نظام مراقبة رئاسة الحكومة. ولن يستمعوا إلى ردّه في هذه المسألة، والجمهور أيضاً لن يستمع لأنه هو، أي العماد عون، أصبح يتكلم من موقع «الجبهة المسيحيّة». ونستغرب من أين جاء بهذه الفكرة التي، إن كانت تدلّ على شيء، فهو المثابرة على عدم الأخذ بالحسبان باقي سكان البلاد من غير «المسيحيين».
كم يبدو شعار عودة الجنرال بعيداً اليوم.
ومن هنا يمكن التساؤل عن أسباب هذا الانجرار للتيار الوطني الحر نحو الخطاب والمنطق الطائفي «الخام»، الذي كان غريباً عنه طوال السنين الماضية.

أسباب بنيوية؟

قلنا إنّ نوعاً من «الرقّة» عند القيادة هي التي تحسن من تجاوب هذه القيادة مع المواضيع التي تعرفها «الرقة». ليس بإمكان قيادة سياسية، مهما كبرت خبرتها، الإحاطة بكل جوانب مجتمع ما. وتأتي هنا الاستعانة بخبرات الآخرين.
لن نقوم بالتكهن، كما يفعل البعض بقصد الأذى، حول من هو الأقرب والمؤثر في القرار السياسي في التيار الوطني الحر. سنكتفي بملاحظة عامة حول تكوين إدارات مؤسسات التيار الاعلامية، أي تلفزيون OTV وإذاعة «صوت الغد».
فقد قام الجنرال بتسليم كلتا الإذاعات لأشخاص يمكن القول إنهم حصّلوا تجربتهم الشخصية من المنطقة الشرقية.
وهذه خطوات، قرئت في المنطقة الشرقية بإيجابية واستحسان لصدق من أراد أن يصالح «النضالات» (قواتية وعونية) من دون ضم «الوسخين» في هذه النضالات (أي رجال «الأمن» والعمل الحربي).
وسرعة الترحيب بالصحافي جان عزيز في أوساط التيار خير دليل على ذلك. هي تعيينات يمكن وصفها بالرقة التي سبق أن تكلمنا عنها. لكنها تبقى ناقصة لمن يريد أن يجذب الوطن بجميع أبنائه. ومن هنا تأتي إشارتنا في بداية المقال إلى جمهور من المثقفين المتعاطف (سابقاً؟) مع العماد عون والتيار الوطني الحر. هم ناس، خبروا نضالات «الغربية» في الحرب الأهلية، بل جسدوها قبل أن تقتل فيهم الميليشيات وتُسكت أصواتهم.
«أغوى» رفيق الحريري القسم الأضعف منهم في الثمانينات والتسعينيات وبقي ما بقي من دون منصّات حزبية تؤطّر إنتاجهم الثقافي في مشروع سياسي فعال. ويمكن هنا التمثل بالدائرة المهنية الإعلامية (التي تضم كتاباً، وشعراء، وصحافيّين) لتيار «المستقبل»، مع الفرق أنّ الناس الذين نتكلّم عنهم لا يمكن اتهامهم بـ«الارتزاق».
إنّ سياسة وطنية «للتيار» لا يمكن أن تُبنى من دون مصالحة نضالات المنطقة الشرقية مع نضالات المنطقة الغربية، التي لا تختصر بمشروع «المقاومة» وأمن لبنان، بل تشمل ما حملته «الحركة الوطنية» في يوم من الأيام من مشروع إصلاحي للنظام السياسي (مع نقد دور «زعامات» الحركة السياسية في التفريط بهذا المشروع) وتخطٍّ للأمر للواقع اللبناني.
وهي الوسيلة الوحيدة المتينة رمزياً وفعلياً، والقادرة على قلب المعايير التي فرضتها الحريرية وحلفاؤها من الميليشيات على «الغربية» و«الشرقية» من تسامحٍ عام مع النهب والتكبّر على الفقراء ومع تحريض رجال الدين.
لقد برهنت التجربة أنّ الاتكال على حلفاء تقليديّين في كل منطقة لا يأتي للتيار بشيء، سوى بحرق مراكزه عند أول استحقاق «طائفي».
كما أنّ حلفه مع حزب الله، لا يوفر له غير جمهور الحزب نفسه، ولا ينفع وحده كنموذج أمام باقي المواطنين، فالإعلام المعاكس عنده جوابه على «ورقة التفاهم»: «حلف الأقليات»
ينبغي إذاً على العماد عون أن يحيط نفسه، وجمهوره المستحب، عن طريق إعلام التيار، بأشخاص من هذا الصنف. أشخاص يحسنون تجسيد هموم ومطالب فئات من المواطنين لا يطالها التيار عادةً، وإذا طالها، فبغير التحالفات مع قوى محلية مناطقية محافظة «ستختار طائفتها في حال نشوب حرب» (على حد قول أحدهم). على هؤلاء أن يخلقوا بين التيار والمواطنين، ديناميكية مطلبية جديدة، تؤثّر على التيار وتغيره بما يمكن أن يخرجه من المعارك الإعلامية مع صغار السياسة الطائفيين. هذا من جهة.
على صعيد آخر، وبالعودة إلى الخطاب السياسي وخطّته، فيجب التذكير بأنّ انتصارات عون الانتخابية حصلت في جوّ من النقاش والتصادم الوطني. فجمهور المتن صوّت لنواب التيار في المتن وهو يراقب تصريحات جنبلاط والحريري غير آبه بمصير الكتائب في منطقته.
وهذا دليل آخر على صوابية الخيار الوطني اللا طائفي بالرغم من صعوبته. فناس هذه البلاد، ولو تشدّد البعض من السياسيّين والإعلاميين والمثقفين على اعتبارهم مللاً أو طوائف أو «أهل» أو «عصبيات»، ما زالوا يميّزون بين «الخطأ والصواب»، إن أُعطيت لهم الفرصة في الخيار.
على العماد عون والتيار أن يفهموا ذلك ويستخلصوا منه العبر والسياسات المستقبلية، حتى لا يعدّوا يوماً من أسباب «الخطأ». وهم العارفون بنتائج المنطق الطائفي بعد ثلاثين سنة من التجربة.
على العماد عون أن يعود إلى «أصله» الوحيد الذي لا لبس عليه، والذي كثيراً ما انتُقد على خلفيته منذ حربه على الميليشيات في عام 1989 حتى «ورقة التفاهم»، وكثيرأً ما أعطاه النجاح: عليه أن يبقى نموذجاً ودليلاً وحجة لوجود خيار وطني شعبي آخر، جامع للبنانيين، لا طائفي وقاهر للطبقة السياسية المهيمنة. المباشرة بانتخابات حزبية جدية قد تكون خطوة أولى في هذا السبيل!

* كاتب لبناني