سعد اللّه مزرعاني *ما زال موضوع الحقوق العامّة والخاصّة للإنسان، يحظى باهتمام ومتابعة. وتعقد لهذا الغرض مؤتمرات وندوات ولقاءات، وتصدر أبحاث ومقالات. وعلى امتداد العالم، تنشط وتنشأ عشرات آلاف الجمعيات والهيئات. ولهذا الغرض أيضاً، تحصل حروب وغزوات، أو يجري التحضير للمزيد منها عندما تتوافر الفرص والإمكانات وتتهيأ الذرائع والأكاذيب والادعاءات! والسنة الحالية، هي سنة الذكرى الستين لإقرار «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، في العاشر من كانون الأول عام 1948. في ذلك العام، ووسط اندفاعة متصاعدة لـ«الحرب الباردة»، أقرّ ذلك الميثاق ممثلو 58 دولة كانت تمثّل، آنذاك، الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وكان قد صدر قبل ذلك، بعد أشهر، قرار الاعتراف بدولة إسرائيل. وبعيداً عن القيم التي حفزت، لدى البعض، «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» أو تلك التي «تسامحت» مع قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين (عملياً دولة واحدة)، فكانت تقف وراء صدور هذين القرارين دوافع أملاها استمرار الصراع على العالم وعلى ثرواته وعلى مواقعه الاستراتيجية، بعيداً عن أية قيم أو مبادئ إنسانية أو أخلاقية.
هذه المسألة الأخيرة هي التي مثّلت لبّ المداخلة المتحسّرة التي قدمها أحد العاملين الأساسيين في بلورة الإعلان العالمي وإقراره. إنه السفير آنذاك، والممثل لبلاده فرنسا في المنظمة الدولية، ستيفان هيسيل. لقد تجاوز هيسيل الآن، أعوامه التسعين، وهو ما زال يتمتع بطاقة مدهشة على الكلام والعمل وحضور الجلسات وتقديم المتحاورين، وبلهجة وشخصية، عموماً، تذكر بطريقة زعيم فرنسا السابق وقائد مقاومتها الجنرال شارل ديغول. كان هيسيل في الثلاثين من عمره حين كتب النص النهائي للإعلان. وها هو يعلن الآن بعد ستين سنة: «لقد كتبنا فصولاً وعبارات جميلة، لكن الواقع كان غير ذلك». إلا أنّ الرجل لا ييأس، وهو، سواء في المقاومة ضد النازيين عندما كان شاباً، أو في مراحل عمره المديد اللاحق، قد واظب على الدفاع عن حقوق كل أولئك الذين تعرض حقهم للانتهاك، ودائماً من وجهة نظر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
مناسبة كلام هيسيل واللقاء به كانت انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في مدينة نانت الفرنسية. وقد جمع هذا اللقاء نحو 300 شخصية سياسية وفكرية وعاملة في المجالات المتنوعة لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، إلى حقول وعناوين عديدة عن العنصرية والهجرة والحقوق الاقتصادية والعولمة، إلى مواضيع أكثر حصرية كالندوة التي شاركت شخصياً فيها بشأن «حقوق الإنسان في العالم العربي، تجارب ونماذج»، ارتباطاً بسياسات الدول والأنظمة، وبالقضايا الكبرى المطروحة في منطقة الشرق الأوسط قبل الاحتلال، والوضع في فلسطين...
وكما ذكرت في البداية، لجهة الصراع بين القيم والمصالح (أي بكلام آخر بين المصالح الفئوية والمصالح العامة وهذا هو الأصح)، وحيث إنّ السلطات المحلية في مدينة نانت هي التي تولت استضافة الوفود، فقد كان الحضور الرسمي قائماً وربما قوياً أيضاً. وفي لقاء مسبق (عشية افتتاح المؤتمر) أجابت وزيرة الشؤون الخارجية في الحكومة الفرنسية عن سؤال كان يفترض أن يتناوله المؤتمر، نظراً لأنها هي التي ستمثل الحكومة الفرنسية في الافتتاح، بشأن الحضور السوري في 14 تموز. وكان على الوزيرة المكلفة أيضاً حقوق الإنسان في الحكومة الفرنسية، أن تبرر أسباب دعوة الرئيس السوري بشار الأسد إلى احتفالات 14 تموز والقمة المتوسطية.
جاء الجواب مكرراً: لقد وجهنا الدعوة للرئيس السوري لأنه «ساعد في انتخاب رئيس في لبنان، ولأنه باشر مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل». هذه المبررات لا علاقة لها بالممارسات السورية الرسمية المشكو منها حيال المعارضين السوريين الذين يجب أن يحبطوا مرة جديدة، إذا كانوا يراهنون على تقدم المبادئ على المصالح، في سياسة الدول الأوروبية، وأساساً في السياسة الأميركية (تُراجع، بهذا الصدد أيضاً، تجربة قوى 14 آذار في لبنان، وتحديداً منذ بدء اللقاءات والاتصالات السورية ــــ الأميركية... إلى 7 و8 أيار الماضي).
ومع ذلك، ليس هذا هو الجانب الأكثر خطورة في الموقف الفرنسي الذي أعلنه الرئيس الفرنسي وكررته وزيرة حقوق الإنسان والشؤون الخارجية في حكومته السيدة راما ياد. الواقع أنّ الجانب الأخطر هو اعتماد إسرائيل كمرجعية في دعوة أو في عدم دعوة هذا الطرف أو ذاك من الأطراف العربية. إنّ إسرائيل التي امتنعت عن تنفيذ 400 قرار وبيان وتوصية مبادرة عن الهيئات الدولية، والتي ما زالت تحتل، إلى الآن، أراضي في سوريا ولبنان وفلسطين، وهي التي تواصل عملية تصفية مجرمة ضد الشعب الفلسطيني، سياسية وجسدية... إسرائيل هذه ليس هناك، للأسف، من يسأل السيد ساركوزي عن سبب دعوتها، ناهيك عن زيارتها وإغداق المدائح عليها بوصف نشوئها «أنبل حدث في القرن العشرين»!
يتوغل البرنامج المعد لمؤتمر نانت في قضايا جزئية قياساً إلى قضايا الاحتلال والنهب وعدم تنفيذ القرارات الدولية. وفي امتداد ما تقدم ذكره، يتبلور مفهومان للحقوق: واحد جزئي للحقوق الفردية، وآخر شامل لحقوق الشعوب والأمم، تدفع الدول باتجاه الحقوق الأولى، الحقوق الجزئية، وتحاول صرف الأنظار عن الحقوق العامة.
وكان التاريخ المعاصر شهد صراعاً على الأولويات. أطلق لينين بعد ظفر حزبه بالسلطة في روسيا، إعلان حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. كان ذلك جزءاً من محاولة إضعاف الدول الرأسمالية الاستعمارية التي ناصبت ثورته العداء ونظمت ضدها حرب تدخل خارجية.
أمّا شعار الدفاع عن حقوق الأفراد فقد استخدمته القوى الرأسمالية كجزء من نصيبها من «الحرب الباردة» التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية (1939ــــ1945)، وذلك للضغط على الاتحاد السوفياتي والدول التي انتقلت إلى فلكه السياسي والاجتماعي بعد تلك الحرب.
لقد اختارت القوى الرأسمالية ــــ الاستعمارية نقطة ضعف في النظام الاشتراكي الجديد، وحاولت من خلالها النفاذ إلى قلب هذا النظام من أجل إسقاطه بوصفه نظاماً يطحن الحريات الفردية والسياسية والاقتصادية والروحية.
في محاولة للربط ما بين حقوق الأفراد وحقوق الشعوب، ومن ضمن جهود لا تكل لمناضلين حقيقيين صادقين، تتواصل صرخات ودعوات ونداءات واستنتاجات، بشأن صيغ النضال وفعالية هذه الصيغ. البعض يركز على مجالات محددة، والبعض الآخر على مجالات أخرى. إنّ الصحيح هو الذهاب إلى الأشمل في أولوية تعود لتطرح نفسها بقوة عندما يلقي العالم بثقله على فقراء جدد، كما كان يحذر القائد الثوري الفذّ غيفارا.
ويرتفع هنا صوت مناضلون ومناضلات عرب، من شمال أفريقيا بشكل خاص. يدوّي صوت رئيسة الاتحاد العالمي لحقوق الإنسان المحامية سهير بلحس من تونس، في خطبة في الجلسة الافتتاحية. كما لا يكل البروفسور سمير أمين في إلحاحه على ضرورة استنهاض شعوب العالم الثالث على أساس برنامج يجمع ما بين التحرر والتقدم الاجتماعي والديموقراطية.
وفي اللقاء المخصص لبحث الوضع في البلدان العربية، كما في اللقاء الحواري الطويل الذي ضم الفيلسوف الفرنسي جورج لابيكا والدكتور سمير أمين والأستاذ والمستشار في جامعة نانت الدكتور علي السكة (مغربي الأصل) إلى آخرين، ناقشنا ثغرات النضال الشعبي في الوضع العربي الراهن، وكان تركيز على غياب البديل التحرري الديموقراطي.
وجرى بشكل مطول تناول القوى المواجهة للمشروع الأميركي وللعدوان الصهيوني. وطرح مشاركون غربيون أسئلة عن العلاقة بين الدين والسياسة في الوضع العربي الراهن. وطرحت أسئلة مهمة أيضاً عن الصراع الاجتماعي ومدى تبلوره وطبيعة قواه. وبرزت الحاجة، مرة جديدة، إلى نقاش عربي لهذه المسائل.
تبقى النقطة الأخيرة، وهي نقطة محزنة بكل ما في الكلمة من معنى، وهي أن التظاهرات الدولية باتت تفتقر إلى الحضور الفلسطيني، وإن كانت فلسطين حاضرة في العديد من المداخلات، وكأنما العالم بات معتاداً على مأساة الشعب الفلسطيني، وكأن تضحيات هذا الشعب الهائلة وبطولاته المدهشة باتت أمراً يتعلق فقط بمشروع الرئيس الأميركي لإنشاء دولتين... وكأن الانقسام الفلسطيني وغياب البرنامج الكفاحي لمواصلة حمل قضية هذا الشعب، بات قدراً لا يُرد!
* كاتب وسياسي لبناني