صباح علي الشاهر *المسيء؟
التيار الصدري يعيش الآن أدق أوقاته وأحرجها، فالوقائع اليومية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه فقد المبادرة، وأنّ أفضل ما يمكن أن يفعله الآن هو تقليل الخسائر، ومنع الانهيار. لقد استهدفت معاقله في البصرة والديوانية والكوفة ومدينة الصدر والشعلة، وأخيراً وليس آخراً في محافظة العمارة (ميسان). والغريب أن المسيئين ومن يُسمّون بالخارجين عن القانون تمكنوا من الخروج من المصيدة، أي لم يصبحوا داخل القانون بل ما زالوا خارجه! ولكن سلطة القانون كانت تتعقب نمطاً آخر من الناس، هم بالتحديد أولئك الذين يناصبون المحتل العداء، ويجاهرون باختلافهم مع الحكومة.
والأكثر غرابة أن قيادة التيار لم تتخذ أي موقف ضد هذه الهجمة تحدّ من خسائرها، حتى لا نقول ترد عليها. كان الموقف الذي اتخذته قيادة التيار مثيراً للشفقة، إذ أعلنت تأييدها لعملية «بشائر السلام»، وطالبت أعوانها بتقديم أسلحتهم والتعاون مع الحملة، ودعت لتكوين فصائل خاصة مهمتها محاربة الأميركيين حصراً! وللعلم فإنّ الحملة تجري بقيادة أميركية تحديداً، وبإسناد شكلي من حكومة الاحتلال، ليس فقط في مدينة الصدر، بل حتى في العمارة. فكيف يستقيم هذا الموقف مع موقف تكوين فصائل مسلّحة مهمتها محاربة الأميركيين وقوات الاحتلال؟ المفارقة أن القوى الضاربة في التيار تُنحر وتُصفّى، والتيار يعلن عن تكوين فصائل مهمتها محاربة المحتل حصراً، فممن ستتكوّن هذه الفصائل؟ وإذا كان مسلّحو التيار يُقتلون ويطاردون الآن، ويُجبرون على تسليم أسلحتهم، فكيف يمكن لأي عضو في التيار بعد الآن أن يحمل السلاح إذا كانت قيادته ليس فقط لا تحميه بل تطلب منه التسليم للعدو.
ثمة موقف يندرج ضمن الاستراتيجية، ولا يندرج بأي حال من الأحوال في التكتيك، ألا وهو الموقف مما يجري في البلد الآن. وعلى ضوء تحديد هذا الموقف الأساس، تتحدّد كل المواقف الأخرى. لا شكّ في أن التيار يعرف أن البلد محتلّ، وأنه ضد الاحتلال قطعاً. لكنه منذ انخراطه في ما يُسمى بالعملية السياسية أدخل نفسه في مفارقة مدهشة. الذين يؤرّخون لهذا المنعطف يُشخّصون أنّ هذا التوجه ظهر لدى التيار بعد حرب النجف، زمن حكومة علاوي ووزير دفاعه حازم الشعلان. وقتها كان رأس التيار ورأس قائده مطلوباً. هل انهزم التيار في هذه المعركة أم صمد؟ هل كوفئ بدخوله إلى العملية السياسية، أم أجبر على الدخول فيها بفعل الضغط الذي سُلّط عليه، ليس عسكرياً فقط بل بأشكال متنوعة، ليس بعيداً عنها موقف المرجعية الذي عدّه الكثيرون من المتابعين مُلتبساً، لكنه بالواقع كان منسجماً مع نفسه، ووفياً لتشابك العلاقات التي تتحكم بأمور المرجعية... فهل كان دخول العملية السياسية استحقاقاً أم طعماً؟ ربما أحداث هذه الأيام تجيب عن مثل هذا التساؤل.
لقد أفرزت حرب النجف جملة معطيات، منها دخول التيار الصدري إلى الانتخابات، ودخوله في عملية التقاسم الطائفي، وحصوله على بعض الوزارات الخدماتيّة وبعض الوظائف، وقيل أيضاً حتى حصته من البنزين والدعم المادي.
لقد فعل التيار ما فعلته الأحزاب الأخرى: سيطر على بعض الدوائر وأملاك الدولة، وجعل منها مقرات له ولمنظماته، وانساق إلى التهيج الطائفي، وبالأخص بعد تفجير ضريحي الإمامين العسكريين في سامراء، وانشغلت بعض عناصره في عملية الكر والفر، والقتل المتبادل، والتهجير المتقابل مع من كانوا معه في خندق واحد، وابتعد عن حلفائه السابقين، وهم كل القوى المعارضة والمقاومة للاحتلال، وحاول أن يحدد للناس الذين أرادوه حامياً لهم، نمط الحياة التي ينبغي أن يحيونها، بدءاً من الملبس، وانتهاءً بما يُقال ويُعمل تطبيقاً لشعار أسلمة المجتمع. وكان الخصوم يراكمون تسجيل الأخطاء، يتصيدونها ويفتعلونها أحياناً، بانتظار الوقت المناسب. كانت الإشارات كلها تُشير بوضوح إلى أن الذين تحالف معهم التيار أثناء الانتخابات ليسوا حلفاء، بل خصوم شرسون، سوف لن يرحموا التيار عندما تحين الفرصة، وقد حانت.
خصوم التيار الصدري ماضون في نهجهم، ليس لتحجيم التيار بل لإنهائه. إنّهم يسيرون خلف الجندي الأميركي وأمامه، خدمة لهدف بات قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، فماذا فعل ويفعل التيار الصدري؟ ما هو الموقف العملي، الواضح والمحدَّد، الذي يستطيع فيه أبناء التيار الصدري تغيير المعادلة، وقلب الطاولة على اللاعبين؟
من يواجه الاحتلال ويقاومه لا يفكر بمكاسب آنية لا يستفيد منها سوى من يُنتدب لها. الحقيبة الوزارية والمقعد النيابي في ظل الاحتلال قيد، لا يقيّد شاغله فقط بل يقيد من يمثّله، ويمنعه، شاء أم أبى، من أن يكون مقاوماً، حتى بالكلام. وتلك حقيقة لا يُطلب إثباتها ولا تحتاج إلى برهان.
* كاتب وصحافي عراقي