بين خزعبلات التاريخ الاستعماري والمبالغة في تأثير المسيحيّة
ياسين تملالي
جيلبار مينيي (1) مؤرخ فرنسي نُشرت له مؤلفات عديدة عن الحركة الوطنية الجزائرية وكان، مع محمد حربي وبنيامين ستورا، في طليعة المؤرخين الرافضين لقانون 24 شباط / فبراير 2005 الممجِّد للحقبة الاستعمارية باسم «نسبية تاريخية» مبتذلة. وبسبب هذا الاختصاص، قد يكون مؤلَّفه الأخير، «جزائر الجذور» (دار البرزخ)، مفاجأةً للقارئ، فموضوعه ليس نشأةَ حزب الشعب ولا التنظيم الداخلي لجبهة التحرير ولا سوسيولوجيا الاستعمار الفرنسي. موضوعه هو تاريخ الجزائر من «العصر النيوليتي إلى الفتح الإسلامي» في القرن السابع الميلادي.
ولا يتعدى الأمر في الحقيقة أن يكون نصف مفاجأة، فالكتاب ليس تأريخاً جديداً لجزائر ما قبل الإسلام. موضوعه الرئيسي هو «البحث عن أسلاف الجزائريين الحاليين»، لا لكشف الانتماء العرقي لهؤلاء، ولكن لاكتشاف رواسب ماضيهم في تاريخهم الإسلامي والمعاصر.
يقول الكاتب في حوار نشرته يومية Le soir d’Algérie شارحاً ميلاد مشروع «جزائر الجذور»: «تفتقتْ في ذهني فكرة مفادها أنه ليس بوسعنا أن نؤرخ لهذا البلد دون أن نحيط بكل هذه القرون التي تمخضت عن الأمة الجزائرية في صورتها الحالية. وبعبارة أخرى: علينا، كي نفهم المنتهى، أن نعرف البداية».
وترى دراسة مينيي طريقاً وسطاً بين خزعبلات التاريخ الاستعماري ـــــ الملحّة على «سطحية تعرب» البلاد والمبالغة في وصف تأثير الحكم الروماني والديانة المسيحية فيها ــــــ وما يمكن تسميته «الخزعبلات المضادة للتاريخ الرسمي» التي تكاد تنكر أن يكون للبلاد ماضٍ قبل الفتوح العربية وتصوّرُها قبل انتشار الإسلام فيها ـــــ كما يصوّر التاريخ الديني شبهَ الجزيرة العربية في «الجاهلية» ـــــ وكأنها قفر معزول أمضى أهله وقتهم في التناحر قبل أن يهتدوا إلى الدين الحق.
هذا التاريخ الرسمي، يقول مينيي، ليس أكثر من ردّ عاطفي على التاريخ الاستعماري، فهو إذ يملأ ثُغره يعوّضها بثُغر أخرى ويجعل من الدفاع عن حضارة الجزائر الإسلامية مطيّة لتجاهل كل ما عداها: «ليست أبرز مساوئ الاستعمار في أنه أوقف عجلة التطور التاريخي. أبرزها في أنه أجبر المستعمَر على سلوك درب هذا التطور عكس الاتجاه، أي إلى الوراء»، يقول الكاتب في حواره مع Le Soir d’Algérie مستشهداً بمقولة مأثورة للمؤرخ المغربي الكبير عبد الله
العروي.
وبسبب طابعه التحليلي، لم يأتِ «جزائر الجذور» في شكل سرد وصفي. صحيح أن كلا من فصوله ـــــ كما تدل على ذلك عناوينها ـــــ يتناول إحدى الحقب السابقة للإسلام، إلا أنه يتطرق إليها من خلال إشكالية تاريخية معينة مثل مدى «رومنة» الجزائر في القرون الأولى بعد الميلاد وطبيعة العلاقات السياسية والثقافية بين الأمازيغ ومملكة قرطاج الفينيقة...
وقد ركّز مينيي دراستَه للاستعمار الروماني على مميزاته السياسية والاقتصادية. لم يكن الحكم الروماني عنصرياً بالمعنى الحديث، يقول. فقد كان لسكان الشمال الأفريقي حق المواطنة الرومانية، والدليل على ذلك أن بعض الأباطرة كانوا أمازيغ (كاراكالا) كما كان بعضهم الآخر عرباً (فيليب العربي). هذا هو الفرق بينه وبين الاستعمار الفرنسي (1830-1962) الذي كان قائماً على الميّز العنصري: ألم يحرم كل «الأهالي» باستثناء اليهود حق الحصول على الجنسية الفرنسية؟
وكرس الكاتب الفصل المخصَّص للدولة القرطاجية في أفريقيا (تونس الحالية) ونوميديا (شرق الجزائر) لبحث إشكالية علاقات الأمازيغ بها. حارب أسلاف الجزائريين قرطاج ـــــ بل وتحالفوا في ذلك مع روما كما فعل أحد ملوكهم الكبار، ماسينيسا. لكنهم، في الوقت ذاته، كوّنوا الجزء الأكبر من جيوشها، وكان خيّالتهم رأس حربة فتوح هنيبعل في أوروبا. كما أنهم جعلوا من لغتها إحدى لغات الإدارة إلى جانب اللاتينية والأمازيغية.
وقد كانت الفينيقية منتشرة في نوميديا حتى القرن التاسع، بل ويذهب أحد الباحثين في ميدان الألسنيات المغاربية (2) إلى اعتبار محكية بعض المناطق الجزائرية الشمالية أحد فروعها. وقد تكون إحدى أهم نتائج التأثير الثقافي القرطاجي، يضيف مينيي، هي تحضير الميدان لانتشار العربية في أوساط الأمازيغ بحكم أن الفينيقية هي أيضاً لغة سامية.
وتعدّ هذه التذكيرات دحضاً منهجياً لبعض القراءات اللاتاريخية لماضي شمال أفريقيا.
هذه القراءات كثيراً ما تقدم الإمبراطوريات القديمةَ في شكل دول مؤسسة على الانتماء العرقي أو القومي لا على الولاء السياسي. والحقيقة أنه لا قرطاج ـــــ ولا روما ولا بيزنطية ولا طبعاً الإمبراطورية الإسلامية ـــــ كانت دولاً قومية، فالدول القومية وليدة العصر الحديث، مثلها في ذلك مثل ظاهرة الاستعمار وما رافقها من إيديولوجيات عنصرية.
وعلى عكْس بعض الباحثين الفرنسيين، لا يرجع اهتمام مينيي بجزائر ما قبل الإسلام إلى رغبته في التقليل من تأثير الديانة الإسلامية في المنحى الذي اتخذه مسار البلاد منذ القرن السابع، فـ«جزائر الجذور» ليس سوى الجزء الأول من ثلاثية موضوعها التاريخ الجزائري حتى الاحتلال الفرنسي. كما أنه يفند الكليشيهات التي تزعم أن الإسلام لم ينغرس في الشمال الأفريقيي بغير قوة السيف. هناك سببان آخران لسرعة انتشار الإسلام النسبية، يقول المؤلف. أولهما رغبة الأمازيغ في التخلص من الحكم البيزنطي الذي أثقل كاهلهم بالضرائب، وثانيهما أن معظمهم كانوا يدينون بديانة توحيدية هي المسيحية.
* كاتب وصحافي جزائري


(1) من مؤلّفات جيلبار مينيي عن التاريخ الجزائري إبان الاستعمار الفرنسي «الجزائر: الحرب العالمية الأولى والربع الأول من القرن العشرين» (1981) و«التاريخ الداخلي لجبهة التحرير الوطني» (2002) و«جبهة التحرير الوطني: الوثائق والتاريخ» (2004، بالتعاون مع محمد حربي).
(2) الباحث الألسني الجزائري عبدو الإمام في Le maghribi, alias el darija (اللغة المغاربية أو ما يسمى بالدارجة)، دار الغرب، الجزائر، 2003.


العنوان الأصلي
L’Algérie des origines: du néolithique à l’avènement de l’islam

الكاتب
جيلبار مينيي

الناشر
دار البرزخ (2008)