إعداد: علي شهاب *■ المساعي السياسية

تسعى الحكومات الأوروبية منذ عام 2003، بدعم من الولايات المتحدة، إلى بلورة صفقة شاملة مع إيران؛ تتنازل إيران في إطارها عن عناصر ضمن نشاطها النووي من المحتمل أن تؤدي إلى إنتاج السلاح النووي. من أجل ذلك اقترحت الحكومات الأوروبية على طهران في صيف عام 2005 رزمة تقديمات ، تضمنت التعهد بمساعدة إيران في الإطار التكنولوجي والاقتصادي في مقابل التزامها بعدم تطوير السلاح النووي، ووقف نشاطها في تخصيب اليورانيوم، ووقف استخراج البلوتونيوم وبناء مصنع لإنتاج المياه الثقيلة. إلا أنّ إيران رفضت الاقتراح الأوروبي وتوقفت المفاوضات في هذا الموضوع في آب 2005.
ومنذ انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً لإيران في حزيران 2005، واستبدال عدد من المسؤولين الأساسيين في الحكومة الإيرانية وفي الطاقم المفاوض في الموضوع النووي، برز تصلب لدى الإيرانيين، على الأقل في أسلوب المفاوضات، إذا لم يكن في محتواه.
ففي حزيران من عام 2006، عُدِّل الاقتراح الأوروبي وقُدم إلى إيران كرزمة «العصا والجزرة». وعلى خلفية الصعوبة في التوصل إلى اتفاق في مناقشات مجلس الأمن بخصوص فرض عقوبات على إيران، حصل تغير أيضاً في شكل المحادثات معها، فرزمة المقترحات لم تقدم من الحكومات الثلاث الأوروبية، بل من ست دول، الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، فرنسا والصين)، وألمانيا. وأعلنت الولايات المتحدة أيضاً أنها مستعدّة للانضمام مباشرة إلى المفاوضات إذا علّقت إيران تخصيب اليورانيوم. لكن انضمامها لم يتحقّق، لأن طهران رفضت تعليق تخصيب اليورانيوم.

رزمة المقترحات

كان يفترض برزمة المقترحات أن تحرك المفاوضات بين الأطراف، إلا أن إيران أعلنت أنها ترى في الرزمة جوانب إيجابية، لكنها لا توافق على تعليق تخصيب اليورانيوم من دون قيد زمني، ولذلك توقفت المفاوضات في بدايتها. مع ذلك اقترحت إيران، من أجل عدم فرض عقوبات عليها، تعليق تخصيب اليورانيوم لعدة أسابيع والدخول في مفاوضات تتناول رزمة المقترحات.
وكما هو كمعروف، تتضمن رزمة المقترحات العناصر التالية:
* لإيران الحق في استخدام الطاقة النووية للحاجات السلمية. والاستعانة بالدول الست في البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك بناء مفاعل المياه الخفيفة.
* تعلق إيران النشاطات المتعلقة بتخصيب اليورانيوم من دون قيد زمني، والوكالة الدولية للطاقة الذرية تفحص تنفيذ التعليق. التعليق هو شرط لأي صفقة.
* تستطيع إيران في المستقبل تخصيب اليورانيوم على أراضيها، لكن فقط بعد أن تحدد الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل مؤكد أن برنامجها النووي يهدف للأغراض السلمية، وأنه ليس في إيران أي نشاطات أو مواد لم تعلنها. علماً بأن منح إمكان تخصيب اليورانيوم لإيران يتطلب أيضاً مصادقة مجلس الأمن. هنا يزعم الأميركيون أن عملية الفحص وكسب الثقة تحتاج إلى سنوات طويلة.
* تحصل إيران على الوقود النووي للمفاعلات بطريقتين: المشاركة في تشغيل منشأة تخصيب في روسيا تقوم بتخصيب اليورانيوم لها، أو الحصول على الوقود النووي بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
* تحصل إيران على تقديمات اقتصادية وتكنولوجية، كضمها إلى منظمة التجارة العالمية، ويقدم لها الاتحاد الأوروبي المساعدة على تطوير قطاع الطاقة. كذلك يصبح باستطاعة طهران شراء قطع للطائرات المدنية من إنتاج الولايات المتحدة، فضلاً عن رفع القيود على استخدامها تكنولوجيا أميركية في الزراعة وأمور أخرى.
* إذا رفضت إيران هذه المقترحات، تدرس الدول الست فرض عقوبات اقتصادية وسياسية.
في الظاهر، تكونت ظروف عدة تُسهم في إنجاز صفقة شاملة مع إيران:
أولاً، التهديد العسكري العراقي لإيران. وإذا كان يمكن القول في السابق، إن التهديد العراقي هو الدافع الأول لقرار إيران تطوير برنامج نووي وآخر عسكري، فإن طهران الآن بعيدة عن هذا التهديد.
ثانياً، بدل التهديد العراقي، ارتفع مستوى التهديد الأميركي لإيران. الولايات المتحدة في نظر النظام الإيراني تهديد استراتيجي. فهي تبذل كل ما باستطاعتها لكبح القوة العسكرية الإيرانية، والمس بتطورها الاقتصادي، وعزلها سياسياً، وجعلها تواجه تحدياً أيديولوجياً وثقافياً لإسقاط النظام. وتعتقد إيران أنه من أجل تحقيق هذه الأهداف قد تتخذ الولايات المتحدة إجراءات عسكرية ضدها، والسيناريو المعقول جداً في هذه الحالة هو الهجوم على المنشآت النووية. تحقيق صفقة شاملة في المسائل الخلافية قد يقلص إلى حد كبير من التهديد الأميركي، حتى لو لم يُزَل تماماً.
ثالثاً، رزمة «العصا والجزرة»، التي قدمت إلى إيران، ذهبت بشكل بارز باتجاه مطالبها. فالرزمة تعترف بحق إيران بتطوير برنامجها النووي، والسماح لها بتخصيب اليورانيوم ضمن أراضيها، بقيود محددة، وبشروط بعيدة المدى، وتضمن لها تقديم المساعدة التكنولوجية، بما في ذلك ضمن الإطار النووي. القبول بالاقتراح واستئناف العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة يمكن أن يعطيا رافعة كبيرة للاقتصاد الإيراني. أكثر من ذلك، منح الموافقة لإيران لمواصلة البرنامج النووي لحاجات سلمية، يبقي بيديها، على الأقل نظرياً، إمكان الالتفاف على التزاماتها ومواصلة تطوير برنامج عسكري بالسر.
إلا أنه يواجه هذه الاعتبارات الموقف الأساسي للنظام الإيراني من المسألة النووية ومسألة العلاقات مع الولايات المتحدة. في نظر القيادة الإيرانية، الحصول على السلاح النووي هو مصلحة استراتيجية بالدرجة الأولى. وطهران بحاجة إلى هذا السلاح قبل كل شيء لردع الولايات المتحدة، وربما أيضاً أعداء محتملين آخرين.
في الوقت الذي لدى إيران ردع دفاعي معقول لخصومها، وفي الوقت الذي تقلص فيه التهديد الروسي بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي واختفاء التهديد العراقي، فإنه لا يوجد لديها رد كاف على التهديد الأميركي. لذا فإن سلاح الدمار الشامل، وخصوصاً السلاح النووي، في نظر إيران هو رد مناسب على تهديد الولايات المتحدة وعنصر أساسي مطلوب لها من أجل بسط سيطرتها في منطقة الخليج والشرق الأوسط وبناء موقعها كقوة عظمى إقليمية.
يمكن الافتراض، أنه لهذه الأسباب يوجد توافق واسع في القيادة الإيرانية، بأنه يجب على إيران مواصلة مساعيها للحصول على السلاح النووي، رغم الضغوط التي تمارس عليها. وعلى ما يبدو يوجد حتى في الجمهور السياسي الإيراني تأييد بارز للاستمرار في البرنامج النووي، وإذا حصل سجال في الموضوع، فهو سجال في التفاصيل التكتيكية أكثر مما هو سجال استراتيجي.
إذاً نتيجة المصالح الاستراتيجية الإيرانية وضرورة حصولها على السلاح النووي، فمن المعقول جداً الافتراض أن في المستقبل القريب طهران لن تتنازل عن خيار الحصول على هذا السلاح.
ينبغي إيجاد مجموعة عوامل كي تكون إيران مستعدة لصفقة شاملة، تتنازل ضمن إطارها عن سعيها إلى السلاح النووي. أحد الأمثلة على هذه العوامل قد يكون إحداث تغيير في ميزان القوى الداخلية في القيادة الإيرانية لمصلحة من هم مستعدون للتسوية والبدء بمفاوضات مع الإدارة الأميركية. عامل آخر قد يبدو مؤثراً هو تخويف إيران من احتمال تنفيذ هجوم عسكري قريب على مواقعها النووي. غير أن هذه العوامل لم تتكون بعد، ولذلك فإن معقولية القيام بصفقة شاملة لا تبدو عالية في الوقت الحالي.
من وجهة نظر ثانية، يشير استعداد إيران للتوصل إلى اتفاقين، في عام 2003 وعام 2004، إلى أنها حساسة إزاء موقعها على الحلبة الدولية، وأنها مستعدة لتليين موقفها، إلى حد معين.
هذا التصور للسلوك الإيراني أصبح موضع شك بعد انتخاب نجاد، والطابع الذي اتخذه، من خلال تعاطيه بقليل من الحساسية مع الرأي العام العالمي. لكن على الرغم من ذلك، يظهر أنه لا يزال يوجد مساحة مناورة للتوصل إلى صفقة محدودة لا تلزم إيران بالتنازل عن برنامجها النووي، لكن تتضمن موافقتها على القيام بأعمال نووية معينة.
إن حقيقة موافقة الحكومات الأوروبية على السماح لإيران بإدارة برنامج نووي للحاجات السلمية وكذلك تقديم المساعدة لها قد يقنعها بأنها تستطيع أن تستغل هذا البرنامج لدفع البرنامج النووي العسكري السري قدماً. ينبغي القول إنه يوجد في تحقيق اتفاق جزئي أو مؤقت مع إيران منفعة، لأنه قد يؤجل مرة أخرى الموعد الذي ستمتلك فيه إيران السلاح النووي، ولو لوقت محدود. ولكن ما دام اتفاق كهذا لا يعكس قراراً استراتيجياً واضحاً لإيران بالتخلي عن سعيها إلى السلاح النووي، فإن طابعه سيكون مؤقتاً فقط.
في الظروف الحالية، ما دامت القيادة الإيرانية في مزاج تحدي الضغوط التي تمارس عليها، وبعدما حققت إيران، بحسب ادعائها، القدرة على تخصيب اليورانيوم، فإن الضغوط الحالية غير كافية لدفعها نحو الموافقة على الوقف المؤقت لنشاطها النووي.
المفتاح لنجاح المسعى السياسي لوقف البرنامج النووي الإيراني قد يكون مقياس القدرة على فرض عقوبات عليها، وخصوصاً العقوبات الاقتصادية.
لقد تحسن الوضع الاقتصادي لإيران في أعقاب الارتفاع الدراماتيكي في أسعار النفط، ولذلك قدرة الضغط عليها خفت بشكل ما. لكن على الرغم من وفرة النفط في إيران، بقي اقتصادها ضعيفاً. تظهر الضائقة الاقتصادية في النسبة المنخفضة بالنمو ونسبة البطالة العالية والتضخم العالي. هذه الضائقة انعكست أيضاً في فشل جذب رؤوس أموال واستثمارات خارجية، وخصوصاً في قطاع النفط.

العقوبات الفعّالة

هذه الصعوبات ستكشف إيران أمام الضغوط المتواصلة. لكن ما هي أنواع العقوبات الاقتصادية التي قد تكون فعالة تجاه إيران؟
يمكن تعداد الوسائل التالية: فرض حظر على استيراد منشآت لتكرير النفط ومنتجات استهلاكية، وعلى الاستثمارات الأجنبية في إيران، وخصوصاً في قطاع النفط. فرض مقاطعة على تصدير النفط واستخدام عقوبات مالية على الممتلكات الإيرانية.
كما ينبغي أن يكون هدف العقوبات خلق شعور من الضائقة والنقص وسط الطبقات ذات الثقل في المجتمع الإيراني، التي تستطيع أن تدفع النظام إلى القيام بتنازل في الموضوع النووي، وذلك بهدف تحريك احتجاجات تمس بالاستقرار.
قد يرافق فرض العقوبات استعراض قوة عسكري ـــــ بحري أميركي مقابل إيران. النقطة الأساسية هي في مدى القدرة على تحقيق تعاون دولي ضروري للقيام بضغط اقتصادي هام ومتواصل على إيران.
في أعقاب الصعوبات في تحقيق اتفاق دولي على فرض عقوبات هامة على إيران عبر مجلس الأمن، تدرس الولايات المتحدة أيضاً إمكان اتخاذ خطوات اقتصادية من خارج المجلس. التوجه هو إقناع دول، منظمات وبنوك كبيرة لتقليص علاقاتها مع إيران، وتقييد الحرية المالية للأفراد والمنظمات الإيرانية المرتبطة في البرنامج النووي، الإرهاب الدولي والعراق، وتقييد حركة اقتراب إيران إلى الأسواق الدولية، تجميد ممتلكات إيرانية في أوروبا وآسيا وإغلاق حسابات البنوك الإيرانية خارج إيران.
مع ذلك يبدو أن الضغوط الاقتصادية خارج إطار مجلس الأمن والعقوبات الأميركية الأحادية الجانب، خطيرة وغير كافية من أجل دفع إيران لوقف برنامجها النووي، وفرص فعاليتها مرتبطة بفرضها على يد الدول ذات الصلة، وبتغطية مؤسسات دولية، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ما يستنتج من هذه الأمور، أن من غير المضمون أن توقف العقوبات الاقتصادية البرنامج النووي الإيراني لأن بالإمكان الالتفاف عليها أو خرقها، أو إيجاد بدائل لقطع العلاقات الاقتصادية مع إيران، وفي نهاية الأمر قد تقرر إيران عدم التنازل رغم الصعوبات الاقتصادية.
ولكن هناك فرصة أن يؤدي فرض العقوبات الاقتصادية الدولية الشاملة والهامة على إيران إلى وقف برنامجها النووي أو تجميده، بسبب الأضرار في اقتصادها وانعكاس الضائقة الاقتصادية على الاستقرار الداخلي. تستطيع إيران أن تواجه عقوبات إلى حد معين، والشعب الإيراني قد يدعم في البداية نظامه، لكن إذا تمت المواظبة على ذلك لفترة زمنية طويلة، فقد يؤدي الأمر إلى حصول اضطراب اجتماعي.
قد يكون لفرض العقوبات على قطاع النفط الإيراني ثمن باهظ على صعيدين على الأقل:
أولاً، تحقيق تعاون دولي بفرض العقوبات قد يلزم الولايات المتحدة بدفع ثمن مقابل وتعويض الحكومات الأخرى على الخسائر التي تسببها المقاطعة الاقتصادية لإيران، من إقناعهم بالمشاركة فيه، وهذا التعويض قد يكون باهظاً على الولايات المتحدة.
ثانياً، المس بتصدير النفط من إيران قد يؤدي إلى ارتفاع بارز إضافي في أسعار النفط. التركيز على منع تصدير منتجات إلى إيران، التي تحتاج إلى منتجات مختلفة، أو منع الاستثمار فيها قد يكون أقل إشكالية. مع ذلك، هناك حكومات مختلفة قد ترتدع من ذلك وأيضاً قد تحاول تحقيق أرباح من المقاطعة الجزئية، بينما إيران قد ترد على حظر كهذا بتقليص تصدير نفطها.
فرصة التوصل إلى اتفاق سياسي مع إيران مشترطة إلى حد كبير بالتعنت الأوروبي ـــــ الأميركي بعدم القيام بتنازل أمامها بكل ما يتعلق بالأوجه المصيرية لنشاطها، وممارسة الضغط الدولي المستمر عليها لوقف سعيها للسلاح النووي، من خلال التهديد بعملية عسكرية من الولايات المتحدة إذا استمرت بذلك. في الوقت الحالي هذا الشرط يعمل جزئياً فقط.
بحلول شهر كانون الأول 2006، فرض مجلس الأمن للمرة الأولى عقوبات على إيران، عقب نشاطها النووي المريب، وخصوصاً في إطار تخصيب اليورانيوم. هذه العقوبات كانت نتيجة تسوية بين الحكومات الغربية وروسيا والصين. واشتملت على منع القيام بصفقات مع إيران تتضمن معلومات تكنولوجية، وتجهيزات ومواد تستطيع أن تستخدم لدفع البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ الإيراني، وتزويدها بهذه العناصر. تضمن القرار أيضاً تجميد أرصدة أشخاص ومنظمات متورطة في البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ التابع لإيران.
إلا أن الإجماع الذي تحقق بين أعضاء المجلس كان ضعيفاً، لائحة العقوبات التي تمت الموافقة عليها خُففت، وهي لا تؤلم كفاية لدفع إيران للتنازل في موضوع نشاطها النووي. وبالفعل سارعت طهران إلى إعلان أنها لن توقف برنامجها النووي.
في النهاية، من وجهة نظر إسرائيلية، لا قدرة فعلية لإسرائيل على الإسهام في وقف البرنامج النووي الإيراني بالوسائل السياسية. لا يوجد لإسرائيل في هذه المرحلة ما تقدمه إلى الإيرانيين مقابل وقف برنامجهم، ولا يوجد لها قنوات فعلية للتحدث مع النظام في إيران، وهي ليست شريكة، حتى بطريقة غير مباشرة، بالمفاوضات التي تجري مع إيران. الطريقة الوحيدة التي تستطيع إسرائيل أن تسهم فيها بالمفاوضات هي عبر زيادة الضغط على إيران، الناتجة من افتراض أنه يوجد لإسرائيل القدرة العسكرية لمهاجمة المنشآت النووية في إيران، إذا فشلت المحادثات بهذا الخصوص، وكذلك عبر تزويد معلومات استخبارية نوعية، إذا حُصِل عليها، عن البرنامج النووي الإيراني.
* صحافي لبناني