ياسين تملالي *ومن الأقاليم التي لجأت إليها القبائل الأمازيغية الإباضية الفارة من بطش الفاطميين إقليم وادي ميزاب، فامتزجت بأهله وأقنعتهم بمذهبها وبنت فيه قرى محصنة إحداها بريان. وبحكم بعدها عن الشمال واضطراباته المتواصلة، لم تخضع هذه القرى للدول التي حكمت الشمال الأفريقي إثر انتقال عاصمة الفاطميين إلى مصر. أما ولاؤها للحكم العثماني في الجزائر (1516 ـــ 1830)، فكان ولاءً اسمياً لا غير.
وابتداءً من القرن الثاني عشر، تدفّقت على وادي ميزاب قبائل عربية طردها الفاطميون من صعيد مصر، وأرسلوها إلى الشمال الأفريقي عقاباً لولاته على مبايعتهم للعباسيين. وبينما كان الإباضيون مزارعين وحرفيين، كان الوافدون بدواً رحّلاً يقتاتون من مواشيهم اقتياتهم من نهب القوافل، ولم يستوطنوا القرى الإباضية إلا في القرن الرابع عشر، بعد أن أبرموا مع مشايخها معاهدات «حسن جوار». ولم يغيّر ذلك وجه المنطقة لا إثنياً ولا مذهبياً، فالإباضيون، كبعض الأقليات الأخرى، قلّما يتزوجون من خارج طائفتهم إلى اليوم، ولا تزال «الزيجات المختلطة» في أوساطهم شبه منعدمة.
وقد دفعت قلة موارد العيش في واحات ميزاب الإباضيين إلى الهجرة إلى مدن أخرى. وتذكر كتب التاريخ أنهم أثناء الحكم العثماني اشتغلوا فيها بالتجارة والحرف اليدوية. أما تحوُّل أغلبهم إلى تجار، فبدأ خلال العهد الاستعماري الفرنسي. ويشهد الرحالة الذين جابوا وادي ميزاب خلال الفترة الاستعمارية على ازدهاره مقارنة بغيره من أقاليم الجنوب. وزاد في هذا الازدهار توقيع أعيانه «معاهدة حماية» مع الإدارة الفرنسية (1853) كفلت لهم حرية التجارة في باقي المناطق ومنحتهم شكلاً من أشكال الحكم الذاتي.
ولم تمنع هذه الخصوصية بعض النخب الإباضية من الانخراط في الحركة الوطنية، بتياريها «الإصلاحي» الداعي إلى مساواة الجزائريين بالفرنسيين، والراديكالي المطالب بالاستقلال التام. ومن أبرز أعلام الحركة الوطنية الإباضيين الشاعر مفدي زكريا، صاحب النشيد الوطني، وإبراهيم بن عمر بيوض، أحد زعماء جمعية العلماء المسلمين.
وبعد الاستقلال، عملت الدولة على الحدّ من وزن المؤسسات الإباضية الخاصة، وإن تفادت القضاء عليها لأسباب سياسية واضحة. كما سهرت على توازن المنطقة بتقسيم المناصب المنتخبة بين الإباضيين وغيرهم.
أما أهم ما جاء به الاستقلال، فهو تغيير التوازن الديموغرافي في وادي ميزاب. فقد أدّى تطوّر الجنوب بفضل عوائد النفط إلى توطن سكّان المنطقة الناطقين بالعربية في المدن الميزابية واشتغالهم فيها كموظّفين وتجّار وأجراء. ولم تتسبّب هذه الهجرات أوّل الأمر في مشكلات طائفية، فالرخاء الذي كانت تعرفه الجزائر بفضل استثمار المداخيل النفطية في التنمية جعل حدوثها أمراً شبه مستحيل.
ولم تظهر الحساسيات بين الإباضيين وجيرانهم السنّة إلا مع بداية الأزمة الاقتصادية في منتصف سنوات 1980 وما تلاها من تفشٍّ للبطالة وتدهور للخدمات العمومية. فقد حوّلت «الإصلاحات» الليبرالية المدن الميزابية إلى تجمّعات بشرية لا يقلّ مستوى الفقر والبطالة فيها عن سواها من مدن الوطن. وباستشراء الأزمة، بدا «ثراء» الإباضيين النسبي شديد التمايز مع أوضاع شرائح واسعة من غير الإباضيين. ولا يعني هذا أنّ كل الإباضية أغنياء. يعني فقط أن مؤسساتهم ساهرة على استمرارية نظام التضامن التقليدي (2) وأن وجهاءهم يشترون «السلم الاجتماعي» داخل طائفتهم لحماية مصالحهم الاقتصادية.
وزاد الوضع تعقيداً تشعّب الخريطة السياسية الجزائرية بدءاً من 1989، آخر سنة في حياة نظام الحزب الواحد، فاتّخذ صراع المصالح في المنطقة شكل منافسة انتخابية ضارية للظفر بأغلبية المجالس المحلية.
خلال اقتراع 1990 المحلي، فضّل الإباضيون التصويت لمرشّحين مستقلين منهم، فيما صوّت باقي الأهالي لقوائم أخرى، وبالأخص لقائمة «جبهة الإنقاذ الإسلامية».
وأشعل هذا الشرخ الانتخابي شرارة مواجهات دامية في بريان. والملاحظ أنّ أحداث العنف الأخيرة في المدينة ذاتها اتخذت هي الأخرى شكل نزاع بين مناصري العمدة الإباضي المنتخَب على قائمة «التجمّع من أجل الثقافة والديموقراطية» (حزب علماني يرأسه سعيد سعدي) وبين معارضيه، وأغلبهم من «العرب السنّة».
وكما هو الأمر في العديد من الدول العربية، كثيراً ما يحيد الغضب الاجتماعي عن وجهته ويتحوّل إلى غضب مذهبي. هكذا ينظر «السنّة» اليوم إلى الإباضيين على أنهم «عنصريون منغلقون» يرفضون أن يشاركهم غيرهم ما ينعمون به من خيرات، وينظر الإباضيون إلى «السنّة» كغزاة شوّهوا مدن ميزاب العريقة وحوّلوها إلى مراكز تهريب وتجارة غير شرعية.
أمّا الدولة، فتحاول الظهور بمظهر الحكم بين المعسكرين، حكم يلين تارة ويقسو تارة أخرى، ولكنه يرفض الإقرار بأنه لو استغلّ موارده الخيالية في تنمية الجنوب، الفقير بالرغم من ثرواته البترولية الهائلة، لما سمع أحد عن «الإباضية» ولا عن أعدائهم «السنيّين» المفترضين.


(1) يُنسَب المذهب الإباضي إلى عبد الله بن إباض مع أن مؤسّسه الحقيقي هو جابر بن زيد. وبسبب معارضة الإباضيّين للحكم الأموي ورفضهم الحكم الوراثي وانتقادهم لتفاوض علي بن أبي طالب مع الأمويين، نُسبوا إلى الخوارج وهو ما يرفضونه رفضاً قاطعاً. وينتشر المذهب الإباضي في واحات ميزاب الجزائرية وجزيرة جربة التونسية، وفي سلطنة عمان.
(2) أحد أشكال هذا التضامن «بيوت العرش»، وهي منازل ضيافة مفتوحة مجّاناً للمسافرين والطلاب من أبناء الطائفة في كل المدن الجزائرية.
* صحافي جزائري