ناهض حتر *الأزمة اللبنانيّة لم تنتهِ بالطبع. وليس على المرء أن يكون خبيراً في الشؤون اللبنانية لكي يدرك ذلك، إذ تكفيه قراءة التحليلات والتسريبات في صحافة بيروت، لكي يكتشف أن النار ما تزال تحت الرماد. لكنّ الصورة كما تبدو من الخارج العربي تعكس الخطوط العريضة التي تبلورت في الدوحة، وفي ذروتها الدرامية التي انشدّ لها العرب على دفعتين: انتخاب الرئيس ميشال سليمان وخطاب الانعطافة الاستراتيجية للسيد حسن نصر الله. وأحسب أنّ العرب، بعدها، لم يعودوا معنيين بالتفاصيل، أو فلنقل بدقة إنهم يرون المرحلة التالية من الصراع اللبناني «شأناً داخلياً»، وفي سياق الحجم الداخلي.
لا أقلّل بالطبع من الإلحاح الأميركي ـــ السعودي على تفريغ انتصار المعارضة اللبنانيّة من محتواه التغييري والمسالم، نحو استعادة رموز وسياسات حكومية سقطت ويُعاد إحياؤها في مناخ الإبقاء على التوتر.
لكن هناك ما يشبه الإجماع على أن كلا الإلحاح والتوتر معاً، لن يهدّدا صيف لبنان الذي أعلنه نصر الله هادئاً، مقترناً بصفقة تبادل الأسرى، والمفاوضات السورية ـــ الإسرائيلية، ولن يغيرا شيئاً في الدلالة الاستراتيجية للفصل الختامي الكبير يومي 25 و26 أيار الفائت. ولعلّ هذا هو الخطّ الفاصل بين الشأن اللبناني باعتباره فتيلاً لقنبلة إقليمية، وبين كونه تكتيكات محلية لا تهم إلا اللبنانيين.
سعد الحريري لرئاسة حكومة التسوية أم فؤاد السنيورة؟ مَن يهتم لذلك؟ وليد جنبلاط «مرتاح» و«طبّاخ ماهر»؟ مَن ذاك وما هي قيمته؟ لعله من الصعب على اللبنانيين الخروج من التفاصيل، ومن الاعتقاد بأنها مهمة جداً بالنسبة للعرب والعالم. لكن من دون التعالي على تلك التفاصيل، فلن نرى الكلّي والجوهري. وهو الآتي: حزب اللّه باق قوة إقليمية، وانطلاقاً من تلك الحقيقة، عرض السيد حسن نصر الله تجديد الصفقة على تيار «المستقبل»، أي المساكنة بين المقاومة وثقافتها ووسائلها، وبين «البزنس» وثقافته ووسائله.
وإذا كان صحيحاً أن هذه المساكنة «غير شرعية» من وجهة نظر الثورة بل من وجهة نظر التغيير، كما هي مؤقتة من وجهة نظر «البزنس»، فإنها تلائم حزب الله من حيث هو قوّة إقليمية لا قوّة ثورية. ومع ذلك، فإنّ قوى التغيير اللبنانية هي اليوم في وضع أفضل مما كانت عليه منذ نصف قرن.
في العمق، وفي التحليل الأخير، دارت الأزمة اللبنانية، وبالأحرى حول لبنان، في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية، على محور أساسي هو حزب الله: 1ـــ سلاحه الذي يمثّل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل على الجبهة الشمالية كلها، اللبنانية ـــ السورية، 2ـــ تحالفه مع سوريا، الذي يمنح دمشق حضوراً دفاعياً وسياسياً لا يمكن تجاوزه في لبنان، ويضمن إغلاق الخطر، ذاك الآتي من لبنان، على النظام السوري، 3ـــ تحالفه مع التيار الوطني الحرّ، ما يمنح النزوع الدولتي الحداثي المسيحي قوة مضاعفة، 4ـــ إغلاق ملف التوطين في لبنان، ولذلك آثاره على التوطين في سوريا والأردن.
على هذه المستويات كلّها، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية خسرت استراتيجياً، بينما حقق حزب الله نقلة نوعية في التجاوز الفكري ـــ السياسي للمذهبية، وفي الاستقلال عن لعبة التفاهمات للنظامين السوري والإيراني، وفي التأسيس لجبهة المقاومات العربية. والذين حاولوا إخراج حزب اللّه من مكانته الإقليمية عن طريق إغراقه في بيروت، فوجئوا به يعود أقوى وأخطر... في بغداد! حيث المحور الرئيسي للصراع في المنطقة كلها. ولم يحدث ذلك فقط، بفضل الشجاعة الاستراتيجية لنصر الله، بل أساساً بفضل ديالكتيك موضوعي معقَّد.
صفقة التعايش المؤقت بين التحالف السوري ـــ الإيراني والولايات المتحدة في العراق، أدت إلى انتصار حزب الله في لبنان. لكن هذا الانتصار كان باهظ الثمن على صورة الحزب وحضوره ومستقبله، حتى إنه بدا كفخّ، وخصوصاً لجهة إمكان الغرق في صراع مذهبي مع السنّة اللبنانيين.
ولتلافي دفع هذا الثمن، انتقل حزب الله إلى المعاداة العلنية للعملية السياسية الأميركية في العراق، وهي التي تسيطر عليها أحزاب شيعية، ودعوة العراقيين، شيعة وسنّة، ومن دون تحفظ، إلى المقاومة المسلَّحة لتحرير البلد. وسيؤدّي هذا الموقف، الذي أخرج الحزب من تناقضه الفكري والسياسي وجدّد وجهه ومشروعه المقاوم، إلى نقض صفقة حليفيه الإقليميّين في العراق، حيث سيندفع عشرات الآلاف من شبابه الشيعة إلى الاستجابة إلى «مرجعية المقاومة» المتمثّلة بالسيد حسن نصر اللّه، ضدّ مرجعية العملية السياسية المتمثلة بالسيستاني وجماعته.
من الصعب على الذين يفتقرون إلى الرؤية الديالكتيكية المقترنة بالمعرفة العيانية للشؤون العراقية، أن يدركوا أهمية انحياز السيد حسن نصر الله، بما له من مكان ومكانة، إلى المقاومة العراقية. صحيح أنه انحياز تأخر كثيراً، لكنه جاء في لحظة مفصلية يكاد فيها الغزو الأميركي أن يتحول إلى احتلال مشرّع بمعاهدة. وهذه المعاهدة الاستعمارية التي يهمّ رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، بتوقيعها، باسم «الائتلاف الشيعي» المدعوم من إيران، هي نفسها التي أعلن السيد حسن نصر الله، حليف إيران، أنها محور الاختيار بين الوطنية والخيانة. فهل آن الأوان لكي نرى؟
سأل نصر الله أصحاب «العملية السياسية» في العراق، أولئك الذين كانوا يبررونها بأنها مدخل لرحيل الغزاة: وماذا بعد؟ لقد صمتنا عنكم حتى اللحظة الأخيرة، والآن جاء وقت الحساب! وهذا الكلام ليس موجهاً إلى «الائتلاف الشيعي» وحده، بل إلى طهران بالقدر نفسه. حزب اللّه بذلك يغادر، في صميم فعاليته الإقليمية، الأيديولوجية المذهبية إلى أيديولوجيّة المقاومة العربية، من حيث أن المقاومة، ثقافة وممارسة، هي الحلّ الوحيد في مجابهة التحدي الأميركي ـــ الإسرائيلي.
وصحيح أن هذه الأطروحة كانت دائماً لدى الحزب، لكنها كانت مشروخة، وبالتالي دعائية لا أيديولوجية. وهي مشروخة أولاً بالاحتكار الشيعي للمقاومة المسلحة في لبنان، وهي مشروخة ثانياً بالموقف الملتبس من المقاومة العراقية التي ظلت، وقتاً طويلاً، سنّية، مشروعاً ومقاتلين، ثم تحوّلت شيعية بلا مشروع. فالمشروع الشيعي في العراق كان وما يزال مشروع العملية السياسية الطائفية غير الممكنة إلا بالاحتلال والوصاية الإيرانية.
الحسم العسكري في لبنان، رغم أنه صُوّر كتحرك شيعي تم بجهود حزب الله وحركة أمل، إلا أن مضمونه غير ذلك فعلاً. فما كان هذا التحرك ممكناً من الناحية السياسية، لولا التحالف المتين مع التيار الوطني الحر، كما أنّ التحرك العسكري نفسه تم ببنادق مسيحية وسنّية ودرزية أيضاً، من مقاتلي الحزب السوري القومي الاجتماعي وتيار التوحيد اللبناني.
وشاء حزب اللّه أم أبى ـــ وأظن أنه سيشاء ـــ فإن سلاح المقاومة اللبنانية لن يبقى بعد اليوم شيعياً. وسيكون أمام التيارات اليسارية والقومية، الآن، مهمّة تحضير وجودها وقواها الميدانيّة على الأرض. وقد تعترضها بالطبع مصاعب مادية، لكن لا سياسية.
وعلى كل حال، فإنّ لبنان اليوم أمام خيارين: إمّا احتكار السلاح من الدولة، وهذا مرتبط حصرياً بحلّ جدّي ليس منظوراً مع إسرائيل، على جميع المسارات، وإما إعادة تكوين السلاح المقاوم في لبنان على أسس غير طائفية. وفي هذه الحالة، وهي الأكثر احتمالاً، فإنّ احتكار حزب الله للسلاح لم يعد وارداً.
أما الشرخ الثاني، فقد زال باصطفاف حزب الله من دون تحفظ إلى جانب المقاومة العراقية. وهو اصطفاف سيؤدي حتماً إلى انشقاق شيعي ـــ شيعي وسني ـــ سني، أي في النهاية، إلى انشقاق سياسي لا مذهبي، على أرضيته فقط يمكن التأسيس للحركة الوطنية العراقية الجديدة، وتالياً لجبهة المقاومات العربية.
ما يزال حزب اللّه بالتأكيد، مكوّناً من الشيعة، لكنه قفز عن التشيّع السياسي إلى أرضية اكتمال وطني سوف يتطوّر بقدر ما يتفاعل على المستوى العربي.
الخطوة التالية الآن هي النضال الفكري لإلغاء المذهبية من جذورها، التشيّع والتسنّن والتمذهبات الأخرى كلها، وصولاً لإسلام واحد يقوم على فقه المقاومة والتنمية والتحرير، تحرير الأرض والإنسان وطاقات الأمة الجديرة بأن تتبوّأ مكانتها تحت الشمس في عصر تعدد الأقطاب الآتي.

* كاتب وصحافي أردني