إسكندر منصور *مضى أكثر من ثلاثين سنة على استشهاد كمال جنبلاط الحلم. أحداث كثيرة مرّت على لبنان منذ ذلك التاريخ. بدءاً بإحكام جيش الوصاية السوري قبضته على لبنان إلى الغزو الإسرائيلي سنة 1982 و«انتخاب» بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة ومن ثَم اغتياله ودخول إسرائيل إلى بيروت وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، إلى انطلاق جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وإسقاط اتفاق 17 أيار وتوقيع اتفاق الطائف الذي كرّس الهيمنة السوريّة على لبنان وهيمنة حزب الله على عمل المقاومة واحتكارها.
بعد ذلك، جاء تحرير الجنوب وللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي دون شروط إسرائيليّة؛ تبعه اغتيال رفيق الحريري ليفجّر حركة شعبيّة لم يشهدها لبنان من قبل أدت إلى خروج الجيش السوري من لبنان مما كشف عورة النظام اللبناني وأثار جملة من التساؤلات عن إمكان استمراره من دون طائفة ضابطة ومهيمنة حيث كانت الطائفة المارونيّة حتى اتفاق الطائف هي المهيمنة و«الضامنة». ثم أخذت مكانها سوريا التي أصبحت بعد أفول دور المارونيّة السياسيّة الطائفة المهيمنة و«الضامنة».
خلال هذه الأحداث التي طبعت تاريخ لبنان الحديث منذ الاستقلال حتى اليوم، كان للحزب التقدمي الاشتراكي دور فاعل ومميز إن كان في التأكيد على مفهوم الوطنيّة اللبنانيّة والدفاع عنها، أو في العمل على تثبيت هوية لبنان العربيّة ضمن بُعد استقلالي واضح مع ما يتطلّبه هذا من التزامات صادقة ومخلصة نحو القضيّة الفلسطينيّة من خلال الدور الذي لعبه كمال جنبلاط على الصعيد الداخلي اللبناني، أو من خلال قيادته للجبهة العربيّة المساندة للثورة الفلسطينيّة، والابتعاد عن ــ والتصدي لـ ــ كل الأحلاف والمشاريع السياسيّة والعسكريّة (كحلف بغداد ومشروع أيزنهاور) التي حاولت أن تضع لبنان في حالة تصادم مع تطلعات شعبه والشعوب العربيّة الأخرى الطامحة إلى الاستقلال الوطني والسيطرة على الثروات الوطنيّة. ففي ظلّ الهجمة الشرسة على جمال عبد الناصر وخاصة بعد أن أمّم قناة السويس، لم يفهم كمال جنبلاط الوطنيّة اللبنانيّة انعزالاً عما يجري حوله بل انخراطاً وتضامناً مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر، لأنّ معركته كانت معركة العرب جميعاً.
لذلك كان كمال جنبلاط حارساً للوطنيّة اللبنانيّة في انخراطه أكثر من كميل شمعون الذي راهن على التدخل العسكري الغربي لقلب موازين القوى الداخليّة لمصلحته.
فالعمل على توطيد المسألة الوطنيّة اللبنانيّة وعلاقتها بالعروبة الديموقراطيّة كانتماء حرّ، إضافةً إلى التزام المسألة الاجتماعيّة كانت كلها في صلب المبادئ والممارسة التي أعطاها كمال جنبلاط حياته.
إنّ تاريخ العمل السياسي الوطني في لبنان، إن كان من خلال العمل النقابي أو الطلابي أو الثقافي او الجبهوي أو المقاوم أوالتضامني مع القضايا العربيّة في فلسطين أو الجزائر، أو الوقوف إلى جانب جمال عبد الناصر، لم يكن يكتب له النجاح لولا الدور الفاعل للحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط ومن خلال العمل الجبهوي والتحالف مع قوى اليسار وخاصة مع الشيوعيين.
حذّر كمال جنبلاط باكراً من سلبيّة النظام الطائفي ليس فقط المفتِّت بل المدمِّر للوطن. لقد أصبح واضحاً أنّ النظام الطائفي أصبح عبئاً على لبنان وعلى وحدته وأمن مواطنيه. فهذا النظام لا يمثّل مناعة أمام القوى الخارجيّة من أي جهة أتت للتدخل في شؤؤنه الداخليّة؛ كما أنه يشرّع أبواب الوطن للطامحين للدخول من خلال البوابة الطائفيّة وخطف استقلاله واستقلال قراره وخاصة في ظلّ غياب التماسك الداخلي نتيجة غياب واضح لمفهوم المواطنة لمصلحة الطائفة. مفهوم أعطاه كمال جنبلاط اهتماماً خاصاً في فكره وممارسته حيث كان يحلم بأن تصبح هذه الدولة «دولة مدنيّة لا دولة مار مارون ولا دولة محمد وطبعاً لا دولة الحاكم بأمر الله» على حدّ قوله.
ضاقت بكمال جنبلاط مساحة طائفته فخرج منها إلى الطائفة الكبيرة؛ طائفة الوطن الضامنة الوحيدة لكل الطوائف. إذا غابت طائفة الوطن عن نظرنا أصبح الكل في خطر التناحر والاندثار، ولهذا استشرف كمال جنبلاط هذا الخطر باكراً، فأرسى خارطة الطريق من الطائفة إلى الوطن من خلال برنامج «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» الإصلاحي الذي لو طُبِّق لابتعدنا عن الكارثة التي لا تزال تلقي بظلالها على لبنان.
جاء اغتيال كمال جنبلاط ليس نتيجة انتقام من دور سابق فقط بل لاغتيال دور لاحق في صلبه أولاً: الوطنيّة اللبنانيّة ذات الهويّة العربيّة النابعة من التراث الوطني الاستقلالي اللبناني الحر لا الهويّة العربيّة المستوردة كغطاء لمشاريع الوصاية. وثانياً: إلغاء الطائفيّة السياسيّة كطريق نحو العلمنة الشاملة وثالثاً: نظام انتخابي عصري أساسه لبنان وطن واحد مستقل عربي الهويّة والانتماء لا تعاقد بين طوائف عدة.
كان للحزب التقدمي الاشتراكي الدور الأبرز في التصدي لحكم أمين الجميل وفي إسقاط اتفاق 17 أيار حيث مثّل إسقاط هذا الاتفاق رافعة للعمل المقاوم للاحتلال الإسرائيلي. جاء «الطائف» ليضع حداً للحرب الأهليّة ويعيد إنتاج النظام الطائفي حيث حلّت سوريا مكان المارونية السياسيّة كطائفة مهيمنة توزع الأدوار فتكافئ من تريد وتبعد من تريد وتعاقب من تريد.
بعد ذلك بدأ الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط نهج السير من الوطن إلى الطائفة بعدما حاول كمال جنبلاط أن يجمع بين تقدميته ويساريته واشتراكيّته الإنسانيّة ودرزيته وهذا ما لم يفعله وليد جنبلاط.
مع نهج وليد جنبلاط الجديد وانشغال الحزب الشيوعي اللبناني في مشاكله الداخليّة وعدم تمكّنه التأقلم مع الجديد والتجديد بعد انهيار التجربة الاشتراكيّة تراجع اليسار اللبناني وانحسر دوره وغاب برنامجه ليتقدّم برنامج الطوائف (الذي لم يتراجع أصلاً) إلى الأمام بدعم واضح من نظام الوصاية السوري. وهكذا، بدأ حزب كمال جنبلاط وجهتة الجديدة من الوطن إلى الطائفة.
جاء انتصار المقاومة وانسحاب إسرائيل من الجنوب المحتلّ ليزيد الضغوط على سوريا من أجل تنفيذ اتفاق الطائف، وخاصة في مسألة تموضع القوات السوريّة في البقاع.
كان وليد جنبلاط الأجرأ من بين حلفاء سوريا الرئيسيين في طرح موضوع تنفيذ الطائف وتموضع القوات السوريّة في البقاع. ولكن تراجعَ جنبلاط عن مطالبته بتنفيذ الطائف على أثر الحرب الأميركيّة على العراق فنعت كونداليزا ريس باللون النفطي (ليعود ويعتذر منها لاحقاً بعد ثورة الأرز) ونعت بول ولفوفيتز بالبشع (ليعود ويعتذر منه لاحقاً بعد ثورة الأرز).
كان اغتيال رفيق الحريري الحدث الأبرز في سلوك وليد جنبلاط طريق اللارجوع واللاعودة.
كثرت اللقاءات مع الإدارة الأميركيّة الحاليّة على كل المستويات، والتي كانت تسعى إلى أيّ نصر بعد فشلها في العراق؛ وبعدما كان جنبلاط يسعى فقط إلى خروج السوريّين من لبنان وكان له في ذلك مؤيّدون كثر بدأت مرحلة شعار إسقاط النظام السوري وقراءة القرارات الدوليّة في ما يخصّ حزب الله بلغة تيري لارد لارسن الذي وضع في أولى أولوياته سلاح المقاومة.
وبذلك «أصبح جزءاً من المشروع الأميركي» على حد قوله. فباسم التصدي للذين يريدون جعل لبنان ساحة لمحاربة أميركا وهزمها، حاول جنبلاط أن يجعل من لبنان ساحة سياسيّة للقوى الدوليّة التي تريد أن تهزم محور إيران ــ سوريا من خلال الساحة اللبنانيّة. وهكذا حمّل جنبلاط لبنان أكثر من طاقته. فرحلت وصاية وحلت أخرى وحلم الاستقلال تبخّر. حقاً إنّ الاستقلال الحقيقي بحاجة إلى استقلاليين حقيقيين. أين هم؟
ففي ظل الأوضاع الراهنة نفتقد كمال جنبلاط. نفتقد حكمته وصلابته، نفتقد التزامه الصادق بأن السيادة الحقيقية تنبع من إرادة شعبه لا في الارتماء في أحضان القوى الخارجيّة أياً كانت وتحت أي ذريعة، التي تعمل فقط من أجل مصالحها المتناحرة والمتناقضة مع مصالحنا كلبنانيين في أكثر الأحيان.
فاليوم كالأمس، استُهلكت واستُنفدت تعابير «السيادة» و«الاستقلال» التي ليست سوى غطاء لتغيير وجهة سير لبنان. ففي حزيران 1969، كتب كمال جنبلاط: «لم تعد قضيّة السيادة اللبنانيّة والحفاظ على سلامة الأراضي اللبنانيّة كما يحاول بعضهم أن يصورها، بل القضيّة أصبحت تتعدى ذلك إلى تبديل وجهة لبنان وتغيير أسس تكوينه القومي والسياسي».
نفتقد أيضاً انحيازه إلى عمّال لبنان وإلى كل الذين يأكلون خبزهم بعرق جبينهم؛ كما نفتقد حزمه في تحديد الداء والدواء. أين الحزب التقدمي الاشتراكي اليوم من تراث كمال جنبلاط ونهج كمال جنبلاط؟ أين يقف وليد جنبلاط؟
فبالتوازي مع الحوار الذي بدأ في الدوحة والذي ربما سينتقل إلى لبنان، لا بدّ من حوار على مستوى القاعدة والمنظّمات الأهليّة والنقابيّة والأحزاب السياسيّة كلها من دون استثناء.
لا بدّ أيضاً لقوى اليسار من أن تبادر إلى هذا الحوار من دون أي «فيتو» على أحد وتحت أي ذريعة. إنّ إعادة اللقاءات والحوار بين الاشتراكيين والشيوعيين، على مستوى القاعدة، بالرغم من التباعد الراهن في المواقف السياسيّة، على قاعدة فكر ونهج كمال جنبلاط الذي جمع بينهما طيلة نصف قرن وفي محطات ومفاصل رئيسية من تاريخ لبنان، خطوة ضرورية في الطريق الصحيح ولكن ليس على قاعدة «عفا الله عما مضى».
إنّ الوقوف عند مرحلة ما قبل الدوحة وقراءتها بلغة نقدية جريئة مستمدة من تراث كمال جنبلاط ضرورة لأي حوار منتج ولأي خطوة للعودة من الطائفة إلى الوطن الضامن لأمن الجميع. فهل يفعلها وليد؟

* كاتب لبناني