Strong>محمد خواجه *الخامس من حزيران 1967 فجراً، سأل رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال إسحاق رابين، قائد سلاح الجوّ الجنراذل موردخاي هود، هل عملية «الحمامة» جاهزة للتنفيذ في الوقت المحدَّد؟
فأجاب الأخير بنعم. وما هي إلا ساعات قليلة، حتى انقضّت الطائرات الإسرائيلية المقلعة من مطارات «ناتانيا» و«سديه دوف» و«كفرسكين» على القواعد الجوية المصرية، المنتشرة في سيناء والدلتا والقاهرة وبني سويف ومنطقة القناة، لتلقي بقنابلها عبر موجات متتالية فوق مدارج الهبوط، والطائرات الرابضة على الأرض؛ فدمّرت الجزء الأكبر من الأسطول الجوي المصري.
هذا الإنجاز، سمح لإسرائيل بالسيطرة الجوية المطلقة على ميدان المعركة، الذي شهد مواجهات غير متكافئة؛ بين قوات إسرائيلية تحظى بمساندة جوية كثيفة، وقوات مشاة ومدرعات مصرية، قدّر لها أن تقاتل «عارية» تحت رحمة النار المصوّبة عليها من الجوّ.
بعدما فرغت القوات الإسرائيلية من تدمير بنية الجيش المصري، واحتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، استدارت باتجاه الجبهتين الأردنية والسورية، فدمّرت بأسلوب مشابه سلاح الجو في كلا البلدين. وانتزعت الضفة الغربية لنهر الأردن، ومرتفعات الجولان السورية.
بهذا فكّت إسرائيل «عقدة» ضآلة العمق الجغرافي التي لازمتها منذ تأسيسها، وتمدّدت على أراضٍ عربية تزيد مساحتها ثلاثة أضعاف على مساحة فلسطين المحتلة.
حينذاك، سمح الوضع الميداني الملائم جداً للجيش الإسرائيلي بإبراز كامل براعته الاستراتيجية والتكتيكية، وفقاً لنظرية الحرب الخاطفة؛ التي تعني استخدام «القوة القصوى» في أقصر وقت ممكن ــ حسب توصيف ليدل هارت ــ ونجح الإسرائيليون بنقل النار الى أرض الخصم، وتحييد داخلهم إلى حدّ بعيد عن نار الأعداء، وحسم الحرب خلال أيام معدودة. فقال حينها بريان بوند «الإسرائيليّون حقاً أفضل تلاميذ ليدل هارت».
وقبل وفاته كتب ليدل هارت شخصياً ــ صانع نظرية الحرب الخاطفة ــ في مجلة «Encounter» البريطانية قائلاً: «على الرغم من أن غودريان ورومل، كانا كريمين للغاية في الإقرار بتأثيري عليهما، إلا أنهما لم يدركا الجانب الأكثر حذقاً في أسلوب التقرب غير المباشر بمثل الدقة التي أدركها الإسرائيليون».
في المقابل، كشفت تلك الحرب خواء القيادة العسكرية العليا المصرية المسؤولة عن الجبهات العربية الثلاث، بموجب اتفاقيات دفاعية مشتركة. إذ طغى على أداء تلك القيادة الطابع الاستعراضي، البعيد كل البعد عن مفهوم الاحتراف العسكري، فأسهم الأمر إلى جانب عوامل أخرى، أهمها تخلّف البنية المجتمعية العربية بكل تفرعاتها السياسية، الاقتصادية والثقافية... عن نظيرتها الإسرائيلية في حدوث الهزيمة.
رغم رفض المصريّين تجرّع كأس الهزيمة، ومسارعة عبد الناصر إلى إعادة بناء الجيش المصري على أسس حديثة، وتمنّعه عن قبول مفاعيل الحرب السياسية، من خلال إشهار اللاءات الثلاث في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم. إلا أنّ سرعة حسم الحرب بسهولة، هيّأت الظروف المادية والمعنوية الملائمة لولادة أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأسّست لمفهوم قدرة الردع، الذي غلف العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وتحوّل إلى جدار نفسي، يصعب على الأعداء تخطيه. وترتكز فكرة الردع على منع الخصم من التفكير في مهاجمة «الرادع» أو مقاومته، خوفاً من الكلفة الباهظة جراء رده الانتقامي.
بعد انقضاء أربعين عاماً على تلك الحرب، شنّت إسرائيل «حربها الثانية» على لبنان بتغطية أميركية كاملة، وبتواطؤ عربي غير مسبوق. رغم ذلك أتت نتائجها الميدانية مغايرة تماماً، لنتائج «حرب الأيام الستة». فقد عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق أي من أهدافه المعلنة، وتعرضت عقيدته العسكرية لانتكاسة خطيرة؛ ففشل في حصر المعركة بأرض العدو، وحسمها بالسرعة القصوى.
في المقابل، نجحت المقاومة اللبنانية باستدراجه إلى حرب طويلة ومفتوحة، وبنقل النار إلى العمق الإسرائيلي. ففي السابق كانت الدولة العبرية تتغنّى بإرسائها معادلة مفادها: إنّ الجنود يحاربون في الميدان، بينما العمّال يعملون في المصانع والحقول. وإذ بصواريخ المقاومة تشلّ المناطق الأكثر حيوية فيها، وتحدث اضطراباً في عجلة الإنتاج.
كما برهن المقاومون عن ثبات وجرأة عالية في الميدان، وأداء قتالي مميز، أربك الجيش الأقوى في منطقة الشرق الأوسط. وقد أقر القادة الإسرائيليون بالأمر، كما لحظته لجنة فينوغراد المولجة التحقيق بإخفاقات حرب لبنان في تقريريها الأوّلي والنهائي. وبهذا الصدد، كتب الاستراتيجي الإسرائيلي زئيف شيف قائلاً: «إذا كانت حرب حزيران 1967 قد بنت مجد الردع الإسرائيلي، فإن حرب لبنان الثانية أنهت تلك الأسطورة».
هذا التحوّل الاستراتيجي في مفاهيم الصراع، عزّز مخاوف الإسرائيليّين من تجرّؤ الأعداء عليهم، بعدما نزعت المقاومة رهاب الخوف من قلوبهم. إلّا أنّ العدوّ الإسرائيلي لم يرضخ لنتائج حرب تموز، فعمد إلى إعادة تأهيل الجيش على جميع المستويات، متوعّداً بجولة جديدة، علّه يستعيد فيها هيبته ويرمّم قدرته الردعية، والسؤال: أين، ومتى موعد الحرب الإسرائيلية؟ هل هي وشيكة، أم تحتمل الانتظار؟ تبقى الإجابة برسم الآتي من الأيام.

* باحث في الشؤون العسكريّة