سعد اللّه مزرعاني *وللفراغ المذكور عدة أسباب ومعان ومظاهر يمكن إيجازها عموماً على الشكل الآتي:
ــ فشل مشروع السيطرة الأميركية الكاملة على المنطقة: «مشروع الشرق الأوسط الكبير» أو الواسع. فمنذ نيسان عام 2003، كانت الولايات المتحدة هي اللاعب الأساسي في تقرير مسار التطورات والأحداث في الشرق الأوسط الكبير الذي تمتد خريطته من موريتانيا إلى باكستان، ويشمل بمفاعيله المباشرة، والأخرى ذات الأبعاد الاستراتيجيّة، 27 دولة فقط لا غير (!)، أما انعكاساته، فتلقي بنتائجها على العالم بأسره.
ولقد تدرّج الفشل الأميركي، السياسي والعسكري والأخلاقي، عبر مراحل متلاحقة ما زالت متواصلة حتى يومنا هذا. وفي مجرى تعثر المشروع الأميركي نتيجة المقاومة التي واجهته في العراق، بدأت الإدارة الأميركية إعادة صياغة سياساتها وطموحاتها بشكل كان يضمر ويهزل باستمرار. فبعد مضي سنة واحدة على احتلال العراق، كانت واشنطن مضطرة حتى إلى إعادة النظر باسم المشروع وبطبيعته.
فمنذ أربع سنوات بالتمام، في قمة «سي آيلاند» بين 4 و8 حزيران 2004، جرى تغيير التسمية تحت ضغط المجموعة الأوروبية إلى «الشراكة لأجل مستقبل مشترك في منطقة الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا». وبعد ذلك بأقل من عامين، كانت لجنة «بيكر ــ هاملتون» المكوّنة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي الأميركيين، تنظر في إخفاقات حرب العراق، وتطلب من إدارة بوش إعادة النظر في سياستها في العراق، على نحو جذري في بعض الجوانب. واليوم، لا بد لواشنطن من أن تنسق في العراق مع قوى سبق لها أن صنّفتها في خانة «محور الشر» في سبيل معالجة الكثير من مشاكلها في الحقل الأمني بشكل خاص.
يعنينا من هذا الواقع، التأكيد أن واشنطن لم تستطع أن تفرض مشروعها وسياساتها على دول المنطقة، وأن هذه المنطقة تعيش منذ سنوات مفاعيل الفشل الأميركي. وأكبر هذه المفاعيل هو الفراغ الذي يعزّزه ازدياد التعثر الأميركي، وتحرسه التوازنات الجديدة، ويفاقمه عجز خصوم الولايات المتحدة عن فرض بدائلهم ومشاريعهم الخاصة.
ــ ثمة فشل إسرائيل أيضاً، ولا يقل هو الآخر عن الفشل الأميركي، وإن كان يتفاعل معه بشكل كبير. لقد كانت إسرائيل تحاول استثمار التحولات الاستراتيجية التي أصابت حركة الصراع في العالم إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. وهي وضعت الخطط من أجل أن يكون الشعب الفلسطيني ضحيتها المفضلة أيضاً هذه المرة.
ومع مجيء جورج بوش الابن، أطلقت يد شارون في محاولة تدمير كل المقومات السياسية والعسكرية والأمنية الاقتصادية والبشرية للشعب الفلسطيني. إلا أنّ إسرائيل اصطدمت بدورها، بصمود الشعب الفلسطيني وبمقاومته، كما اصطدمت بالمقاومة اللبنانية في معركة لم تحسب لها إسرائيل (ولا واشنطن) الحساب المناسب! عنينا بذلك حرب تموز 2006. تلك الحرب التي دفعت حتى بعض الحكام العرب، ممن فاجأهم الأمر تماماً، إلى الاستنتاج العفوي: إسرائيل قوة قابلة لأن تهزم!
نتيجة هذا العجز الإسرائيلي، تمثّلت أساساً في فشل الصهاينة في إخماد الاعتراض والمقاومة لدى الشعب الفلسطيني، رغم انقساماته ورغم حصاره المتعدّد الجهات والجبهات والحدود! إنه الفراغ هنا أيضاً، الذي يفاقمه انكشاف نقاط ضعف المجتمع الصهيوني في حقول عديدة، وعلى جميع المستويات القيادية: من رئيس الأركان، الشخص الأول في المؤسسة العسكرية، إلى رئيس الوزراء الرجل الأول في إسرائيل، وكلاهما ممرَّغ بالرشوة والفساد وليس فقط بـ«الإخفاقات» التي ميزت أداءهما السياسي والعسكري في أكثر الحروب الإسرائيلية مصيرية على الكيان العنصري!
ــ وثمة نوع ثالث من الفراغ، هو ذلك الناجم عن عجز البنى السياسية التقليدية العربية عن تأمين شروط التطور والتقدم والتنمية والديموقراطية، وقبل ذلك، وبالنسبة إلى العديد من هذه البنى، شروط السيادة والاستقلال والسيطرة على الموارد والثروات، كذلك التوحّد في أدنى درجاته المحلية والقطرية.
لم ينجم هذا النوع من الفراغ عن توازن مواجهة، كما هو الأمر في المجالين السابقين. بل نجم عن التدهور السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبنى المذكورة، وعن فشلها المدوّي في جميع حقول الاختبار، إلا ما هو متصل بحقل الأمن وأجهزته والقمع وأساليبه ومبتكراته، والتبعية وأشكالها المعيبة والمسفّة.
ــ وللفراغ شركاء آخرون، في الموقع النقيض نسبياً، أو تاريخياً، أو واقعياً. وتتوجه الأنظار هنا بشكل خاص إلى مسؤولية القوى التي حاولت أن تقدم البدائل في مجرى المواجهة والصراع. ليس ممكناً طبعاً التعميم، وهو لا يجوز أصلاً، لكن يمكن ملاحظة أن ما سميت البدائل الإسلامية قد واجهت جملة عوائق، معظمها ذاتي قائم في مشاريعها الخاصة، ممّا حال دون أن تكون خياراً جدياًَ وقوياً ومقنعاً في مواجهة خيار الاحتلال والغزو والالتحاق والنهب والاستتباع.
ليس «الخيار الإسلامي» واحداً، هو الآخر. إن صيغه عديدة وأساليبه كذلك. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى أهدافه وعلاقاته وتحالفاته. ورغم أن «الإسلام السياسي» كبديل، لا يمثّل خياراً متجاوزاً للانقسامات الطبقية والاجتماعية وللصراعات السياسية المتنوعة (فهو أيضاً أحد أشكالها)، إلا أنه ظهر بصيغ وأشكال شديدة التباين والتنافر والتنافس، بما لا يمكن الحديث معه عن خيار واحد إلا من ناحية التسمية، وبالكاد! إلا أن قوى هذا الخيار قد اتسمت، على تناقضها وتنوعها، بحيوية استثنائية، واجترح بعضها بطولات تحررية مذهلة!.
ــ ويتفاقم واقع الفراغ أيضاً بسبب ضعف قوى «البديل الديموقراطي»، وهي تسمية عامة هي الأخرى. لكنها تشير عموماً إلى القوى التي حملت مشاريع تغييرية وثورية، بلغ بعضها المدى الكوني ــ الأممي برمته. ينطلق بعض قوى هذا البديل من مواقع يسارية ــ وبعضها ذو منطلقات قومية أو وطنية. وهي جميعها خاضت تجارب متواصلة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى المرحلة الراهنة. تعيش هذه القوى خيبات إيديولوجية وسياسية، وتعاني نقص الاستشراف والحيوية، كما يعاني قسمها الباقي، ذو البعد القومي، نقص الصدقية وتضارب الأقوال والأفعال...
إنّنا أمام مشهد تبدو فيه قوى كانت حتى الأمس القريب جامحة وعدوانية، عاجزة عن فرض مشاريعها. وثمة قوى عاجزة عن تأمين الإقناع بمشاريعها، فهي تعاني إذاً الرفض.
أما القوى الثالثة، فهي موزّعة بين قوى تقليدية أو «نيوتقليدية»، تضع قضية السلطة وأولوية الحفاظ عليها في المقدمة، وبكل الوسائل، وقوى جديدة نسبياً تفتقر إلى الفعالية والنشاط والحيوية التي تمكّنها من أن تشق لها طريقاً وتحجز مساحة وتمارس دوراً.
وهذا الفراغ بمعناه العام، وخصوصاً من زاوية الفشل الأميركي في إحكام السيطرة على المنطقة وإعادة تشكيلها بوسائل «الفوضى البناءة» وبأساليب الغزو وبمزاعم الديموقراطية، هو فراغ إيجابي! لكن الأمور ليست بهذه البساطة أيضاً. وهنا بيت القصيد. فالعجز شامل، وهو يطاول أيضاً كما أشرنا، القوى صاحبة مشاريع التغيير ذات الاستهدافات الديموقراطية والساعية إلى تأمين مقومات الحرية والسيادة والاستقلال، لمصلحة شعوب المنطقة وأكثريتها الساحقة، وعلى حساب مصلحة القوى الأجنبية الطامعة من جهة، والقوى المحلية التابعة، من جهة ثانية.
إنّ نقاشاً جديداً وجدياً يجب أن يتناول هذا الأمر، وبأسرع وقت ممكن. ليس يعني ذلك أن هذا الأمر متروك أو منسي أو غير قائم الآن. إننا نتحدث هنا عن تحوُّل انعطافي، على الأقل، في مجرى هذا النقاش. والهدف النهوض بمهمة تاريخية لكي لا يتحول الفراغ القائم الآن إلى وضع قاتل أو مخيف، تملأه مجدداً القوى الاستعمارية أو القوى العبثية، أو القوى المتخلفة والتابعة والقامعة.
* كاتب وسياسي لبناني